شارك المقال
  • تم النسخ

باحث يقدم قراءة في ترتيبات البلاغ الملكي حول استقبال الوفد الأميركي الإسرائيلي

أكاد أقول أنه من خلال قراءة البلاغ الملكي الأخير بعد استقبال الوفد الأمريكي الإسرائيلي، وشكليات الاستقبال ورمزية الصورة، ونوعية الحضور ومواضيع اللقاء، توحي بأن هناك توضيحا تصحيحيا لموقف المغرب الذي عبر عنه الوزير بوريطة عبر قنوات إعلامية إسرائيلية، خصوصا عندما تحدث وأوحى بأن أولوية المغرب هي عودة علاقات دبلوماسية كاملة بما يعنيه ذلك من فتح السفارات.

بل يمكن القول أن البلاغ وترتيب الأولويات والمواقف التي يحملها، كان ذكيا ومتفاعلا مع الرأي المغربي الى حدود معينة مهمة في المزاج العام، ويعتبر تنقيحا دقيقا مفصلا للمحطة السابقة التي أعلن فيها عن الاعتراف الأمريكي بالصحراء المغربية وبإعادة العلاقات مع إسرائيل.

البلاغ يعتبر خطابا سياسيا مهما، يرد على التساؤلات والمخاوف بلغة مضمرة المعاني السياسية، عندما حدد مدخلات ومخرجات التوافق مع إسرائيل ورتب النتائج والإكراهات بشكل ضمني وباستعمال نظام جملة قصير ودقيق.

بداية وعلى مستوى شكليات وبروتوكول استقبال الشخصيات الأمريكية والإسرائيلية المهمة، لم يكن هناك احتفاء كبير أو استقبال من طرف شخصيات سياسية رسمية مغرببة وازنة أو لنقل متكافئة الرتب، فتم الاكتفاء بالمشرف على الإدارة الترابية في شخص الوالي والمنتخب الذي يقع المطار تحت نفوذه الترابي.

كما أن الوفد الأمريكي يمثل إدارة منتهية الولاية ضمنه شخصية مكلفة بالتفاوض الدولي بمعنى تسهيل التفاوض والوساطة لنفهم أنه لاتزال هناك نقط عالقة وتفاصيل لم تحسم بعد. رافقت الوفد شخصية إسرائيلية من أصل مغربي لها طابع أمني تمثل الدولة الإسرائيلية واستمرارها وليس الحكومة المنتخبة الحزبية والخاضعة للمزاج والتقلبات الانتخابية ذات الولاية التدبيرية المحددة زمنيا، الشيء الذي يوحي بأن الاتفاق لن يكون مع كيان حزبي متقلب وإنما مع أركان الدولة كضمانة للاستقرار والدوام. إضافة إلى هذا لم يكن الوفد تقنيا أو قطاعيا بشكل تام بل مؤطر سياسيا وأمنيا ذا عمق استراتيجي، مما يستنتج عنه بأن الرعاية الأمريكية لمستقبل العلاقات المغربية الإسرائيلية مستمرة وهي بمثابة ضمانة دولية للمغرب وشهادة على بنود أي اتفاقات وملجأ تحكيمي في حالة الإخلال بها مستقبلا.

من جانب الصورة الباردة و الخافتة الى حد ما أثناء الاستقبال في المطار التي شاهدناها اليوم، بدون مؤثرات إعلامية أو تضخيم، تؤكد التريث في تنزيل تفاصيل عودة العلاقات مع إسرائيل التي تحدث عنها البلاغ الملكي السابق ،بشكل مقتصد وبدون تفاصيل وإسهاب، ليترك التفاصيل للتطورات المستقبلية.

وعلى مستوى صورة الاستقبال الملكي، تميزت بالتذكير بالانتماء والالتزامات، عبر اللوحة الحائطية التي كانت في المكتب خلف الملك، والتي على مايبدو هي صورة شجرة نسب العلويين إلى آل البيت وإلى الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وما يعنيه ذلك من تمسك بمقدسات الإسلام التي يقتضيها هذا الانتماء الديني أثناء إستقبال شخصيات يهودية.

على مستوى البناء اللغوي والحججي للبلاغ، كان لافتا ربط باقي عناصر البلاغ بمقدمة عن الاتفاق التاريخي الذي وقع أثناء اتصال الملك بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، للتأكيد أن الولايات المتحدة الأمريكية هي ضمانة أي توافق مع إسرائيل دون التنازل عن اللغة المعهودة في دعم القضية الفلسطينية.

كان لافتا أيضا طرح بعض الإكراهات بشكل مضمر عندما تناول البلاغ وضعية ملك المغرب باعتباره رئيسا للجنة القدس، الذي يفترض الحرص على الطابع الإسلامي للقدس، وأيضا التزام المملكة بالاتفاقات والقرارات الدولية السابقة القاضية بحل الدولتين.

