شارك المقال
  • تم النسخ

“انتصار” طالبان.. واقع مفروض بالقوة أم لعبة للقوى الكبرى بأفغانستان؟

تثير التطورات الأخيرة بالأراضي الأفغانية الكثير من الجدل بعد استيلاء “حركة طالبان” على معظم أراضي البلاد في وقت قياسي، إذ تطرح هذه المتغيرات العديد من التساؤلات حول ما إن كانت طالبان بهذه القوة القادرة على هزم قوات التحالف الدولي وإسقاط الحكومة الأفغانية التي أنفق عليها الكثير من الأموال أم أن هذه الأحداث تندرج ضمن عملية إعادة هيكلة المشهد العالمي، فتم التخطيط لها وفق ترتيبات معدة سلفا، كما تثار أيضا أسئلة أخرى بشأن فشل الولايات المتحدة بصفتها أقوى قوة عسكرية بالعالم في هزم “حركة طالبان” منذ إعلان الحرب عليها سنة 2001، حيث اتهمتها الولايات المتحدة باحتضان وحماية تنظيم القاعدة الإرهابي، وبمسؤولية هذا الأخير في أحداث 11 شتنبر 2001، لكن لم تستطع اجتثاث جذورها أو القضاء عليها بشكل نهائي، إذ ظلت القوة العسكرية والسياسية ذات النفوذ القوي بالمجتمع الأفغاني، رغم أنها حركة تقليدية بأفكار دينية متطرفة ونهج بسيط..

لتضطر الولايات المتحدة إلى تغيير إستراتيجيتها من خلال التفاوض معها بدل الصراع العسكري، ثم سحب قواتها من أفغانستان بعد عقدين من الحرب بحجة تعقب التنظيمات الإرهابية التي احتضنتها طالبان ودعمتها. لأجل ذلك، فإنه لابد من الوقوف على بعض المعطيات والمحددات الأساسية التي يمكن اعتبارها مدخلا لفهم ما يجري بالساحة الأفغانية، لعل أهمها ما يلي:

أولا: التكوين العرقي للمجتمع الأفغاني من القوميات المتعددة (وفق التقديرات فالباشتون يشكلون أعلى نسبة بمعدل 42 في المائة مع الإشارة إلى انه هناك من يقول بان النسبة اكثر من ذلك بكثير؛ تليهم قومية الطاجيك بنسبة تفوق 30 في المائة؛ ثم الهازارة وهم شيعة بنسبة تقدر ب 8 في المائة؛ وقوميات أخرى كالأوزبك؛ والتركمان..)، وهذا التكوين هو من المحددات البارزة للصراع، بحكم أن أغلب قادة طالبان هم من قومية الباشتون، بل أن طالبان هي باشتونية الأصل، كما لقومية البشتون امتداد أيضا في باكستان، لهذا فإن علاقة طالبان بباكستان ذات صلة بالامتداد القومي، وكذلك بوجود المدارس الدينية “الديوبندية” التي درس فيها قادة الحركة في المراحل الأولى، أكثر من ذلك، فإن البعض يربط نشأة طالبان بالمخابرات الباكستانية، خاصة بالجنرال “نصير الله بابر”..

فضلا عن ذلك، فاسم طالبان يحيل على “الحركة الإسلامية لطلبة المدارس الدينية” فهو جمع لكلمة طالب في اللغة الباشتونية.. ولابد من العودة إلى الصراع الذي كان قبل ظهور طالبان بين الجماعات الدينية المسلحة في بداية التسعينات، أي بعدما تم سقوط حكومة محمد نجيب الله الموالية لروسيا سنة 1992؛ حيث كان بين برهان الدين رباني – وشاه مسعود – من جهة لاعتبارهم من قومية الطاجيك؛ وقلب الدين حمكتيار من جهة ثانية بحكم انتمائه للباشتون.. فقد دعمت الطرف الأول الهند، ثم إيران وروسيا في فترة استيلاء طالبان على السلطة، بينما الثاني دعمته كل من باكستان والسعودية..

وحينما فشل حمكتيار في هزم برهان الدين رباني بعد وصول الأخير إلى السلطة باتفاق بين الجماعات الدينية المسلحة سنة 1992، ستدعم السعودية وباكستان – والقوى الدولية الأخرى – طالبان عند الإعلان عن نشأتها سنة 1994. وتجدر الإشارة إلى أن أفغانستان تعرضت إلى حرب مماثلة حينما غزاها الاتحاد السوفياتي سنة 1979، ليجبر على الانسحاب سنة 1989 بفعل تعرضه للهجوم من الجماعات الدينية المسلحة التي ستتقاتل على السلطة في ما بينها بعد سنة 1992..

