قرر ترامب مرة أخرى الخميس 21 ماي 2020 وضع اتفاق آخر متعدد الأطراف للحد من انتشار الأسلحة تحت رحمة السكين، وهذه المرة اتفاق تعود فكرته إلى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، حيث قدمه الرئيس “دوايت ديفيد أيزنهاور” لأول مرة في صيف عام 1955، ورفضه رئيس الوزراء السوفييتي آنذاك “نيكيتا سيرغيفيش خروتشوف” ليتم توقيعه عام 1992، وليدخل حيز التنفيذ حتى عام 2002، وقد سمي باتفاقية السماوات المفتوحة أو الأجواء المفتوحة (Treaty on Open Skies).
لم تكن هذه الاتفاقية الأولى التي ينسحب منها الرئيس ترامب، بل هي ثالث اتفاقية يقرر سحب بلاده منها منذ وصوله إلى السلطة، فقبل عامين تخلى عن الاتفاق النووية الإيراني الذي تفاوض عليه الرئيس “باراك أوباما”، كما غادر العام الماضي معاهدة القوى النووية متوسطة المدى (Intermediate-Range Nuclear Forces Treaty).
إن انسحاب ترامب من الاتفاقية الأخيرة – اتفاقية الأجواء المفتوحة – لَيَطرحُ معه الكثير من التساؤلات المتمحورة حول دوافع وتداعيات هذا الانسحاب، ومنها التساؤل عن المبررات المعلنة والخفية من هذا الانسحاب؟ ومن المستهدف من هذا الانسحاب؟ وهل يشكل ذلك تقويضا للبنية العالمية للحد من التسلح؟ وما إن كان هذا الانسحاب يمهد لخروج آخر من اتفاقية ستارت الجديدة لسنة 2010 ومحاولة وفرض نظام اتفاقي جديد؟.
وفي محاولة الإجابة عن التساؤلات السابقة ارتأينا التطرق للنقاط التالية:
أولا: أهداف ومضمون اتفاقية الأجواء المفتوحة
كما سبقت الإشارة فقد تم التفاوض على هذه الاتفاقية قبل ثلاثة عقود، وذلك للسماح للدول بالتحليق فوق أراضي بعضها البعض مع أجهزة استشعار دقيقة للتأكد من أنهم لا يستعدون للعمل العسكري، حيث كانت الفكرة هي التقليل من فرص الحرب العرضية؛ من خلال جعل تحركات القوات ووضع صواريخ وأسلحة جديدة مسألة واضحة، وهي بذلك تعمل على بناء الثقة المتعلقة بالنوايا العسكرية.
وقد قال جون تيرني (John F . Tierney)وهو ممثل ديمقراطي سابق من ماساتشوستس والمدير التنفيذي لمركز مراقبة التسلح ومنع الانتشار “إن الشفافية التي توفرها ساعدت في منع سوء التقدير وسوء الفهم الذي كان من الممكن أن يؤدي إلى الصراع”.
وتسمح الاتفاقية لجيش دولة منضوية فيها – بغض النظر عن حجم الدولة المشاركة – بتنفيذ عدد محدد من رحلات الاستطلاع غير المسلحة كل سنة فوق دولة أخرى، وجمع المعلومات عن القوات العسكرية والأنشطة التي تهمها، مع إبلاغها بالأمر قبل وقت قصير من الجولة.
تغطي تنظيمات الأجواء المفتوحة الأراضي التي تمارس عليها الدول الأطراف سيادتها، وتشمل البر الرئيسي، والجزر، والمياه الداخلية والإقليمية، وتنص المعاهدة على أن أراضي الدولة العضو بأكملها مفتوحة للمراقبة، ولا يجوز تقييد رحلات المراقبة لأسباب تتعلق بالأمن القومي.
رغم ما قد تبدو عليه الاتفاقية من أهمية في إذكاء نوع من الثقة والشفافية بين أعضائها، إلا أن الرئيس الأمريكي قرر سحب بلاده منها، بسبب معلن وهو انتهاك الجانب الروسي لها.