وعند الحديث عن شروط وبنود الاتفاق لإعادة العلاقات مع إسرائيل، حددها البلاغ بشكل دقيق وواضح وترتيب حسب الأولويات، وجاءت مرتبة حسب أولويات المغرب.

أولها مسألة ذات بعد انساني واجتماعي واقتصادي، وهي الترخيص لنقل أفراد الجالية اليهودية المغربية والسياح الإسرائيليين إلى المغرب. ثاني هذه التدابير هي استئناف الاتصالات والعلاقات الدبلوماسية والرسمية مع إسرائيل على المستوى المناسب، وهنا يجب التركيز على جملة “على المستوى المناسب”، بمعنى أن الاتفاق ليس شيكا على بياض ويمكن في أي لحظة ظبطه حسب إيقاع الطرف الآخر، ليؤكد بأنه ليس هناك سقف محدد أو إطار واضح لهذه العلاقات الجديدة، وإنما ترك ذلك للتطورات وإلى مدى احترام الالتزامات.

ثالث هذه التدابير هو تشجيع التعاون الاقتصادي الثنائي الدينامي والخلاق، أي ضرورة وجود ضمانة اقتصادية استثمارية حقيقية وملموسة من طرف إسرائيل تخلق مصالح متبادلة يحرص على صيانتها الطرفين، لكونها مقاربة اقتصادية تشاركية قد تخلق سبيلا جديدا نحو السلام الحقيقي وتعود بالنفع على إدماج الشعوب، عكس العلاقات السياسية الرسمية المحصورة بشكل خاص بين هياكل الدول في مستوى القادة والمسؤولين الرسميين.

وفي ذيل هذه التدابير جاءت مسالة العمل من أجل إعادة فتح مكتبي الاتصال في الرباط وتل أبيب، وليس كما روج له الوزير بوريطة حينما تحدث بأننا ذاهبون إلى علاقات ديبلوماسية كاملة وتامة في مستويات كبيرة، لكون هذا الإجراء الديبلوماسي ليس هو المبتغى أو الهدف من وراء الاتفاق، وإنما هو تتمة مسار بناء ثقة وخاتمة علاقات مفروض أنها تجسدت وتوطدت ولمستها الشعوب المعنية في القبول وتشارك الثروات والخبرات لتتوج علاقاتها بالسلام السياسي المأمول.

وفي ختام البلاغ أشار إلى توقيع إعلان مشترك بمعنى إعلان نوايا لا يرقى إلى مستوى اتفاقية أو معاهدة، من أجل خلق الثقة وبحث باقي التفاصيل أي أن طريق التطبيع ليس سهلا وأن هناك شروطا قد تظهر في أي لحظة لكون الاتفاق المبدئي السابق كان عاما ولم يكن مفصلا.

فالخلاصة الأولى تقول أن هناك تفاعلا وترصيدا لمواقف مختلف الفئات المغربية من عودة العلاقات مع إسرائيل، بشكل أعطى مشروعية لتخوفات المغاربة ودفع إلى تدقيق التفاصيل.

الخلاصة الثانية تفترض أن هناك دراسة ثانية متأنية تناولت الموضوع من خلال إعادة طرح مقاربات الماضي في التعامل مع الإسرائيليين، بعد طرحه للنقاش العمومي والشعبي، الذي يفضي إلى كون التعامل معهم سابقا كان سياسيا بشكل محض عن طريق اتفاقيات ومعاهدات لم يحترموها. فالملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله ورغم أنه فتح معهم صفحة التواصل الديبلوماسي الرسمي إلا أنهم لم يلتزموا ببنود الاتفاقات في غياب ضمانة دولية أمريكية حقيقية حاضرة في جميع التفاصيل، إضافة إلى أن المغرب لم يستفد اقتصاديا بعد فتح مكاتب الاتصال مما دفع بالملك الراحل لإعلان قرب السكتة القلبية للمغرب، ثم الدخول في مرحلة الانتقال السياسي مع حكومة التناوب والتوافق مع المعارضة.

الخلاصة الأخيرة تحتمل كون هذا الإتفاق الثلاثي وليس الثنائي هو خطوة جديدة وفق شروط وبنود جديدة وليس إعادة لعلاقات قديمة أو سابقة. وهو اتفاق في طور اختبار النوايا بين كل أطرافه، في انتظار بداية زمن رئاسي جديد في امريكا، وفي انتظار تشكل حكومة إسرائيلية جديدة وفي انتظار ظهور خطوات جادة في إرادة سلام وتعاون حقيقية تتجاوز التصريحات الإسرائيلية، إلى الواقع الملموس، من منطلق التجارب السابقة معهم التي أثبتت أنهم لا يوفون بالعهود إلا نادرا وتحت الضغوط، وهذا ربما ما يميز عناصر مقدمات الاتفاق المغربي مقارنة مع الاتفاقيات التي أبرمتها الدول العربية في المشرق.

*باحث في العلوم السياسية

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي