يحدث أن ينبت العشب بين مفاصل صخرة، كما ينفجر الإبداع من عمق المأساة، فتجود قريحة المبدعين بأعمال خالدة ،يمتزج فيها الأدب والإبداع بالواقع ،وترصد عبر سطورها مرارة المعاناة من الوباء المتفشي وقتئذ،ومدافن الموت الجماعي،وحالة الهلع التي كانت سائدة في المجتمع،وإشكالية التغلب عليه بالابتعاد عن المجتمع وظواهره التي تسمح بانتشار الوباء.
تتعاقب الأزمنة وتتشابه الأحداث ،وتحضر قصيدة “الكوليرا” لشاعرة العراق الأولى التي نظمتها عام 1947 في دارها ببغداد، وتسافربنا القصيدة إلى مجريات ما حدث في مصر يوم ظهر فيها الطاعون، تصف أحداثا واقعية نكاد نلمسها ونراها، شعرية “الكوليرا” تثير فينا الخوف والشفقة والتعاطف حين يضيع عدد الموتى في نعش القصيدة، تأمرنا الشاعرة بالإصغاء في صمت الفجر إلى بكاء الطفل المسكين، صور سمعية بصرية تجسد أحزان الموت في شبح الكوليرا.
ويزخر الأدب الانجليزي بتفاصيل وباء الطاعون، الذي استشرى في لندن عام 1665، يرويه لنا “شاهد عيان” الروائي دانييل ديفو في في رواية له بعنوان “يوميات عام الوباء”،حيث يذكر الكاتب أسماء حقيقية معاصرة لمناطق سكنية بعينها، وأسماء شخصيات وأسماء مواقع وكنائس وساحات مدافن، مع أوصاف الناس المكلفين بنقل الموتى من الوباء الذين كانوا يدورن في الأحياء السكنية وينادون “هاتوا موتاكم”.
ولعل التشابه المحير بين هذه الليلة والبارحة، أن أحداث اليوم تشبه أحداث الأمس، ففي الرواية يذكر الكاتب أن الوباء ظهر في هولندا أولا ثم تضاءل قليلا ثم عاد بصورة أشد ومنها انتقل إلى لندن عن طريق التجار حملته السفن التجارية.
وقد أخذت أحزان الوباء وتداعياته حيزا مهما في الكتابة العربية،بعدما اختطفت الكوليرا شقيق عميد الأدب العربي “طه حسين”وبات يوم وفاته في ذاكرة صاحب”في الشعر الجاهلي”من اشد الأيام بؤسا في حياته ،وكيف زعم أهل الدار أن في أكل الثوم وقاية من الوباء،ويذكر طه حسن في وصفه لمشهد الوباء في مصر قائلا:”وكان الأطباء قد أنبتوا في الأرض ومعهم أدواتهم وخيامهم يحجزون المرضى،وكان الهلع قد ملأ النفوس واستأثر بالقلوب،وكانت الحياة قد هانت على الناس،وكانت كل أسرة تتحدث بما أصاب الأسر الأخرى،وتنتظر حظها من المصيبة.
إن الحزن كالوباء يوجب العزلة، يقول طه حسين مصورا غزو هذا الوباء العام للمدن والقرى ،وكان سببا في إغلاق المدارس والكتاتيب .
وقد يكون من الجائر التعريج على السرديات الأدبية دون التوقف عند الرواية الشهيرة “الطاعون”، للأديب الفرنسي “ألبير كامو” ذي الأصول الجزائرية، والتي صدرت بعد عقود على كوليرا 1902 والتي أخذت حيزا مهما من القراءة لدى الأدباء والنقاد، وحاز الكاتب بفضلها على جائزة نوبل للآداب، وتصف الرواية ارتباك مدينة وهران الجزائرية بسبب الوباء القاتل وأمام دافن الموت الجماعية يطرح ألبير كامو أسئلة الوجود والموت والحياة، ويذهب النقاد إلى أن الكاتب الفرنسي “ألبير كامو” استعار رمزية الوباء للدلالة على كل خطر يحدق بالإنسانية سواء أكان حربا أو جوعا أو وباء.
ما أشبه أحداث الأمس بأحداث اليوم بل وما أشبه الليلة بالبارحة !!
تعليقات الزوار ( 0 )