ثانيا: التكوين الديني للشعب الأفغاني من خلال هيمنة السنة الأحناف بما يقارب 90 في المائة؛ يليهم الشيعة الإمامية، إضافة إلى أقليات دينية أخرى (إسماعيلية، هندوسية، يهود..)؛ وهذا الوضع يقرب أكثر المجتمع الأفغاني من الحركات المتطرفة دينيا، إذ أن البيئة الثقافية تساهم بشكل كبير في تقوية التنظيمات الجهادية.. وحتى حركة طالبان تجد نفسها قريبة من بعض الدول الإسلامية السنية، خاصة الحنفية والحنبلية المذهب كالسعودية وباكستان.. فتاريخيا كانت باكستان أول من اعترف بحكومة طالبان في 25 ماي 1997 وتلتها السعودية في 26 ماي 1997، ثم الإمارات.. إلا انه لابد من الإشارة إلى توتر العلاقة بين باكستان وطالبان بعد الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، بحكم اتهام حركة طالبان لباكستان بالخيانة..

ثالثا: الموقع الجغرافي الذي يقع في وسط آسيا، فأفغانستان هي ملتقى العديد من الحضارات القديمة وممر للطرق التجارية البرية، بحكم تموقعها بالقرب من جنوب غرب آسيا والشرق الأوسط ومنطقة شمال شرق آسيا بصفتهما المناطق التي تعرف صراعات القوى العظمى؛ كما يحيطها من جهة الشمال كل من تركمانستان وأوزباكيستان وطاجكستان؛ بينما تحدها من الغرب إيران؛ ومن الشمال الشرقي الصين؛ ومن الجنوب والشرق باكستان.. ناهيك على الجغرافية الحبيسة والقارية لأفغانستان التي أثرت بشكل كبير على طبيعة الإنسان الأفغاني، حيث يميل أكثر للمحافظة والتشدد بسبب الجغرافية السياسية، وهذا يختلف عن الدول ذات البحار والمحيطات أو الدول البحرية والجزرية.

رابعا: المفاوضات بين طالبان والولايات المتحدة الأمريكية بالعاصمة القطرية الدوحة في شتنبر 2020، والتي قادها عن الوفد الطالباني الملا عبد الغني برادار، وهو من أهم القيادات المؤسسة لطالبان، بل يوصف كأبرز شخصية في تاريخ طالبان بعد الملا عمر؛ حيث اعتقل سنة 2010 من طرف القوات الأمريكية بباكستان وبتنسيق مع قوات هذه الأخيرة.. فأطلق سراحه سنة 2018.. بالإضافة إلى مخرجات هذه المفاوضات، فرغم أنها لم تحقق تقدما كبيرا، إلا أنه من أهم ما قررته هو عدم استعمال الأراضي الأفغانية (من طرف مجموعة أو فرد) لاستهداف المصالح الأمريكية أو أمن حلفائها؛ انسحاب القوات الأجنبية وفق جدول زمني محدد؛.. وتعتبر هذه المفاوضات التي حدثت في عهد ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بمثابة المنعطف التاريخي والتحول العميق في الموقف الأمريكي من حركة طالبان أو موقف طالبان من الولايات المتحدة من جهة، ومن جهة ثانية تعد أيضا تطورا في العلاقات بين طالبان والولايات المتحدة من خلال قبول منطق التفاوض بدل الحسم العسكري، بما يؤشر بأن هناك رهانات كبرى بمنطقة آسيا الوسطى..

خامسا: امتلاك أفغانستان لثروة معدنية هائلة تقدر قيمتها بالملايير كامتلاكها لثاني احتياط عالمي من النحاس في العالم، وخام الحديد والزنك والزئبق والألمنيوم والفضة والذهب؛ والمعادن الأرضية النادرة الأخرى كالليثيوم واللانثانوم والسيريوم النيوديميوم.. وتعد المعادن الأرضية النادرة من أهم واجهات الصراع الأمريكي – الصيني في الوقت الحالي، بالنظر إلى أهميتها في الصناعات العالية التقنية، كالهواتف الذكية والصناعات الإلكترونية والطائرات المقاتلة والسيارات الكهربائية والأشعة ما تحت الحمراء والمجال الصحي والطاقة النظيفة.. كما تجدر الإشارة إلى أن الصين وقعت اتفاقية مع الحكومة الأفغانية سنة 2008 لاستغلال النحاس لمدة 30 سنة.. إلا أن تفعيل هذه الاتفاقية واجهته صعوبات على أرض الواقع، وللصين أيضا أهداف لاستثمار في الحديد الخام والمعادن النادرة، بحكم سيطرتها على هذه الصناعة في السوق الدولية..

