شارك المقال
  • تم النسخ

باحثة تونسية تنجز أطروحة دكتوراه حول الأعمال الاستشرافية للمهدي المنجرة

حصلت الطالبة فاطمة القرقوري، على شهادة الدكتوره من كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بجامعة صفاقس التونسيّة، بدرجة مشرّف جدّا، وهي أعلى ملاحظة تُسند إلى الأطروحات في الجامعة التونسيّة تحت عنوان “العرب والمستقبل.. بحث في الاستشراف: قراءة في أعمال المهدي المنجرة”، تحت إشراف الأستاذ الدكتور على الصالح مُولَى، في تخصص الحضارة المعاصرة.

في دواعي البحث وأهدافه

حاولت الباحثة منذ بداية التفكير في الأطروحة النظر في مسائل تشغل الفكر العربيّ وتبحث عن موقع للبحوث الاستشرافيّة في مناهج الدراسات العربيّة وحقولها المعرفيّة ومؤسّساتها الجامعيّة لا سيما أنّ أغلب ما كُتِبَ وما يُكتب عربيّا واقع تحت سلطان الماضي، ومن ثمة وقع اختيارها على البحث في مسألة “العرب والمستقبل”، وهو نظرٌ في مسألة مستجدّة في الدراسات الأكاديميّة العربيّة. ويتعلق بالبحثٌ في سبل الخلاص من أزمة الراهن ومساهمةٌ في بناء السياسات والإستراتيجيّات والرؤى الاستشرافيّة البديلة وانخراطٌ في مسار التطوّر المستقبلي.

وترى الباحثة في أطروحتها أنّ البحوث الاستشرافيّة باتت تمثل ثورةً حقيقيّةً هدفت إلى مساعدةِ صانعي القرارات على تبنّي سياسات الانتقال من دائرة العجز والتبعيّة إلى دائرة الفعل والإنجاز عبر تحويل الظواهر المدروسة إلى مؤشّراتٍ قابلة للقياس أو سيناريوهاتٍ خاضعة لمعايير زمنيّة مضبوطة. ولا شكّ أيضا في أنّ الفكر الغربي، لم يبق حبيس التكهّنات والأساطير والعقائد ذات النزعة التخييليّة، لقد انطلق منذ عقود مديدة في محاولة جادّة وعمليّة لدراسة حقل الممكنات وتقديم المقترحات العلميّة ودراسة مختلف الافتراضات المحتملة لاتّخاذ القرارات والفعل في المستقبل والسيطرة عليه.

وبهذا المعنى نشير إلى أنّ الدراسات المستقبليّة التي تنوّعت حولها التسميات صارت مهارة تُكتسب داخل المدارس المستقبليّة والمناهج العلميّة الدقيقة وأصبحت أساس صناعة القرارات الإستراتيجيّة داخل البلدان المتقدّمة. وإنْ كان الانخراط في البحوث الاستشرافيّة الغربيّة ضرورة حتّمتها العديد من العوامل الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، فإنّ الانغلاق في ذهنيّة الماضي أو الانكفاء على الحاضر سمتان أساسيّتان طبعتا الوعي المجتمعيّ العربيّ.

في هذا السياق النظري والتاريخيّ والإشكاليّ العام، تتنزّل أطروحة فاطمة القرقوري. وتتعلق بالتساؤلات التي تشغل بال المفكرين العرب حول موقع العقل العربيّ من هذا الحقل البحثي الجديد. وفي هذا الصدد توجهت عنايتها لقراءة فكر رائد من روّاد البحث في الدراسات المستقبليّة في التاريخ المعاصر. إنّه المفكّر المغربي المهدي المنجرة الذي انشغل بقراءة الأوضاع العربيّة تحليلا ونقدا وتجاوزا.

وأثبت أنّ امتلاك رؤية مستقبليّة هي مقوّم أساس من مقوّمات بناء إسترتيجيّة حضاريّة مستقبليّة. فكان سبّاقا في تناول مبحث لا يزال جنينيّا في الدراسات الفكريّة العربيّة يتطلّب الكثير من التحقيق والعلم والتأمّل. ولذلك مثّل استثناء بكتابته في المستقبل وخلق فهما جديدا لثقافة الاستشراف. فجاءت مؤلّفاته بمثابة النصوص التدشينيّة التي تدفع الفكر العربيّ المعاصر إلى “خوض معركته الكبرى المؤجّلة: معركة الفوز بالمستقبل.

