شارك المقال
  • تم النسخ

انتخابات 08 شتنبر بالمغرب..من الديمقراطية الإغريقية إلى الديمقراطية الحديثة

هذه عَشرُ ملاحظات سريعة حول نتائج انتخابات 08  شتنبر:

1. تَعلَمَ غالبية وعامة المغاربة السياسة من الحياة اليومية، وأصبحوا براغماتيين. صوتوا على حزب العدالة والتنمية الاسلامي المعتدل بداية ما كان يسمى بالربيع العربي سنة 2012، بعد دستور 2011 ، وجددوا فيه الثقة في انتخابات سنة 2016، وها هم الآن يعاقبونه أشد العقاب، فقد إحتل الصف الأخير بين الأحزاب الكبرى ب 12 مقعد فقط، بعدما كان يحصد حوالي مئة وتزيد في الاستحقاقات الانتخابية السابقة.

2. كانت هناك ضرورة تاريخية للتغيير مع بداية الربيع العربي، ولم يكن هناك بديل في المجتمع، فدخل وأُدخِل الحزب المعمعة، ومرر بعض أسوأ السياسات النيوليبرالية واللاإجتماعية في تاريخ المغرب الحديث، رغم أنه كان يتقاسم السلطة مع أحزاب أخرى، ولم يهيمن على القرارات، بل كانت القرارات غالبا مرسومة له من فوق، من الملكية التنفيذية، والتي تسمى أيضا بالمخزن عندما يغيب التشخيص الفعلي والقانوني لصاحب القرارات، إلا أن الشعب عاقب الحزب عقابا شديدا هذه المرة.

3. بعد شخصية بنكيران التي قادت الحكومة الاولى بين 2012-2016، والمعاكسة التي وجد نفسه فيها في صراعه مع تماسيحه خلال شهور “البلوكاج”، خرج وأُخرجَ بنكيران، وخلفه الضعيف الشخصية رفيقه العثماني على رأس حكومة هجينة لا يحكمها بل يسيرها. حتى لو بقي بنكيران على رأس الحزب لما كان له أن يتصدر الانتخابات، لان المغاربة “طفشوا” من خطاباته التي تبرر كل سياسة غير شعبية. خرج بنكيران قبل ثلاثة أيام من يوم الانتخابات في فيديو شاهده ربما الملايين من المغاربة، فيديو يدعو فيه المغاربة للتصويت، وعدم مقاطعة الانتخابات، حفظا لأن الوطن، وتحريضا ضد حزب الاحرار في شخض الميلياردير ووزير الفلاحة أخنوش منذ سنة 2007. ولم يدعهم للتصويت على حزبه، بل للتصويت لمن أرادوا. وقد فعلوا، نكاية فيه وفي حزبه. إنتهى حتى الرصيد الذي كان يظن أنه بقيَ له. كانت عبارته المعروفة “فهمتي ولا لا؟” حديث العام والخص منذ عقد من الزمن. الآن يمكن قول أن المغاربة فهموا!

4. حزب الاحرار الذي تصدر الانتخابات هو حزب إداري أنشأه المخزن منذ حوالي خمسين سنة، وها هو اليوم يرجع ليقود المغرب. معروف عنه أنه ليبرالي التوجه إقتصاديا، أما ثقافيا فهو محافظ، ولو أظهر عكس ذلك. يرأس الحزب الميلياردير المعروف أخنوش، ويقال عنه الكثير منذ سنوات. لم يشتغل بالسياسة إلا قبل سنوات قليلة عندما دُعِيَ لترأس الحزب ومواجهة الإسلاميين. وقد فعل ونجح.

5. الحزب الثاني بعد الاحرار هو حزب الاصالة والمعاصرة، وهو حزب إداري أيضا، نشأ كحركة من أجل الديمقراطية قبل 15 سنة، وكان همه دائما هو مواجهة الإسلاميين. لكنه شهد تغييرات في كوادره وأصبح مع أمينه العام الجديد وهبي يتحدث ضد الفساد أولا، ومن أجل الديمقراطية، ولكنه مع ذلك “بقي فيه شيء من الادارة” ضد الإسلاميين في الخفاء. وهو كذلك حزب له من المال والعلاقات مع السلطة الكثير.

