خوفا من فيروس قاتل , اتخذت الدولة قرار الطوارئ الصحية و فرضت الحظر الصحي المؤسس اجتماعيا على فكرة التباعد الاجتماعي , و اخلاء الاماكن العامة كشرط لمنع انتقال العدوى و انتشار الوباء , من خلال الرجوع الى البيوت.
غير ان تطبييق هذه الاجراءات سجل وجود مقاومة من طرف الكثيرين , وهو ما يشكف وجود بنية تقافية ترفض العزلة الاجتماعية , و تعتبر التباعد الاجتماعي نوعا من العقوبة الاجتماعية , اجراء تأديبيا عبر الحرمان من الفضاءات العامة و التواجد مع الاخرين , هو موقف يتقاطع مع موقف الفيلسوف مالبرانش الذي اعتبر ان اكبر عقاب للانسان للناس هو ان يعيش وحيدا و لو في الجنة.
غياب اللقاح ضد الفيروس جعل من الحمية الاجتماعية المؤسسة على التباعد الاجتماعي, و عدم الاختلاط شرطا للحماية من انتشار وباء قاتل بحسب قرار السلطات العمومية و الصحية مما يفترض الصرامة في تطبيقه ضمانا للصحة و السلامة العامة.
ثمة اسئلة تفرض نفسها حول البنيات الثقافية و الاجتماعية المؤسسة لسلوك الرفض و مقاومة احترام مقتضيات الحظر الصحي, و لزوم البيت و القبول بفكرة العزلة الاجتماعية.
و نتيجة هذه المقاومة صدام السلطات العمومية مع الغالبية من المخالفين الذكور, هو انعكاس مباشر لنتائج وعي ذكوري مؤسس على قيم التفوق و السيطرة و التحدي ( انت مالك خايف بحال لمرا – انت اشنو غادي يديروا ) و غيرها من العبارات الدالة على تقافة ذكورية عنيدة تتحدى القانون و السلطة العامة .
وفق التمثلات الاجتماعية , فالفضاء الخاص محجوز للمرأة و هو مجالها لحيوي ، في حين الفضاء العام هو فضاء مخصص للذكور و سلطة الذكور و هيمنتهم ، مما يمنحهم الاعتقاد انه ملك لهم ، يصعب إقناعهم بالعودة الى الفضاء الخاص المخصص للنساء. فالعودة الى الفضاءات الخاصة / المنازل هو انتقاص منهم يستدعي مقاومة و عنفا مضادا.
حتى الذين يضبطون خارج منازلهم , الغير الراغبيين في مواجهة من السلطات العمومية تكشف تصريحاتهم عن بنية تقافية مقاومة بعدم الرغبة في التقيد بمقتضيات العزلة الاجتماعية و منها :
- راه عيينا بالنعاس .
- راه خارج نشم غير شويا ديال الهوا .
- بغينا ضربنا الشمس .
- بغيت غير نكمي واحد السيجارة .
- راه قريب نطلق لمرا .
غيرها من التعبييرات و التصريحات التي تكشف حجم المقاومة لقرار البقاء في البيت, و احترام قرارات التباعد الاجتماعي كشرط لمنع انتشار الوباء.
هذه التمثلات الذكورية للفضاءات العامة و الخاصة، فان مطالبة بعض الذكور بالرجوع الى المنزل كفضاء خاص ، هو انتقاص منهم و من فحولتهم , مما يقود بلا شك الى العنف. والنتيجة فعل صدامي بين رجال السلطة العمومية و التي تعمل على اخلاء الفضاءات العامة كشرط للسلامة , و بين من يتمثلون الفضاء العمومي كفضاء ذكوري مخصص لهم لاستعراض فحولتهم وذواتهم ، وان اي دعوة الى الخروج من الفضاء العام الى لفضاء الخاص , هو تنقيص منهم و اساءة لا يمكن تقبلها, و لعل حجم و كثافة التعبيرات الصادرة عن الشباب في مقابل الدعوة بالبقاء بالمنزل كفضاء خاص.
رفض مقتضيات الحظر كقرار عمومي يقود الى طرح سؤال عميق لماذا يرفض غالبية المغاربة العزلة الاجتماعية.
الحدث يقود الى استنتاج اساسي لما يعشق بعض المغاربة ثقافة الحشود و التجمعات و يقاومون العزلة الإيجابية حتى لو كانت قرارا عموميا و اجراءا احترازيا لمنع انتشار الوباء.
الامر يدعو الى مساءلة الواقعة: واقعة رفض العزلة الإيجابية او العزلة باعتبارها طريقا للنجاة و الخلاص من فيروس قاتل.
اذا كانت الوحدة و الاحساس بالوحدة سلوك قد يكون اضطرابيا نتيجة تراكم الازمات , و ان الوحيد يحس بوحدته القاتلة حتى لو كان مع الناس و بينهم,و ان الوحدة هي قد تكون نتيجة سوء التوافق مع البنية الاجتماعية,او لسوء التواصل و التفاهم الاجتماعي مع الغير.