ويعود اختيار العملَ على مدوّنة المنجرة المستقبليّة، كما ترى صاحبة الأطروحة، إلى ندرة الكتابة العربيّة في حقل المستقبليّات. “إنّها كأنّها جنس من الكتابة لا أصل له ولا شبيه في عالمنا الثقافيّ العامّ والأكاديميّ المختصّ. فالانشداد إلى سلطة التراث في معالجة القضايا المعاصرة هو ديدن الباحثين كلّهم تقريبا أصاليّين كانوا أم حداثيّين. وقد شرّع هذا الفراغ للتفكير جدّيا في الانخراط في هذا المسار البحثي الجديد وتحرير الكتابة من الاشتغال على الأطروحات المنحصرة في الزمن الماضي أو الحاضر تحت أهداف ومقاصد وتبريرات كثيرة” تقول القرقوري.

في الصعوبات وسبل التجاوز

تعلن الباحثة فاطمة القرقوري، في معرض أطروحتها، أنها واجهتها صعوبات كثيرة قبل الإنجاز وأثناءه، وتنتجب اثنتيْن للتمثيل فقط: صعوبة مدارها على طبيعة الموضوع الذي اختارته. فالبعد الإشكالي لهذا البحث جعلها تواجه العديد من القضايا، من قبيل تَعدّدُ مفاهيم الدراسات المستقبليّة وتعدّد مترادفاتها، وتباين الآراء حول تاريخ النشأة، واتّساع الحقول المعرفيّة وتداخلها. ويكفي أن هناك من يعتبرها علما قائما بذاته مثل أوسيب فلختايم(Ossip flechteim)، وثمّة من يعتبرها فنّا من فنون التكهّن مثل برتراند دي جوفنال(Bertrand de Jouvenel)، وثمّة من يصنّفها ضمن “الدراسات البينيّة” متعدّدة الاختصاصات مثل المهدي المنجرة.

وعلى هذا النحو غدا حقل المستقبل مجالا إنسانيّا عابرا للتخصّصات يتطلّب من الباحث اطّلاعا معرفيّا واسعا ومعرفة شموليّة متعدّدة الاختصاصات. ومن الصعوبات المتفرّعة عمّا تقدَّمَ صعوبة التعامل مع مدوّنة الأطروحة ومراجعها مِن جهة استخدام مصطلحات تقنيّة أجنبيّة متخصّصة تتطلّب وقتا كبيرا لفهمها وترجمتها وتوظيفها وتبيئتها خاصّة أنّها تُجاوِر شكبة مصطلحات العلوم الصحيحة وتنهل منها كَنَهْلِها مِنْ معين كثير من منتجات العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة.

وصعوبة مدارها على التعامل مع كتابات المنجرة. فتكوينه الشمولي واتساع معارفه في مختلف المجالات لا يمكن إلاّ أنْ يُصيب باحثا مثْلي بالخوف والتردّد. من هذا المنطلق، يمكن القول إنّ فكر المنجرة المستقبليّ اخترقته ووجّهتْه العديد من المرجعيّات (مرجعيّة فلسفيّة، اقتصاديّة، تاريخيّة، أخلاقيّة، تربويّة، اجتماعيّة…) في طرح القضايا العربيّة ومعالجتها.

ولعلّ شيئا من الانتصار للأحلام العربيّة قاده إلى تحرير كتابات ملأى بالعاطفة حتّى رأينا فيها ما يُشْبِهُ الانزاح إلى إنتاج خطاب ثوريّ ومثاليّ وأخلاقيّ. ولوضع العلامات الفاصلة بين العاطفيّ والعلميّ في كتابات المنجرة المستقبليّة اقتضى الأمر من الباحثة، كما تشير في معرض أطروحتها، جهدا مضاعفا: الإحاطة في مرحلة أولى بخصائص المناهج التي تُعوِّل عليها الدراسات المستقبليّة في قراءة القضايا الكبرى، وفهم المسار العلمي الذي سلكه المنجرة في معظم كتاباته واستجواباته وقراءاته لتبيّن المقاصد والأهداف التي يريد أن يمرّرها إمّا تصريحا أو تلميحا في مرحلة ثانية.

وعلى هذا الأساس، لم تكتف الأطروحة بقراءة مستقبليّات المنجرة قراءة خطيّة تفسيريّة. بل ارتأت أن تحمِّل هذه القراءة أبعادا تأمّليّة فتحليليّة قصد تفكيكها وردّها إلى سياقاتها وإضفاء المعقوليّات التي تقتضيها عليها.
تذهب الباحثة، وبناء على ما تقدّم، بأن القضيّة الأساسَ التي اشتغل بها المنجرة حضاريّة-قيميّة بامتياز. فقد بحث في البدائل وصاغ جملة من التصوّرات الإستراتيجيّة بهدف نشر القيم الإنسانيّة وتحقيق التعايش السلميّ والعمل على بناء مناخ فكريّ ثقافيّ يعمل على تحرير الكتابة والتشجيع على الإبداع الحرّ والإنتاج الفكريّ.