6. بما أن الحزبين الرائدين الآن هما حزبان إداريان قريبان من المخزن، تليهما الحزبان التاريخيان، الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، فهذا يعني أن المغاربة صوتوا بشكل كثيف ضد حزب العدالة والتنمية الإسلامي، وإن كان يشوب الحزبان المتقدمان شبهات فساد وتسلطية عبر المال والسلطة. فهل هذا يعني أن المغاربة سئموا الإسلاميين، وفضلوا المفسدين، أم أنهم يرون الجميع مفسدا، ويستحسن على الأقل تغيير المفسد الحالي، الإسلاميين، ومهادنة الأحزاب الإدارية التي تشتغل مع المخزن والدوائر العليا في الحكم؟ المسألة لسيت مسألة إختيار من الأقل فسادا في المرحلة الراهنة بل هي حسابات براغماتية يحكما الزمن الراهن. إن السياسات غير الشعبية التي زكاها الإسلاميون رغما عنهم أو برغبتهم خلال العقد الأخير من حكمهم جعل العامة تفطن إلى أن خطاب الإسلاميين السياسي لا يختلف في شيء عن خطاب الأحزاب الأخرى. لذلك صوتوا “بإختيار” وبنوع كبير من البراغماتية السياسية. وهذا نضج سياسي مهم في الساحة العامة.

7. لم يكن المغاربة لينتظروا هل سينجح الإسلاميون في تونس أو مصر او غيرها. إن لهم تجربتهم الخاصة يشتغلون داخلها منذ حوالي ستين سنة، ولو أن الربيع العربي أبان عن فرص للتلاقح او المقارنات. لكن لا مجال للمقارنة، لأن النظام السياسي مختلف في هذه الأقطار. المغرب إمارة إسلامية منذ 12 قرنا ولا يحتاج لدروس من مصر او تونس او أفغانسان. ومجددا، هذا لا يعني أن المقارنات العلمية لا تصلح لفهم توجهات ونجاحات وإخفاقات الإسلاميين.

8. فما مآلات الحزب الإسلامي، حزب العدالة والتنمية بعد اليوم، بعد هذه الهزيمة الشنيعة؟ أعتقد أن الحزب سينزوي لمدة طويلة، وقد تحدث فيه خلافات داخلية بين قطبَي بنكيران والعثماني. غالبا ما قد ينسحب العثماني من الحياة السياسية، وقد يعود بنكيران كقيادي في الظل، يوجه عن بعد جيلا جديدا من الإسلاميين. وقد يسطع نجم حامي الدين كالقيادي الجديد الأبرز، وهو كذلك أحدث سنا من السابقَين. ومع ذلك، لن يستطيع الحزب أن يسترد عافيته إلا بعد إستحقاقين كاملين مقبلين على الأقل، هذا إذا أخفق الحزب الذي سيحكم حاليا في مشاريعه الاجتماعية. لن يعود المغاربة للإسلاميين إلا بعد حوالي خمسة عشر إلى عشرين سنة من الآن، أي بعد أن تتجدد دماء الحزب بقيادات جديدة، وبعد أن ينشأ جيل جديد من المغاربة الشباب الذي قد يجدون في خطابه ما يستجيب لمتطلباتهم. حتى وإن عاد الحزب بعد عشرين عاما من الآن، إذا إستجدت ضرورة إجتماعية وإقليمية لذلك، فغالبا ما سيكون الخطاب مختلفا، والقيادات كذلك. أظن أن تجربتهم قد أفلت لمدة مستقبلية غير يسيرة.

9. التحدي الآن أمام الحزب الحاكم الجديد، الذي لن يحكم لوحده بل بشراكة وبتحالفات، لأن القاسم الإنتخابي زاد في تكريس ضعف نفوذ حزب واحد على السلطة. هل سينجح في إمتصاص الهشاشة الاجتماعية، وتدهور قطاعي الصحة والتعليم؟ وهل سيستطيع الدفاع عن أسس الديمقراطية الحديثة، والتي من أسسها حرية التعبير؟ هل سيستطيع فك أسر معتقلي الرأي، والذي شهد فيه المغرب إنتكاسة كبرى خلال العشر سنوات الأخيرة؟ هل يستطيع ربط المسؤولية بالمحاسبة، أم أن سلطة القضاء ستبقى رهينة لسلطة المال والأعمال؟

