نشر موقع جامعة أوكسفورد البريطانية قراءة في كتاب الدكتور سعيد الصديقي ”عالم من الجدران: بنية حواجز الفصل ووظائفها وفعاليتها” قام بها الباحث جورج ماتيلا، من جامعة إلينوي في شيكاغو، والذي نوه بمضمون الكتاب وتحليل الكاتب، وكذا بأهمية المؤلف كمرجع بالنسبة لطلاب العلاقات الدولية وغيرهم من الباحثين المهتمين بدراسات الحدود عبر العالم. وفيما يلي ترجمة سريعة لأهم ما جادت به قريحة هذا الباحث من أفكار وملاحظات حول المؤلّف الذي بين أيدينا.
يكشف كتاب ”عالم من الجدران: بنية حواجز الفصل ووظائفها وفعاليتها”، الذي ألفه الدكتور سعيد الصديقي، أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي في جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، عن المفارقة الصارخة التي يعيشها عالم اليوم بين ما يدّعيه من انفتاح وعولمة من جهة وما يشهده في نفس الوقت من تنامي ملحوظ لمراقبة الحدود وعسكرتها من خلال تشييد الأسوار والجدران العازلة وغيرها من التحصينات الأمنية، المادية منها والافتراضية. كما تتمظهر هذه المفارقة أيضا في نوع من التناقض بين نظام الدولة الوطنية وما يتطلبه من حماية السيادة والنظام العالمي القائم على أساس الترابط الشديد وما يستدعيه من تزايد وتكثيف التدفقات العابرة للحدود.
يعالج المؤلف قضايا الحدود الدولية وأنظمة المراقبة المعقدة التي تُستخدم في تحصينها وحمايتها وذلك من منظورين اثنين: المنظور الأول يركز على ما توحي إليه ظاهرة تشييد الجدران الحدودية من تفاوتات بين الدول، بينما المنظور الثاني يدرس مراقبة الحدود في علاقة ذلك بدينامية السوق ونموه. في هذا الاطار، يسلط الكاتب الضوء على طبيعة الحدود الدولية المعاصرة وكيف تساهم سياسات الهجرة والأمن في إعادة تحديد دور الدولة. غير أن الكاتب يُنبّه منذ البداية إلى أن دراسة أنظمة مراقبة الحدود إنما تختلف حسب كل حالة على حدة. وهذا هو الدافع الذي جعل المؤلف يتطرق لخمس حالات مختلفة لظاهرة تسييج الحدود عبر العالم.
يتناول الكاتب في الفصل الأول السياسة التي نهجتها إسرائيل في تسييج حدودها، حيث يذهب إلى أن الجدار الفاصل الذي يعزل 270 ألف فلسطيني داخل الحواجز العسكرية لا يقوم بأي دور أمني بقدر ما يبقى شكل من أشكال العقاب الجماعي على حد تعبيره. وبينما تدعي إسرائيل أن هذا الجدار الحدودي هو مجرد تدبير مؤقت من شأنه التصدي للتهديدات التي تستهدف أمنها القومي، نجدها في الواقع تقوض أية خطوة نحو إرساء خطة للسلام في المنطقة خاصة مع حرصها الدائم على تشييد مستوطنات جديدة. ويخلص الصديقي إلى أن المفارقة في هذا الصدد تكمن في أن إسرائيل قد أخفقت تماما في تحقيق أمنها أو تحسين علاقاتها مع جيرانها، ولم تعمل في الواقع إلا على سجن نفسها داخل الحدود المسيّجة التي شيدتها.
وخُصّص الفصل الثاني من هذا الكتاب لدراسة حدود جنوب شرق آسيا بكل ما تطرحه من تعقيدات، مع التركيز بشكل خاص على واقع السياج الحدودي في الهند التي تقيم مع جيرانها ثلاثة أشكال من الأسوار الحدودية ذات الأبعاد التاريخية والجيوسياسية. الجدار الأول يأتي كرد على النزاعات الحدودية التي خلفتها الحركات المطالبة بالاستقلال على طول باكستان وبنغلاديش. بينما الثاني فله ارتباط بالمنافسة على منطقة الحدود مع الصين كقوة عالمية كبرى. أما هدف تسييج حدودها مع كل من ماينمار وبوتان ونيبال فيتمثل، حسب الهند دائما، في الحفاظ على حدود آمنة ومستقرة خاصة وأن هذه الحدود قد ورثتها عن الاستعمار. وبالرغم من استمرار الهند في ضخ الأموال وغيرها من الامكانيات والموارد في إطار تعزيز سياستها في تسييج الحدود، فإن غياب مقاربة إقليمية شاملة للوضع في المنطقة يحول دون تحقيق الرهانات الأمنية التي من أجلها تمت إقامة هذه التدابير، مثل الحد من الهجرة غير النظامية، والتهريب، وتسوية نزاع كشمير في علاقاتها مع باكستان.