ثانيا: قراءة في أسباب وخلفيات الانسحاب الأمريكي من الاتفاقية
يأتي انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية حسب الرئيس ترامب ردا على الخروقات الروسية المتكررة لشروط المعاهدة، حيث تجعل –روسيا – من المستحيل على الولايات المتحدة الأمريكية إرسال رحلات جوية استطلاعية فوق كالينينغراد والتي يُعتقد أنها تُنشر فيها أسلحة نووية يمكن أن تصل إلى أوروبا، بالإضافة إلى حظر الرحلات الاستطلاعية فوق الحدود الروسية-الجورجية، وكذا المناورات العسكرية الروسية الكبرى.
وعلق الأمين العام لحلف الناتو ” ينس ستولتنبرغ Jens Stoltenberg “على قرار الانسحاب الذي سيكون رسميا بعد مرور 6 أشهر من الآن حسب نص الاتفاقية، بالقول “إن روسيا لسنوات عديدة فرضت قيودا على الطيران تتعارض مع المعاهدة، بما في ذلك قيود الطيران فوق كالينينغراد، وتقييد الرحلات الجوية في روسيا بالقرب من حدودها مع جورجيا”، وقال في بيان بعد اجتماع السفراء في التحالف ومقره بروكسيل بأن التنفيذ الانتقائي المستمر لروسيا قوض معاهدة الأجواء المفتوحة.
ويشير المسؤولون الأمريكيون حسب صحيفة نيويورك تايمز أيضا أن الرئيس ترامب كان غاضبا من رحلة روسية مباشرة فوق منطقة بيدمينستر نيوجرسي عام 2017، وفي تقارير سرية زعم البنتاغون ووكالات المخابرات الأمريكية أن الروس يستخدمون أيضا رحلات جوية فوق الولايات المتحدة لرسم البنية التحتية الأمريكية الحرجة، التي يمكن أن تتعرض لها الأسلحة التقليدية أو الهجمات الإلكترونية.
وقال “ويليام ر. إيفانينا William R. Evanina”، مدير المركز الوطني لمكافحة التجسس والأمن بأن المسوحات التي أجريت على مثل هذه الأهداف المدنية “تشكل خطراً غير مقبول على أمننا القومي”.
لكن وبالنظر إلى نصوص المعاهدة موضوع الدراسة، نلاحظ أن روسيا استفادت من بعد بنود المادة الثامنة في الاتفاقية التي تنص على الحد من عمليات المراقبة التي تمارسها الدول الأعضاء، وقد فعلت هذا البند مرارا للحد من طلبات المراقبة على منطقة كالينينغراد التي تمارس فيها موسكو أنشطة عسكرية تثير مخاوف الدول الغربية، كما أن المسوحات المشار إليها – التي قامت بها روسيا فوق نيوجرسي -لم تكن محظورة بموجب المعاهدة، وبأن معظم المعلومات متاحة الآن للجمهور على Google Earth، بحيث يمكن الاطلاع عليها في أي وقت، الشيء الذي يدعو إلى التساؤل عن الخلفيات الأخرى أو الحقيقية وراء هذا الانسحاب.
يرى البروفيسور كارلو بيلاندا حسب مجلة فورميكي الإيطالية أن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت تعتبر الصين عدوها الأول وليس روسيا كما كان في السابق، وهذا يؤكد ما قلناه في مقال سابق حول حرب باردة جديدة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، فالأخيرة ستحاول التحرر من قيود اتفاقيات الحد من التسلح التي وقعتها في مواجهتها مع بكين.
وقد يضع ذلك اتفاقية ستارت الجديدة لعام 2010 – التي تفرض القيود المتبقية الأخيرة على نشر الولايات المتحدة وروسيا للأسلحة النووية والإستراتيجية إلى ما لا يزيد عن 1550 لكل منهما- على المحك، حيث سينتهي الاتفاق في فبراير من السنة المقبلة، وقد ينظر إلى الانسحاب من اتفاقية الأجواء المفتوحة على أنه دليل إضافي للخروج من معاهدة ستارت.