10. لا يتمتع حزب الأحرار الذي تصدر الانتخابات بشرعية تاريخية مدافعة عن الديمقراطية وأسسها الكبرى، ولا الحزب الثاني أيضا. وهي فرصة تاريخية لكي يغيرا من سجلَهما “الفاسد”، إن أرادا أن يُطَعِما الساحة السياسية المغربية بروح ثقافية ديمقراطية إجتماعية. وإلا فإننا سنترقب إختلالات إضافية وتذمر شعبي جديد سيحتاج لمن يمتص غضبه من جديد. للدولة العميقة مخرجاتها وطرقها في التسيير، ومن السيناريوهات في هذا الحالة أن يتم بناء صورة المصلح الجديد لتحالفات اليسار الصغيرة، مثلا، والتي تناضل رغم صغرحجمها عن الديمقراطية الاجتماعية ودولة الرعاية. وقد يُنشئ اليساريون جبهة موحدة مستقبلا لمواجهة جشع النيوليبرالية المتوحشة ويمثلوا بذلك معارضة مهمة من جديد في تاريخ المغرب. هذا السيناريو ليس مستبعدا، ولكن سننتظر السنوات القابلة، أو الاستحقاقَين القابلَين لنرى كيف تسير الأمور مع الحكومات الجديدة القادمة، والتي تليها.

إجمالا، أصبح الإسلاميون في المغرب كباقي الأحزاب، يعارضون، فيحكُمون، ويُدَجنون، فيعاقبونَ. وما دام الأمر يمر بشكل سلمي، فهذا مدعاة فخر في تاريخ البلد، والإقليم عموما، رُغمَ عِلاتِهِ. ولنتذكر أن الإسلاميين لم يحكموا لوحدهم، بل لم يحكموا أصلا، بل شاركوا فقط في إدارة الحُكم، وتحملوا مسؤوليات أكبر من حجمهم وأكبر من حجم أي حزب آخر في تلك الظروف الإقليمية الصعبة. وإن تَذَكَرَهم المغاربة بشيء إيجابي شاركوا به فستكون هذه السلمية والوطنية التي عملوا منها ومن داخلها، ولم يرتهنوا للإخوان المسلمين أو لأي أجندات خارجية، وهذا المكسب كبير جدا لتقوية معنى الدولة السيادية والوحدة الترابية. أما ما عدا هذا المكسب المهم جدا، فإنهم كباقي التيارات السياسية، يخطُبون فيحاولون، وغالبا ما ينكثون. وهذا من السياسة، وليس من الإيمان أو المقدس. حتى الإيمان والمقدس مُتغيِر وَيَتغير. إسلاميو المغرب لم يرفعوا شعار “الإسلام هو الحل”، كما يظن المحللون المشارقة وبعض المغاربيين. عانوا من خواء فكري إمتصه عملهم من داخل المنظومة السياسية والملكية المغربية، ولكن خواءهم الاقتصادي والاجتماعي، أي ضعف مشروعهم المجتمعي-الاقتصادي، وضعف الدفاع عن الطبقة الكادحة والمتوسطة، جعلهم في مواجهة مباشرة مع الشعب، وها هو الشعب يعاقبهم.

بمعنى آخر، إن المغرب ما يزال نظاما يتراوح بين الأوليغارشية، حسب تقسيم أفلاطون، والبلوتقراطية الحديثة، أي نظام تحكمه قلةٌ لها المال والسلطة. قد نقول أن المغرب يمثل ديمقراطية بمعناها الافلاطوني أيضا، أي يحكمها العامة عن طريق صندوق الانتخابات الحديث، ونحن نعلم أن الصندوق وحده لا يعني الديمقراطية، بل قد يعني، حسب تعريف الديمقراطية الأفلاطونية القديمة دائما، حُكم  العَوام وجريهم نحو صالحهم الخاص بدل الصالح العام، وفي هذا الكلام ما يصحُ إذا نظرنا إلى طريقة تصويت المغاربة في القرى وهوامش المدن مثلا. لذلك، للوصول إلى ديمقراطية الصالح العام لا نريد ديمقراطية أثينا التي مر عليها الزمن، والتي لم تُعمر إلا قليلا جدا وبشكل هجين، بل نريد ديمقراطية واشنطن وباريس الحديثة، أي ديمقراطية المحاسبة، دولة الحق والقانون قولاً وفعلا.ً تفعيل دستور 2011 يحتاج شجاعة سياسية أكبر مما هي متاحةٌ في الساحة السياسية الفكرية بالمغرب، وإنه دور الأحزاب والمجتمع المدني في الحرص على عدم النزول بسقف التطلعات إلى ما قبل سنة 2011.   

*باحث مغربي مقيم في إيطاليا

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي