Share
  • Link copied

الهوية الثقافية والعوالم الثلاثة

يُعرّف العلماء الصنافة، بأنها علم تمييز الكائنات والظواهر وتصنيفها حسب مقوماتها وخصائصها. وأعتبر التصنيف الثنائي أصل كل التصنيفات وقاعدتها الأساسية: الدال والمدلول مثلا، يمكن إضافة طرف آخر إليه (الدال/ المدلول/ المرجع) مثلا. وفي تصوري التصنيفي للهوية الثقافية التاريخية اعتمدت عدة مؤشرات من بينها: التاريخية، والاستمرارية في الزمن، والشمولية. وتبعا لذلك وضحت أن الهويات الثقافية التاريخية في زمننا هذا، تتحدد من خلال الهوية الغربية والآسيوية والعربية الإسلامية. إنها تشترك جميعا في كونها تتسع لفضاءات جغرافية متعددة، وذات أصول تاريخية ساهمت فيها إثنيات متنوعة، وتشكل متخيلا ومعتقدا موحدا لكل من ينتمي إليها ثقافيا إلى الآن. ولهذا فهي في نظري ثابتة، رغم ما يمكن أن يطرأ عليها من تحولات نتيجة تفاعلها مع غيرها من الهويات المعاصرة لها.

لكن يمكننا في الوقت نفسه أن نتحدث عن هويات عابرة، تتحقق في زمن ما بسبب ظروف خاصة أملتها شروط التحولات السياسية والاقتصادية، فتتعدى الهوية الثقافية التاريخية، وإن كانت لا تلغيها، فبعد الحرب العالمية الثانية أدت نتيجتها إلى بروز ثلاثة عوالم على الصعيد العالمي: الرأسمالية والاشتراكية ودول عدم الانحياز (1955). وفي التصنيف الغربي صار التمييز ينبني على اصطفاف أمريكا وحلفائها، والاتحاد السوفييتي، ودول العالم الثالث ثالثا. لكن صين ماو تسي تونغ، في أواسط السبعينيات من القرن الماضي، عملت من خلال ما عرف بنظرية العوالم الثلاثة على إدراج أمريكا والاتحاد السوفييتي في العالم الأول، وحلفاء كل منهما في العالم الثاني، خاصة اليابان وكندا وأستراليا. وفي العالم الثالث دول عدم الانحياز. سادت خلال هذه الحقبة التاريخية الحرب الباردة بين العالمين الأول الثاني، حسب التصنيف الغربي، أو الصيني، أي بين الرأسمالية والاشتراكية. ولما سقط الاتحاد السوفييتي، والتحولات التي عرفها النظام الاشتراكي منذ بداية التسعينيات، بدأ يتردد الحديث عن هيمنة القطب الواحد ممثلا في أمريكا، وحلفائها في الغرب.

في كل هذه الصيرورة نجد أنفسنا أمام تصنيف ثنائي للعوالم المعاصرة، فهو الأساس لأنه هو الفاعل في مختلف العلاقات السياسية والاقتصادية، والتحالفات والصراعات. بينما ظل العالم الثالث، مستقطبا إما إلى العالم الأول أو الثاني. وعلى صعيد الثقافة والفكر هيمن في الغرب وفي بعض دول العالم الثالث الفكر «الاشتراكي» منحازا بصورة كبيرة إلى الاتحاد السوفييتي، أو نسبيا إلى الصين مع الانتصار إلى نظرية العوالم الثلاثة لدى بعض المثقفين.

أما على الصعيد العربي، وبوصول بعض الأنظمة الجمهورية إلى السلطة عن طريق الانقلاب العسكري، كان الانحياز إلى المنظومة الاشتراكية، وظهرت حركات وأحزاب يسارية تنادي بالحرية والاشتراكية والوحدة. إن الانحياز إلى هذه «الهوية» التي فرضتها الحرب الباردة على المستوى العربي، كان على حساب الهوية الثقافية التاريخية العربية الإسلامية، التي لم يتم التفكير في تجديدها أو تطويرها لتتلاءم مع المتطلبات العالمية. وما إن سقطت المنظومة الاشتراكية، وعمل التدخل الأمريكي على تدمير العراق، وانحسار الدور السوفييتي في منطقة الشرق الأوسط، حتى كان لكل ذلك أثره على الصعيد العربي فبرز التيار الإسلامي، محاولا فرض وجوده على الساحة العربية. وفي غياب أي إبدال ثقافي أو فكري يمكن أن يحدد هوية مغايرة وفاعلة، كما كان سائدا منذ الخمسينيات إلى التسعينيات، سيحدث الاضطراب على الصعيد العربي، فتبرز أشكال من الهويات التي تعارض بعض الشعارات التي هيمنت في السبعينيات (القومية ـ الوحدة) وتعوض بالبحث عن الهويات الخاصة والعرقية والطائفية، من جهة. ومن جهة أخرى في مواجهة الاشتراكية ستهيمن الصحوة الإسلامية التي ستصبح متصلة بالإرهاب، وتعمل أمريكا وحلفاؤها على التصدي لها بدعم الأنظمة العربية نفسها.
أمام تصاعد الحديث عن العولمة، وهيمنة القطب الواحد، وقعت تحولات سياسية في روسيا وتركيا أدت إلى تغير في توجه سياسي يسعى لفرض وجوده داخليا أولا، وخارجيا بعد ذلك باستعادة الحلم الروسي والعثماني، وكان للتغير الكبير الذي عرفته الصين على مستوى الاقتصاد العالمي أن بدأت تتشكل صورة جديدة للتقاطب على الصعيد العالمي، أمام استمرار الهيمنة الأمريكية. أما على الصعيد العربي ـ الإسلامي فقد استنزفت الحرب على الإرهاب كل الإمكانات الممكنة للتحول، ومع الربيع العربي لم يكن التوجه الإسلامي الذي فرض نفسه بقادر على إحداث أي تحول، كما وقع في تركيا مثلا، يمكن أن يعطي مسارا جديدا لموقع الهوية الثقافية التاريخية في العصر الحديث. فلا دور للجامعة العربية، ولا وجود لاتحاد المغرب العربي، ولا مكانة لمنظمة العالم الإسلامي في ما يجري على الصعيد العالمي. فالصراع بين الدول العربية، والانقسامات داخل الأحزاب، والحروب الداخلية لا يمكن أن تتولد عنها سوى الطائفية، والدعوات العرقية، والتسيب الفكري والثقافي، وانسداد أي أفق للتحول.

تدفعنا قمة بريكس 2023 إلى التساؤل عن الثابت والمتحول في الهوية الثقافية التاريخية؟ أعتبر القمة محاولة لتصنيف جديد، لكنه عابر وطارئ، لأنه وإن انبنى على خلفية اقتصادية لا يمكنه أن يتعدى الهوية التاريخية التي يتحدد التقاطب على أساسها. إن التصنيف الثنائي الحقيقي سيغدو بين الصين وأمريكا، وما خلاه ظلال.

Share
  • Link copied
المقال التالي