في عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران يتطلع رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو لاصطياد عدة عصافير بضربة واحدة تتجاوز حسابات الحرب المتوحشة على غزة المستمرة منذ عشرة شهور.
منذ أن ثار غبار عمليتي الاغتيال في بيروت وطهران، بدا يتضح أن موقف نتنياهو لا يختلف عن موقف الحكومة، والمؤسّسة الأمنية وأغلبية الإسرائيليين (وفق الاستطلاعات) الذين ما زالت شهوة الانتقام لديهم مفتوحة ويعتقدون كما يعتقد نتنياهو أن الاغتيالات ترمّم هيبة إسرائيل وتداوي هيبتها الجريحة وتردع الأعداء عن القيام بالمزيد من العمليات المعادية.
بيد أن هذا قسم من حسابات نتنياهو الذي كان يدرك أيضا أن مثل هذا الاغتيال سيدفع إسرائيل والمنطقة لحالة توتّر تجعل من الصفقة حاجة ثانوية وغير ملحّة. وهذا ينسجم مع نواياه ومخططاته الأولى برفض إتمام صفقة لحسابات متنوعة لا تنحصر فقط بالبقاء في السلطة، بل أبرزها الرغبة بإطالة أمد الحرب طمعا بانتصار أو صورة انتصار تصحّح صورة إسرائيل وصورته المتشظية بعد “طوفان الأقصى”.
استدراج أمريكا لضرب إيران
إلا أن نتنياهو صاحب التجربة الطويلة وهو رئيس حكومة سادسة منذ صعد للحكم في 1996، يدرك أن اغتيال هنية في قلب طهران عملية خطيرة جدا ولعب بالنار ينذر بحريق كبير بسبب هوية المستهدف، وهو ضيف الجمهورية الإيرانية، وأيضا بسبب مكان الجريمة وسياقها وتزامنها بعد ساعات من اغتيال قائد بحزب الله في قلب بيروت.
نتنياهو كان يعلم أن إيران سترد بعد اغتيال هنية في طهران وليس حزب الله فحسب بعد اغتيال فؤاد شكر في بيروت، مما يعني صبّ الزيت على النار، والدخول في منطقة الخطر المرشحة للانزلاق السريع إلى حرب. ولذا من غير المستبعد أنه يسعى بذلك لاستدراج الولايات المتحدة لتوجيه ضربات مدمّرة لإيران، بما يمنحه فرصة ذهبية نادرة للإفلات من قفص الاتهام ومن الحساب الإسرائيلي العسير الذي ينتظره، وبالتالي البقاء في التاريخ وفي سدة الحكم.
انعكست نوايا وأطماع نتنياهو هذه في خطابه أمام الكونغرس وهو يشير إلى أن عدو أمريكا الأكبر هو إيران التي ذكرها في خطابه 27 مرة. نتنياهو الخبير بالشؤون الأمريكية، يدرك أن عدو الولايات المتحدة بالنسبة للأمريكيين هي الصين وليست إيران، ولذا اجتهد في مسعاه لتغيير قناعتهم ودفعهم لتأييد فكرة مهاجمة إيران التي طالما حلم بها، مستخدما خطابا شعبويا تحريضيا قال فيه إن إيران تقود المعسكر الذي يهدّد الغرب، وإن إسرائيل تدافع عن الولايات المتحدة، وجنودها يموتون في سبيل هذه الغاية.
تساؤلات إسرائيلية
منذ عدة أيام، تتزايد التساؤلات عن دوافع وجدوى وتوقيت الاغتيالات طالما أنها تبقى وجبة أكسجين معنوية وتلبية لشهوة انتقام القبيلة الإسرائيلية، ودون وجود استراتيجية تحّدد الأهداف والمصالح الحقيقية لإسرائيل وترسم الطريق لتحقيقها، وتغيّر الواقع وتعيد المحتجزين والنازحين وتوقف النزيف الأمني والاقتصادي والدبلوماسي، وتوقف حالة التوتّر التي تعمّق الخوف في نفوس الإسرائيليين في ظل حرب هي الأطول منذ قيام دولتهم غداة النكبة عام 1948.
ويوما بعد يوم، تتزايد التساؤلات حول جدوى الاغتيالات التي تدمنها إسرائيل منذ عقود، خاصة أن اغتيال قائد لدى العدو لا يعني وقف المقاومة، وأن النجاح التكتيكي ليس بديلا لاستراتيجية عمل، وأن “قوة الردع” هي عطر جميل استنشاقه لكنه يتبدد بعد ساعات وهي كثبان رملية متحركة ومن شأن ضربة ثأرية الآن إعادة إسرائيل للمربع الأول.
يظهر استطلاع واسع للقناة 12 العبرية، أن نحو ثلثي الإسرائيليين يؤيدّون الاغتيالات. لكن عددا متزايدا من المراقبين يتساءلون اليوم عن نتائجها وتبعاتها.
يعبّر عن ذلك المحلل السياسي الإسرائيلي البارز ناحوم بارنياع في صحيفة “يديعوت أحرونوت” اليوم الأحد، بالقول إن إسرائيل انتقلت من إدارة المخاطر لإدارة المغامرات: “في حال وقعت كارثة مجدل شمس ثانية في تل أبيب أو حيفا، سيكون من الصعب منع التدهور إلى حرب إقليمية”.
في المقابل، يشير بارنياع في تلميح لعدم صحة رهانات ومآرب نتنياهو، بالقول إن الولايات المتحدة سلمت مع حقيقة أن إيران باتت دولة على حافة النووي.