الوحدة بهذا المعنى هي الاحساس بالفراغ , الوحيد يفتقد السعادة و الطمأنينة النفسية و الاجتماعية , هنا تكمن ازمته لان لم يستطيع ملأ الفراغات التي يعيشها حتى لو كان بين اهله و ابناءه , على اعتبار ان السعادة هي ملا الفراغ و سد الفجاوات , و الوحيد لم يستطيع تحقيق ذاته و سد الفراغات التي تملا حياته , لذا يحس بالوحدة و الضياع و التيه , هنا بداية الطريق الى البحث عن الخلاص عبر ترك العالم بشكل نهائي / الانتحار و قد يتخذ سلوك الانتحار الكثير من المظاهر من بينها اللجوء الى المخدرات و كل اشكال تغيب الوعي و الحضور الايجابي داخل العالم.
اما مفهوم العزلة فهو قرار ارادي وطوعي, انه تعبيير عن قرار الاستماع الى الذات , مع باسكال تصبح العزلة شرطا للفكر و الابداع , حين يؤكد بأن الإنسان قد يصل لحالات تودي به للهستيريا، إن لم يستطع أن يخلو بنفسه ولو لمدةٍ قصيرة، بل إن الأفكار المتميزة لا ينتجها الإنسان المفكر إلا في حال اعتزاله. وهو نفس المنطق تبناه الفيلسوف الثائر فريدريك نتشه في كتابه هكذا تكلم زرادشت , حين عاد زرادشت الحكيم من خلوته من اعالي الجبال الى المدينة من اجل كشف الحقيقة , و بالمقابل يلتقي بالراهب التي اتعبه ضجيج المدينة وقرر الهروب الى الجبال من اجل الانعزال و اكتشاف الحقيقة.
ديفيد فنسنت في دراسته الرائعة حول تاريخ العزلة يعتبرها اضفاء صفة العقلانية على قرار الوحدة , اي ان الذي يعتزل الناس فهو نتيجة تفكير ارادي و عقلاني, بان يكون وحيدا و بعيدا عن الناس من اجل لحظة تامل و تفكير.
العزلة في منظور المفكر وردزورث هي فرصة للتعرف على الذات وللتأمل الروحي, و لعل تاريخ الدعوة الاسلام , سجل بالكثير من التدقيق لحظة تاملات النبي محمد صلى الله عليه وسلم و هو في غار حيراء , انه كان يمارس عبادة صامتة عن طريق التفكير والتأمل, انها تجربة ولادة تكشف ان العزلة عن الناس و الابتعاد المدروس زمانا و مكانا هو شرط قبلي للتفكير والابداع. كما ان العزلة تعني الرغبة في التمايز الاجتماعي و استكشاف الذات , لان هناك تصورات لها وجاهتها تكشف أن الذات لا تظهر إلا عند الابتعاد عن العالم و عن الاخرين .
وفق سياقات الاحداث ووجود بعض المقاومات السلوكية التي ترفض العزل الصحي و التباعد الاجتماعي فاننا نكون امام انماط سلوكية تعيش الوحدة كسلوك مرضي, حيت يمثل سلوكهم درجة من درجات الاضطراب السلوكي المبني على الاحساس بالفراغ , حتى لوكان بين اهله و عائلته لذا يجد ان الفضاءات الخاصة المنازل تشكل حواجز امام ذاته .
لذا فان التفكير في العزل الصحي و التباعد الاجتماعي ليس فعلا امنيا فقط موكول تطبيقه الى السلطات العمومية , لكنه فعل ثقافي يفترض اولا فهم العقليات و العادات الاجتماعية و القيم الاجتماعية من اجل انجاحه .
التفكير في العزلة يقتضي التفكير في شروطها وسياقاتها و ضمانات نجاحها اي البحث في البينات الثقافية و المعرفية المساعدة او المقاومة لقبول فكرة التباعد الاجتماعي .
في رواية فرجيينا وولف ان العزلة المدروسة او العزلة الايجابية هي ان يكون أن تكون للمرء غرفة مستقلة، وهو ما يتطلب امكانيات مادية وثقافة معمارية بامتلاك منزل يضمن الخصوصيات حيت يمنح لكل فرد غرفة خاصة لكي يمارس عزلته الارادية .
باستحضار هذه الرؤية يمكن ان نتساءل هل منازلنا تحترم خصوصياتنا , ربما المؤشرات الاولية تكشف ان النسبة الكبيرة من النازل هي منازل صغيرة المساحة يعيش فيها عدد كبير من الافراد كما هو الحال في مساكن السكن الاجتماعي , الذي يحمل هذا الاسم ليس يناء على وظيفية السكن الاجتماعي و لكن بناء على كلفته الاجتماعية مما يجعل منها مساكن اقرب الى علب السردين , كيف تطلب من شخص يعيش في خمس عشر امتار مربعة و بشكل مشاعي ان يمتلك خصوصية و ان يقبل بفكرة العزل و الانعزال و العزلة .
ربما نجاح المشروع نسبي تبعا لتعدد المتغيرات المرتبطة بالجنس و الوعي والوضع الاجتماعي و كدا لنوع المنازل , لان من يبحث عن الوحدة يصعب ان يحترم قرار العزل مادام يحمل توترات داخلية تجعله يحس بالخواء في كل مكان , اما من يحترمون العزلة و ربما يبحثون هنا فاؤلئك قلة تبحث عن المعنى في حين الغالبية مشغولة بهواجس اليومي.
.
تعليقات الزوار ( 0 )