وتوخت الأطروحة طرحَ أكثر ما يمكن من الأسئلة التي شغلت الفكر العربيّ، تلك التي كان مدارها على البحث عن سبل رسم مسارات المستقبل. وساقت النتائج التي استخلصتها من قراءة كتابات المنجرة في الاستشراف والإستراتيجيا إلى استنتاج اعتبرته مركزّيا مُلخّصُه أنّ الانخراط في مجال البحوث الاستشرافيّة هو انخراط في دائرة الفعل الإيجابي وانتقال من دائرة الهامش إلى دائرة المركز. وهكذا تعتبر الباحثة أنّ مشروع المنجرة المستقبليّ يُفضي إلى ضمان الانفتاح الإيجابي مع الآخر لا بعقليّة التقليد ولكن بعقليّة البناء والإبداع والابتكار.

وقد أنتج هذا الطرحُ جملة من البدائل والمقترحات التي اعتبرها المنجرة أفقا لا غنى عنه بالنسبة إلى العرب. ومنها: التدبير الإستراتيجي، والديمقراطيّة، وحريّة التعبير، وحريّة الإرادة، وتثمين العلم والمعرفة، ومحاربة الأميّة، والمشاركة، وامتلاك رؤية بعيدة المدى للوصول إلى الأهداف المرتقبة.

ولا شكّ في أنّ امتلاك رؤية مستقبليّة، كما يرى المنجرة، يقود إلى فتح ملفّات جديدة في العلاقات الدوليّة يكون فيها الحوار بديلا عن الصراع وتطرح فيها برامج تربويّة عالميّة من أجل تحالف جديد يبدّد الصور النمطيّة التي سادت العقول وشوّهت خصوصيّة الانتماء دينًا وثقافةً ولغةً وعمّقت نزعة الكراهيّة بين “العرب” و”الآخر.

أطروحة المنجرة في الاستشراف: قراءة في الحدود والآفاق

لم يكن انخراط المنجرة في البحوث الاستشرافيّة من باب التخصّص الجامعي أو البحثي الأكاديميّ المدرسيّ. كان هدفه أسمى من ذلك: تأصيل الدراسات المستقبليّة في البيئة الثقافيّة والعلميّة العربيّة والبحث في سبل إدراج هذه المباحث في مسالك الدراسات العربيّة والتخصّص في مناهجها العلميّة وتوسيع أفق التفكير فيها إعداد وتخطيطا وإنجازا.

ولمّا كان المنجرة يفتقر وهو يُعِدُّ بحوثه الاستشرافيّة إلى فريق عمل مختصّ في الدراسات المستقبليّة، جاء خطابه في مجمله طموحا وإيجابيّا ولكنّه لمْ يتكّمنْ، لأسباب موضوعيّة، مِن بناء معرفة عموميّة أو مدرسة تُصْنَع فيها عقول جديدة لأداء مهمّات غير تقليديّة. ما رأيناه في مساحات غير قليلة من كتاباته هو عدمُ القدرة على الخروج بالقيم التي يبشّرُ بها من حيّز الخطابات الثوريّة المثاليّة إلى حيّز المأسسة وتطبيق آليّات العمل الاستشرافي وتنفيذ البرامج المتّسمة بالوضوح والدقّة والفاعليّة.

وفي ضوء ما توصّلت إليه الباحثة فاطمة القرقوري من نتائج، اقترحت توسيع أفق البحوث الأكاديميّة في الجامعات العربيّة حتّى تدخُل في دائرتها الكتابةُ في الاستشراف وذلك بإعداد أطروحات متمحّضة للمستقبل.
ومِنْ ما اقترحْت في هذا الصدد تأسيس مخابر علميّة صلب الجامعات العربيّة تُعنى بدراسة هذا الحقل المعرفيّ الجديد وتعمل على تكوين فريق عمل متخصّص في دراسة المستقبل بوصفه مناهج وأدوات وتقنيّات علميّة قادرة على رسم التمشيات الاستشرافيّة من قبيل: تفعيل العمل بتقنية دلفي التي تعتمد على حدس مجموعة من الخبراء بدرجة كبيرة من الصدق والموضوعيّة والدقّة.

وهي تقوم على الملاحظة والمراقبة من خلال تصميم “الاستبيان” ليتمكّن الخبراء من توسيع الإجابات المقترحة وتطوير الأفكار وانتقاء أفضل الحلول بشكل علميّ دقيق والعمل على تحقيقها فعليّا في المدى الزمنىّ القريب أو المتوسّط أو البعيد.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي