تُطْرَح في المشهد السياسي المغربي اليوم أسئلة عديدة، تَهُمُّ التحوّلات التي ترتبط بالنظام السياسي القائم، وصور معالجاته مقتضيات وباء كورونا، والمشهد الحزبي، بتلويناته الإيديولوجية وخطاباته المختلفة، وهو يقترب من الاستحقاقات الانتخابية المقرّرة في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، من دون إغفال المواقف السياسية الجديدة المرتبطة بنوعية الحضور الذي أصبحت تفيض به فضاءات التواصل الاجتماعي، إذ تشتبك يومياً معطياتٌ تؤشّر إلى نفور الشباب من العمل السياسي المؤسّسي، مع حرص بعض المتفاعلين داخل الفضاءات المذكورة، على تشخيص أعطاب الأغلبية الحكومية التي تدير السياسات العامة بقيادة حزب العدالة والتنمية، وتشخيص عجز المعارضة في الآن نفسه، وإبراز عدم قدرتها على تقديم بدائل لأعطاب الخيارات والبرامج التي يجري تنفيذها. وبجوار ذلك، تنتعش أشكالٌ أخرى من الفعل الاحتجاجي الجديد بلغاتٍ ومواقف مختلفة عن المألوف، لتملأ الفضاءات الرقمية بأسئلةٍ ومفارقاتٍ عديدة، يصعب اليوم التكهن بنتائجها القريبة.
تشابهت اليوم في المشهد السياسي المغربي أغلب برامج الأحزاب السياسية، واختفى اليمين واليسار والوسط، كما اختفى المحافظون القدامى والجدد، واصْطَفَّ الجميع من دون مرجعيةٍ نظريةٍ محدَّدة، في وقتٍ بدا فيه أنّ النظام وحده يقود الحياة السياسية، بموافقة الجميع ورضاهم. وهذا الأمر بالذات لا علاقة له بمكاسب دستور 2011، ولا بمكاسب الانتقال الديمقراطي في المجتمع المغربي. وقد نجد فيه تفسيراً لأشكال العزوف السياسي الذي يَدفع شباباً كثيرين إلى ترك المجال السياسي، مقابل انخراطهم في بناء مشهد احتجاجي في وسائل التواصل الاجتماعي، موازٍ للواقع الفعلي في جريانه.
يُواجه المشهد الحزبي المغربي عالماً جديداً لم تعد تنفع فيه بقايا شعارات المشروع الإصلاحي الوطني، كما رسمت ملامحه الكبرى في أدبيات حزب الاستقلال. وكما تطوّر في ستينيات القرن الماضي في أدبيات الحركة الاتحادية، فأصبحنا أمام أحزابٍ إداريةٍ متناسخةٍ بأسماء مختلفة، وأحزابٍ وطنيةٍ لم تعد قادرةً على تجديد أدواتها وتطويرها، لتتمكّن من تعقل التحولات الجارية في المجتمع، وتبنّي شرعيةٍ سياسيةٍ جديدة، مناسِبةٍ للشعارات الموجِّهة لعملها السياسي، الأمر الذي يدفع إلى القول إنّ واقع العمل الحزبي في المغرب، في كثير من أَوْجُهِه المرتبكة والمُفبركة في سياقاتٍ محدَّدة، يُعدّ محصلةً لتجربةٍ طويلةٍ من الصراع السياسي، وإنّ عيوباً كثيرة فيه ولَّدتها تدخلات السلطة، واستعداد بعض النخب بمبرّرات وإغراءات عديدة لتركيب الخرائط المنسجمة مع آلياتها في العمل السياسي، المساعد على مزيد من الضبط والهيمنة.
نتجه هنا إلى التساؤل، في ضوء ما سبق، عن واقع اليسار المغربي، وقد تحوّل بفعل تشرذمه المتواصل وعجزه عن بناء قطب قادر على استيعاب تيارات وخيارات كثيرة قادرة على مواجهة المواقع التي اكتسحها الإسلام السياسي، المحترق بدوره من نخب المصالح ونخب حسابات الوقت، فامتلأ المشهد السياسي بالفكر المحافظ والنزوعات الانتهاجية وكثير من الخيارات البعيدة عن مقتضيات التحوّل الديمقراطي. وأصبحت ثقافتنا السياسية تفتقر اليوم إلى مكاسب ثقافة سبعينيات القرن الماضي، العقلانية والتاريخية.
نتصوَّر أنّ صلابة التحديات التي تواجه اليسار في محيط العمل الحزبي في المشهد السياسي المغربي تعادلُها صلابة أخرى، ترتَّبت عن تجربة اليسار نفسه في العمل السياسي. والإشارة هنا إلى تركة الخلل التنظيمي التي يحملها كثير من أجنحته وتياراته، وإلى عدم قدرة كثير من مُكَوِّنَاتِه على تجاوز إرثها التقليدي في كيفيَّات التعامُل مع تحوُّلات المجتمع والقيم في مجتمعنا. إضافة إلى ذلك كلّه، يُواجِه اليسار جملة من الأحكام المُسْبَقَة عن تياراته وعن معاركه ولغته، من دون أن يُكَلِّف نفسه عناء مواجهتها، بالصورة التي تمكِّنه من حضور جديد فاعل ومتفاعل مع الحاضر السياسي المغربي.
نلاحظ أمراً آخر يُقَرِّب التيارات اليسارية بعضها لبعض، يتعلق بالنواظم الفكرية المرجعية ومعجم اللغة السياسية، إذ يمكن أن يُسَجِّل أيضاً أنّ أغلب هذه التيارات، وإن كانت تحاول التخلُّص من تَخَشُّب لغتها وتَصَلُّبها، وذلك بحكم أنّ إيقاع التطوُّر الذي يسود اليوم المجتمع المغربي بدرجات متفاوتة، لم يعد يَسمح بالحديث بلغة ومفاهيم يُفْتَرَض أن تكون موضوع إعادة نظر، إذ لا يُعقَل أن تستكين تيارات الثقافة اليسارية إلى منطقٍ ومفرداتٍ تنتمي إلى زمن آخر، مُغفلة المتغيرات الجديدة والآثار الناتجة عنها في مجتمعنا المتطوِّر والمتفاعِل مع ما يجري في العالم. إلاّ أنّ هذه المحاولات لم تُثْمِر بعد النتائج المتوخّاة منها، بل تواصل أجنحة يسارية كثيرة الحديث بمفردات وخيارات لا علاقة لها بالمتغيرات الجارية في المجتمع.
تبرز أعطاب اليسار في التشرذم الذي لا مبرّر سياسياً له. أما الأعطاب البنيوية الأساس فتتمثَّل في التقصير الكبير في مسألتين، الخيارات والتعبئة، إذ تُواصل قوى يسارية كثيرة تحليل صور الصراع المتجدّد في مجتمعنا بمصطلحاتٍ ومعطياتٍ لا تحيط بالظواهر في تحوُّلها المتواصل، كما تُواصل ذهولها في موضوع القيام بمقتضيات التعبئة المطلوبة بالآليات المكافئة للتحوُّلات الحاصلة في المجتمع وفي التاريخ.
تَحْكُم مظاهر الصراع السياسي والاجتماعي في مجتمعنا اليوم آلياتٌ جديدةٌ تقضي بضرورة تطوير النخب اليسارية مفردات مواجهة تحديات الواقع وكيفياتها، لعلّها تتمكّن من الاقتراب من مختلف التحوُّلات التي يعرفها المجتمع المغربي، ويعرفها المحيط العربي والعالم، فلا سبيل اليوم لمقاربة أسئلة المجتمع في السياسة والثقافة والإصلاح والتغيير، بمفردات ترتبط بسياقات تاريخية أخرى، ذلك أنّ إرادة التغيير يسبقها وعي التغيير، ولا يكون ذلك ممكناً، من دون ابتكار اللغة المناسبة والمفردات المساعِدة على فهم ما يجري في تجلياته ودلالاته المختلفة.
تستدعي الاستحقاقات التشريعية المقبلة من اليسار المغربي وقفة صارمة مع أحواله العامة، وقفة من التراجعات والترهُّل الذي أصاب الإسلام السياسي، وقد استمرّ في إدارة السياسات العمومية في المغرب منذ 2011. كما يستدعي موقفاً صارماً من طرائقه التقليدية في التعبئة والعمل السياسي، وأساليبه في إدارة اختلافاته، وهذه الأمور لا تتطلب فقط اليقظة التاريخية، بل تتطلب كثيراً من المثابرة والوضوح، وكثيراً من الاستماع لأسئلة المجتمع والتاريخ.. فهل تستطيع أجنحة اليسار الممزقة القيام بهذا كله؟
لنسجل اليوم بوضوح أنّ اليسار المغربي استسهل، في كثير من أجنحته، المحفوظات والمفاهيم المسكوكة، ولم يعد قادراً على بناء مواقف واضحة من النظام ومن المشهد السياسي، مثلما أنّه لم يعد اليوم قادراً على نَحْت (وابتكار) المفردات القادرة على الإمساك بأسئلة المجتمع وظواهره. ومن هنا نتصوَّر أنّ تعزيز حضوره السياسي يقتضي مواصلة العمل على مزيد من تحديث المجتمع، ولا يصبح ذلك ممكناً، من دون رفع حالة التشرذم وبناء قطب سياسي، يكون بإمكانه بناء مرجعية وأفق في العمل السياسي، لا يفصل فيهما بين مطلب الحرية والحريات، والقانون والمؤسسات، ومطلب العدالة والمساواة.
تعليقات الزوار ( 0 )