وقد سبق للرئيس ترامب أن دعا الصين للانضمام لاتفاقيات الحد من التسلح، إذ تعتقد –أمريكا- أن الصين عملت بقوة على تعزيز قدراتها الصاروخية والنووية في السنوات الأخيرة، مما أدى إلى تزايد ترسانتها النووية، كما سبق لمجموعة من الخبراء في “غلوبال تايمز” – صحيفة الحزب الشيوعي الصيني) اقتراح الرفع من الترسانة النووية إلى آلاف الرؤوس.
إن الانسحاب الأمريكي من معاهدة الصورايخ النووية متوسطة المدى، واتفاقية الأجواء المفتوحة، وربما من معاهدة ستارت الجديدة، قد تكون خطة أمريكية متفق عليها جيدا لإنهاء معاهدات الحد من التسلح للتكيف مع متطلبات مواجهة الصين، وربما البدء في مرحلة جديدة من المفاوضات تكون الصين فيها طرفا ثالثا.
مثل هذه الانسحابات من اتفاقيات عُدَّت لوقت قريب من أهم الانجازات التي حُققت في مسلسل طويل من الحد من التسلح، لا شك لها آثار وتداعيات مختلفة.
ثالثا: تداعيات الانسحاب الأمريكي من اتفاقية الأجواء المفتوحة
أعرب المتحدث باسم الأمين العالم للأمم المتحدة “ستيفان دوجاريك Stéphane Dujarric ” عن قلق الأمم المنظمة الدولية من تآكل نظام الحد من التسلح بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث أن تعطيل الاتفاقيات كاتفاقية الأجواء المفتوحة من شأنه أن يؤدي إلى سباق تسلح جديد، كما حذر المبعوث الصيني بالأمم المتحدة الجمعة 22 ماي 2020 من أن الحد من التسلح ونزع السلاح على المستوى الدولي يمر في الوقت الراهن بمفترق طرق هام للغاية، تواجهه فيه العديد من التحديات الكبيرة، وزاد بأن النزعة “الانسحابية” لدى الولايات المتحدة الأمريكية آخذة في التفشي، مشيرا إلى أنه مع انسحاب أمريكا من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، ومع إحاطة الشكوك بمستقبل معاهدة “ستارت” الجديدة، فإن الوضع الأمني هكذا يظل محاطا بشكوك غير مسبوقة.
وتبقى اتفاقية الأجواء المفتوحة معاهدة صغيرة نسبيا، بينما تبقى القضية الأكبر هي مصير ستارت الجديدة، ولأكثر من عام قال ترامب أنه لن يجدد معاهدة ستارت، التي تفاوض عليها الرئيس أوباما في عام 2010، ما لم تنضم الصين أيضا، وترفض الصين ذلك بقوة، بل ومن غير الواضح كيف يمكن لذلك أن يحدث حتى لو وافقت الصين على دخول المعاهدة، فمع وجود 1550 سلاح نووي منتشر لكل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، لن تكونا على استعداد لخفض ترساناتهما إلى 300 أو نحو ذلك، التي تمتلكها الصين، ويبدو أن السماح للصين بالبناء على المستويين الأمريكي والروسي يهزم الغرض من الحد من التسلح.
أما القول بأنه ليس من الضروري أن تمتلك جميع القوى النووية نفس العدد من الأسلحة النووية، وأن الصين ستوافق عن طيب خاطر على ترسانة صغيرة، خاصة في لحظة توتر كبير مع الولايات المتحدة الأمريكية تبدو صعبة التخيل وغير واقعية البتة.