سادسا: الصراع على تأمين نقل الطاقة من بحر قزوين وآسيا الوسطى عبر أفغانستان في اتجاه البحار، والصراع أيضا على أن تكون أفغانستان ممرا تجاريا بريا للعديد من الدول الأسيوية.. نموذج طريق الحرير الصيني.. لهذا فإن طالبان ستكون أحد الأطراف إما لتأمين هذا الطريق التجاري أو لمنعه..

سابعا: الغموض والضبابية في العلاقات الأمريكية الباكستانية، رغم المساعدات الكبيرة التي قدمتها الولايات المتحدة لباكستان منذ سنة 2001 (تقدر بأكثر من 33 مليار دولار)؛ مقارنة مع تطور العلاقات ما بين الولايات المتحدة والهند العدو التقليدي لباكستان.. أكثر من ذلك، فهناك تقارب بين باكستان والصين من خلال مراهنة هذه الأخيرة وموافقة الأولى على أن تكون باكستان معبر لطريق الحرير البري إلى أوربا، في حين رفضت الهند للمشروع الصيني رغم أنها ضمن دول البريكس.. بل أن العلاقات الأمريكية الباكستانية توترت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، نتيجة اتهامات متبادلة بين الطرفين بعدم الالتزام بأسس الشراكة والتعاون في ملفات عدة، منها ملف مكافحة الإرهاب والملف النووي..

بمعنى أنه رغم العلاقات التاريخية بين باكستان والولايات المتحدة، إلا أن هذه العلاقة موسومة بانعدام الثقة وغياب اليقين.. هذا دون إغفال وجود حركة “طالبان باكستان” المتطرفة دينيا، والتي تشكل خطرا على أمن باكستان رغم اختلافها عن “طالبان أفغانستان”.. في حين ثمة مخاوف باكستانية من تنامي النزعة القومية أو توظيفها بشأن أقاليم البشتون الموجودة بباكستان، خصوصا إذا ما تم استحضار أن قومية البشتون هم أكبر تجمع عرقي بأفغانستان، وبأن الحكم تاريخيا كان من البشتون منذ نشأة دولة أفغانستان سنة 1747، وبأن طالبان هي حركة باشتونية النشأة، ناهيك على أنه ثمة امتداد لهذه القومية بالأراضي الباكستانية، حيث يعد البشتون ثاني قومية بباكستان.

ثامنا: الصراعات الإقليمية بالمنطقة، خاصة صراع باكستان والهند حول إقليم كاشمير.. مع استحضار أن الهند تعد – الآن – من بين حلفاء الولايات المتحدة، حيث تراهن عليها لاحتواء الصعود الصيني بالمنطقة.. بالموازاة مع ذلك، لا يمكن إغفال المنافسة الأمريكية-الصينية بمنطقة شمال شرق آسيا.. والصراع الإيراني – السعودي بالشرق الأوسط.. والتحالف الروسي – الإيراني انسجاما مع النظرية الأوراسية لإقامة محور أوراسي بغية الوصول للبحار الدافئة (تشكل الحرب السوفياتية على أفغانستان محاولة أولى فاشلة للتفعيل الواقعي لهذه النظرية، كما يعد التدخل الروسي في سوريا نجاحا في التطبيق العملي لهذه النظرية)، حيث تتدخل كل قوة من القوى التالية في أفغانستان بشكل من الأشكال، لترجح فرضية أن تكون أفغانستان معتركا لصراعات وحروبا بالوكالة مستقبلا، ستتأثر بشظاياها دول الجوار الإقليمي، وسيمتد وقع هذه التحولات إلى مناطق بعيدة عن آسيا الوسطى.

هذه ثمانية محددات لمحاولة تفكيك ما يجري بالأراضي الأفغانية، وهي محددات تتعزز أكثر بتولي الحزب الديمقراطي رئاسة البيت الأبيض، والمعروف عنه أنه يولي أهمية كبرى لنشر القيم الليبرالية والديمقراطية الأمريكية في العالم عبر دعم التغيير السياسي للأنظمة من الداخل، مقابل ذلك، ثمة تحديا يواجه أقوى دولة في العالم، المتمثل في الصعود الصيني المتنامي، والذي يؤكد يوما بعد يوم بأنه أضحى من أهم الاهتمامات والقضايا المزعجة لصناع القرار بالسياسة الخارجية الأمريكية..

باحث في سلك الدكتوراه، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي