المساءُ غائمٌ قبيلَ الغروبِ. حافلاتُ النقلِ تأتي تباعاً بدون نهاية في موقف “عرصة المعاش”. الحواجزُ موضوعة عند مدخل كل حديقةٍ، اتباعاً لمبدأ الطوارئ الصحية. روائحُ الأحصنةِ في الممر الرابطِ بين جامع الفنا والكتبية. صومعةُ المسجد تخفي آثار الشمس المحجوبة خلف الغيوم.
الناسُ يستغلون كراسي انتظار الحافلات للجلوس، لربما أنهكهم المشي. باعةُ التبغ في كراسي موضوعة على جنبات الطريق. مررتُ بركن شبه خالٍ لأختصر الطريق، فبدت لي امرأة أربعينية تحذقُ بغرابة على بعد مترات. أطالت النظر وكأنها تحدثني بعينيها. شككتُ في أمرها، وأتممت الخطوات حتى اقتربتُ فابتسمتْ لي، وقالت “عافاك واش عندك شي كارو”، أجبتها بالنفي وأبدت استحساناً لتبادل أطراف الحديث.
رَفضتْ الإفصاح عن إسمها، لا غرابة فهي تشك في أمري، لأن الحس الصحفي يغلبُ قبل أن أفصح عن هويتي. “شتك كتسول بزاف واش نتا بوليسي”، هكذا سألتني وهي تنظرُ إليّ من الأسفل بعينيها الخضراوين، لأنها جالسة.
“نحنُ أكثرُ المتضررين!”
تأكدت من هويتها بأنها مهنية جنسٍ تجلسُ بنفس المكان لتغري أي شخص يمر بالأرجاء. إنها فقط تريد زبوناً بدون شروط، المهم أن تشتغل، كما تقول.
تتحدث وكأنها تعتبر عملها شرعياً، “راني تضريت بزاف فهاد الفترة، وليت شي مرات مكنلقا مناكل”.
وأكدت لها أنها تقوم بعمل لامقبول لا أخلاقياً ولا قانونياً، وأنها تعرض مراكش هي ومثيلاتها لبؤر شبه عائلية أخرى، تزيد المشكل عمقاً.
ضحكتْ وقالت إن الكل أصبح خائفاً منهن ومن المرض، ولكنها مع ذلك لازالت تحاول لاستدراج أي كان وألاّ يأس بالنسبة إليها ها هنا.
وقالت مريم هربوز الطالبة بالمعهد العالي للإعلام والاتصال، والتي لطالما اهتمّت بقضايا مماثلة، “إن هؤلاء النسوة في حاجة إلى حماية قانونية ومجتمعية، للخروج من هذه الوضعية، والبحث عن منافذ تضمن لهم الكرامة والعيش بعفة، مستنكرة بشدة لجوءهن إلى بيع الجنس في هذه الظروف العصيبة، التي قد تعرقل عمل السلطات المختصة وتزيد الوضع الوبائي تأزيماً.”
الوقايةُ في خبر كان…
تتحفظُ وهي تتحدثُ، تحاول أن تغيّر دفة الحديث. تجاعيدها أبدت ارتباكاً وعدم الارتياح، لمّا سألتها عن شروط الوقاية الصحية في زمن الكورونا، والجدوى من العمل أصلاً.
“مكاين لا كمامة لا والو، أنا دابا ومادايراهاش”، تتكلم بتردد مبتسمةً وكأن المسألة في غاية البساطة.
وبوجهٍ رافض ومستنكر، يتهجّم أيوب البالغ من العمر ما يقرب الثلاثين، على عاملات الجنس اللائي تستسهلن هذا الوضع الكارثي، ويطالب ببعصبية واضحة بضرورة تشديد الخناق عليهن، من طرف الأمن والسلطة خصوصا في هذه الظرفية، “راه هادشي هو لي غادي يخرج علينا، وراه دارها هادي أشهر بسباب وحدة”.
وقال في نهاية حديثه بغضب عارم “شفتي هادو تزيد معاهم شويا يقولو ليك بغينا نصيبنا من صندوق كورونا”.
خياران أحلاهما مرّ
وقال عبد الناصر الكواي، الصحافي بجريدة العلم، الذي سبق واشتغل على مواضيع مهنيات الجنس، إن “الزبون الآن هناك في مراكش وفي أماكن أخرى لازال فيها نشاط محترفات الجنس مستمر، يوضعُ أمامَ خيارانِ أحلاهما مرّ. “بمعنى أنه يختار بين تفريغ نزواته ومكبوتاته في جو مليء بالخطورة والمجازفة، وبين التعفف للحفاظ على السلامة والصحة العامة واتباعِ شُروط الطوارئ الصحيةِ”.
وزاد الكواي باستغرابٍ، كيف يعقل أن يعمل هؤلاء النسوة في ظل الحصار الأمني، مشيراً إلى ضرورة ربط الجأش من طرف جميع الأطراف حتى لا نوقع البلد في مأزق وبائي جديد وظهور بؤر أخرى.
وقال المتحدثُ بصوت مستهجن لما يحدثُ إن على هؤلاء النساء الابتعاد قدر الإمكان عن هذا العمل، سيما في هذه الظرفية، وألح بأن يبحثن عن عمل آخر لسد الخصاص، بطريقة شرعية وسليمة من حيث اتباع التدابير الموضوعة من لدن وزارة الصحة. و”هذا خيارٌ حُلو”، ضاحكاً ليكسر الطعم الرسمي في التصريح.
تعليقات الزوار ( 0 )