ويتوقع زميله في الصحيفة، المحلل لشؤون الأمن والدبلوماسية شيمعون شيفر، ضغطا أمريكيا على نتنياهو من أجل إتمام الصفقة مقابل دعم إسرائيل مجددا في مواجهة إيران وحزب الله، والهجمات المرتقبة عليها كما فعلت في المرة السابقة.
ضرب احتمالات الصفقة
يتفق عدد كبير من المراقبين والمسؤولين المعارضين الإسرائيليين، بأن صفقة التبادل التي بدت وشيكة، باتت بعيدة الآن بسبب التوتر المتصاعد نتيجة الاغتيالين، ونتيجة عناد نتنياهو.
وعن ذلك يقول الوزير السابق في مجلس الحرب المصغر، غادي آيزنكوت، إنه كان شاهدا على مساعي نتنياهو تعطيل الصفقة منذ البدايات.
وقال آيزنكوت أيضا إن “الاغتيالات مهمة وكنت شريكا فيها، لكن نتنياهو في أيديولجيته يخدم يحيى السنوار في إشعال حرب طويلة متعددة الساحات”. وردا على سؤال آخر، أكد آيزنكوت أن حالة الانتظار الراهنة أمر غير عقلاني، واتهّم نتنياهو بالمس بقوة ردع إسرائيل أمام أعدائها، معتبرا أن “وحدتنا وحلفنا مع أمريكا هي قوة الردع الحقيقية، واليوم نجد أنفسنا أمام سوار نار يحيط بنا وننتظر الضربة المضادة”.
ضربة استباقية
هل كنت تذهب لعملية مانعة استباقية؟ على هذا السؤال اكتفى آيزنكوت بالقول: “في أيار 2018، اكتشفنا نوايا إيران لمهاجمتنا من سوريا فأحبطناها. فأنا قلق من حرب استنزاف طويلة مكلفة كما حصل بعد 1967”.
ويقول المحلل السياسي في القناة 13 العبرية رافيف دروكر، إن الصفقة لن تكون مطروحة فعليا لأن الكل مشغول بالرد وربما الرد على الرد. وهذا ما تؤكدّه المؤسسة الأمنية التي تنقل عن مصادر فيها قولها لوسائل إعلام عبرية، إن نتنياهو يضع العصي في دواليب مساعي الصفقة.
وفي هذا المضمار، ينقل مراسل الشؤون الاستخباراتية في “يديعوت أحرونوت” و”نيويورك تايمز” رونين بيرغمان، عن مصدر أمني إسرائيلي رفيع قوله إن نتنياهو مصمم على رأيه ضد الصفقة، وإنه لا يوجد هدف بالسفر للقاهرة والدوحة. والآن هناك ذريعة لدى نتنياهو مفادها الانشغال بإيران وحزب الله.
وتبعه المحلّل العسكري في صحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل، الذي يؤكد أن رؤساء المؤسسة الأمنية يقدرّون أن نتنياهو غير معني بصفقة. وفي هذا السياق، يتطرق المحلل الإسرائيلي المذكور شيمعون شيفر إلى حالة الانتظار: “منذ عشرات السنوات أقوم بتغطية المجال السياسي الأمني ولا أذكر وضعا كهذا: دولة تنتظر تلقي ضربات صاروخية ولا تفعل شيئا، ويوما ما ستعالج لجنة التحقيق الرسمية ذلك. والسؤال هل أخذ نتنياهو بالحسبان تبعات الاغتيالين في بيروت وطهران؟”.
عصابات إجرام عريبة
في سياق متصل، تكشف صحيفة “هآرتس” أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أنذرت الوزراء باحتمال استعانة إيران وحلفائها بعصابات إجرام عربية في إسرائيل لتنفيذ عمليات إرهابية.
وتضيف نقلا عن مصادر أمنية: “شهدنا مثل هذه المحاولات في الماضي وأحيانا دون معرفة المجرمين بأنهم عمليا يقومون بذلك… عصابات الإجرام تشكل تهديدا استراتيجيا على الأمن القومي. هكذا قيل للوزراء ضمن الإنذار، والدولة موجودة على حافة نقطة اللاعودة من ناحية قدرتها على مواجهة الظاهرة”.
حاليا، تتواصل الاستعدادات العسكرية والأمنية واللوجستية والاجتماعية في إسرائيل ضمن حالة انتظار وترقّب وتوتر شديد. وإسرائيل تستعد فعليا لحرب لا لتصعيد محدود أو مؤقت فحسب، وهي تسعى بشكل شبه علني لتأمين “فزعة” أمريكية وغربية كما يتجلى في تصريحات وزير الخارجية يسرائيل كاتس أمس بعد لقائه بوزير الدفاع البرياطني في تل أبيب.
وإلى جانب تأمين شرعية دولية للمزيد من توسعة التوتر وربما الحرب، تعمل إسرائيل التي تطرح نفسها كضحية اعتداءات، على محاولة ردع إيران وحزب الله بالتهديد والوعيد والاستقواء بأمريكا كي تكون ضربات الانتقام محدودة ويمكن احتواؤها.
ورغم عدم رغبة كل الأطراف في الانزلاق إلى حرب -عدا نتنياهو على ما يبدو- فإن التوتّر مرشح للانفلات من عقاله نحو حرب كبرى. ومما يزيد حالة التوتر هو الانتظار وعدم اليقين، بعكس ليلة المسيرات، متى وكيف يأتي الانتقام، وهل هو بالمفرّق أم بالجملة وبالتزامن؟
المؤكد هو أن النار ستعقب الدخان. فالجليل الأخضر الجميل الذي توقفت حركة الحياة فيه أكثر فأكثر منذ أيام، يبدو كجبل بركاني يصدر سحاب دخان أسود، وينذر بقرب قذف الحمم.
تعليقات الزوار ( 0 )