أما الفصل الثالث من الكتاب فيقارب ديناميات الحدود في البحر الأبيض المتوسط من خلال التطرق للسياجات الحدودية في كل من سبتة ومليلة، حيث يرى الصديقي أن السياجات التي شيدت في المدينتين تعكس بوضوح عدم فعالية مثل هذه التدابير في العالم المعاصر، فضلا عن عدم فعالية وظائفها بالمفهوم الجيوسياسي العام. وتعد المدينتين جزءا لا يتجزأ من استراتيجية الاتحاد الأوروبي في مكافحة الهجرة غير النظامية، بالشكل الذي يتيح لأوروبا السيطرة غير المباشرة على هذه المشكلة الأمنية.
إنّ الطرق المختلفة التي تتم بها مراقبة حدود البحر الأبيض المتوسط لها آثار عميقة على اللاجئين وعلى أولئك الذين يحاولون بأي وسيلة ممكنة الوصول إلى الديار الأوروبية. على سبيل المثال، يعرّض النظام المتكامل للمراقبة الخارجية في إسبانيا المهاجرين غير النظاميين لمزيد من المخاطر، خاصة بفعل لجوء الشبكات التي تنشط في تهريب البشر الى التكيف مع تشديد المراقبة عبر استخدام قوارب أكبر تسمى “Pateras”، حيث يضاعف هؤلاء المهربون عدد المهاجرين لكل رحلة بغرض مضاعفة أرباحهم. في هذا السياق ينتقد صاحب الكتاب سياسات الحدود الاسبانية هاته معتبرا إياها حلولا غير عملية ومقترحا، بدلا عنها، تكثيف برامج الدعم والمساعدة للبلدان النامية المصدرة للمهاجرين، على اعتبار أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في هذه البلدان تعد من أبرز الأسباب الثاوية وراء تنامي مد ظاهرة الهجرة غير النظامية.
وفي الفصل الرابع، يتطرق الصديقي للتحول التاريخي للحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، الذي تطور من نظام الحدود المفتوحة Open Borders إلى نظام عسكرة الحدود وأمننة الهجرة في الفترة المعاصرة. ومن الخصائص التي يتميز بها جدار الحدود الأمريكية-المكسيكية أنه ينشر مجموعة من أدوات التكنولوجيا العالية للمراقبة القريبة والبعيدة، ويقيم سياجا افتراضيا ثانيا لمواجهة التهديدات غير التقليدية. وتشير التطورات الأخيرة، مع ذلك، إلى أن الولايات المتحدة لا تحقق من وراء هذا التدابير سوى نجاحا محدودا فقط، الشيء الذي جعلها تسعى الى الضغط على المكسيك لنهج مزيد من التشدد على الهجرة غير النظامية. ولعل هذا الضغط هو الذي أدى لاحقا الى التوصل الى اتفاق مع المكسيك بشأن منع تدفق المهاجرين غير النظاميين وطالبي اللجوء عبر المناطق الحدودية المكسيكية.
ويختتم الكتاب بفصل عن الجدار الحدودي بين المغرب وإقليم الصحراء، والذي يكتسي أهمية خاصة وذلك لسببين اثنين في: أولا لأنه يوضح حدود المفهوم الوستفالي للسيادة في فهم قضية الصحراء وذلك من خلال استحضار الروابط الدينية والزمنية التي كانت تربط بالسلطة المركزية في المغرب بأبعادها العربية والاسلامية. لذلك فإن نزاع الصحراء يقف على طول الخط مع مفاهيم الولاء التقليدية والراسخة التي تتجاوز مفهوم ونموذج الدولة الحديثة. وثانيا لأنه يتضمن مجموعة من التحصينات الحدودية التي تحكمها خطة السلام التي وضعتها بعثة الأمم المتحدة (المينورسو) في المنطقة.
تعتبر ديناميات الهجرة واختراق الحدود من أبرز التحديات التي تقف في وجه الأمن القومي للدول في الوقت الراهن. وعليه، فإن بعض الدول تلجأ إلى تشييد جدران عازلة وتشديد الرقابة على حدودها بهدف مواجهة الهجرة غير النظامية وغيرها من التدفقات غير النظامية. من هنا يكتسي كتاب “عالم من الجدران” أهميته المنهجية والمعرفية لا سيما وأنه يكشف بدقة عالية عن تناقضات العولمة بين دعوتها، من جهة، الى إلغاء الحدود وإزالة الحواجز وبين حرص الدول على بناء أسوار حدودية جديدة في العديد من مناطق العالم من جهة أخرى. وبالفعل فقد تفوّق المؤلف في تقييم الاتجاهات العالمية لمراقبة الحدود، وبدون شك سيكون كتابه هذا دليلا هاما ومفيدا لطلاب الدراسات الدولية المقارنة في جميع الحقول التخصصية.
تعليقات الزوار ( 0 )