وقد شكل قرار انسحاب ترامب من الاتفاقية صدمة غير سارة لحلفائه الأوروبيين في منظمة حلف شمال الأطلسي، الذين وقعوا أيضا على الاتفاقية، حيث أبلغوا الولايات المتحدة يوم الجمعة 22 ماي 2020 أنهم غير مرتاحين بشأن خطتها للانسحاب من معاهدة الأجواء المفتوحة، كما أنه من المرجح أن يظلوا في الاتفاقية مع تحذيرهم من أنه مع خروج واشنطن قد ترد روسيا من خلال قطع رحلاتهم أيضا، الشيء الذي يضعف الأمن الأوروبي في وقت يحتفظ فيه الانفصاليون المدعومون من روسيا بأجزاء من أوكرانيا وجورجيا.
و كانت الدول الأوروبية تؤمن بأهمية الرحلات الجوية الاستطلاعية التي كانت تقوم بها كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والقوى الأصغر في سماء روسيا، وتعتبرها بمثابة تواصل مستمر مع روسيا، حتى إذا كانت موسكو قد عطلت بشكل متزايد خطط الطيران، والتي تبدو – كما وضحنا سابقا – مسموح بها بموجب المعاهدة.
وقد اتهمت روسيا الولايات المتحدة بزرع الشقاق بين حلفائها بعد إعلان واشنطن نيتها الانسحاب من اتفاقية الأجواء المفتوحة، وقال نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف إن “الولايات المتحدة تزرع الشقاق وعدم اليقين بين حلفائها بقرارات كتلك. إنها تتجاهل آراء أعضاء كثر آخرين في حلف شمال الأطلسي ودول أخرى موقعة على هذه الاتفاقية”.
انتقل النقاش حول خطوة الرئيس ترامب الانسحاب من اتفاقية الأجواء المفتوحة إلى الداخل الأمريكي؛ فقد خلق الانسحاب من الاتفاقية إلى جانب الاتفاقيتين السابقتين – الاتفاق النووي مع إيران ومعاهدة القوى النووية متوسطة المدى – نقاشا كبيرا، حيث علق أنتوني ج. بلنكن – كبير مستشاري السياسة الخارجية لـــجو بايدن Joe Biden المرشح الديمقراطي المفترض للرئاسة – بأنه سيكون مع البقاء في اتفاقية الأجواء المفتوحة.
ووصف رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب النائب إليوت إنجل خطوة ترامب بأنها غير قانونية، مشيرا إلى أن قانون تفويض الدفاع الوطني لعام 2019 يتطلب من الرئيس إخطار الكونغرس قبل 120 يومًا من بدء عملية الانسحاب، وقال رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأمريكي، عضو الحزب الديمقراطي آدم سميث إن قرار انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الأجواء المفتوحة، التي اتخذته إدارة الرئيس ترامب دون موافقة الكونغرس، يشكل خطرا على القوات الأمريكية في أوروبا.
وحسب سبوتنيك فقد جاء في بيان رئيس لجنة القوات المسلحة، والذي نشر على موقعها “قرار الإدارة بانسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الأجواء المفتوحة هو بمثابة صفعة في وجه حلفائنا في أوروبا، ويعرض للخطر قواتنا المنتشرة في المنطقة، وهو انتهاك صارخ للقانون، هذا القرار يضعف الأمن القومي ويعزل الولايات المتحدة، حيث ستستمر المعاهدة بدوننا، ويحرمنا من أداة مفيدة للسيطرة على تصرفات روسيا”.
ختاما يبقى مسلسل الانسحاب الأمريكي من اتفاقيات الحد من التسلح مستمرا وقد يكتمل بانسحابها من اتفاقية ستارت الجديدة، وعدم تجديد الاتفاق في فبراير من العام المقبل، كما تبقى الصين انطلاقا من عديد المعطيات وأوجه التوتر/التشنج في العلاقة بين البلدين المستهدف المحتمل من النزعة الانسحابية للولايات المتحدة الأمريكية، مما يدفعنا للتساؤل حول مستقبل هذه العلاقة في ظل هكذا أوضاع؟ وكذا حول مستقبل نظام الحد من التسلح إذا ما انسحبت فعلا الولايات المتحدة الأمريكية من ستارت الجديدة في مطلع العام المقبل؟.
تعليقات الزوار ( 0 )