ناقشت الباحثة يسرى الهراق أطروحتها لنيل الدكتوراه بعنوان : “الشرط الإنساني ومشكلة الشر في فلسفة حنة آرندت” في الفلسفة السياسية بكلية الأدب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء تحت إشراف الدكتور نبيل فازيو.
وحصلت الهراق على شهادة الدكتوراه في الفلسفة بدرجة مشرف جدا أمام لجنة مؤلفة من المشرف الدكتور نبيل فازيو، والدكتور أحمد كازا، والدكتور عبد اللطيف فتح الدين، والدكتور احمد الرياضي.
ويهدف البحث الذي اختارت له الباحثة يسرى الهراق عنوان: “الشرط الإنساني ومشكلة الشر في فلسفة حنة آرندت”. إلى التفصيل في مسألة الانقلاب الذي عرفه الشرط الإنساني، وعلاقته باستفحال الشر في العالم. والحديث عن مشكل الشر في فلسفة آرندت يتطلب بالضرورة العودة إلى كل أعمالها خاصة كتبها: “الشرط الإنساني” و”أيخمان في القدس: تقرير حول ابتذال الشر” المسؤولية والحكم، وكتاب حياة العقل بجزأيه، وأعمال فلاسفة سابقين لها، وأيضا متابعة الأحداث والتغيرات والمفارقات والإشكالات والتوجهات التي شكلت ملامح القرن العشرين.
على هذا الأساس سعت الأطروحة للإجابة عن الاشكالات المركزية التالية: كيف يمكن تفسير تدمير العقل الحداثي لنفسه بحيث أصبحت الإنسانية تتخبط في عهد جديد من الشرور؟ كيف عالجت آرندت مفهوم الشر على ضوء النظرية السياسية؟ أليس الشر خطرا يتربص بالطبيعة الإنسانية كلما فقدت قدرتها على التفكير وتحكيم العقل؟ وبأي معنى يمكن اعتبار عبارة ابتذال الشر إجابة عن الإحراج الأخلاقي والقانوني الذي أثارته محاكمة أيخمان؟
ولسبر أغوار هذه الإشكاليات، تم تقسيم البحث إلى ثلاثة أقسام، يقوم القسم الأول على فكرة أن مقاربة آرندت للشر تتميز في كونها، أولا: تدخل ضمن إطار فلسفي عام عرفته الفلسفة الغربية المعاصرة منذ منعطف هيدغر ونيتشه، وهو منعطف إعادة النظر في الحداثة الغربية ومسلماتها، والذي سيطلق عليه فيما بعد بمفهوم “ما بعد الحداثة”. وثانيا: في كون أن تصورها للشر كان سليل الأزمة السياسة التي واجهتها الفلسفة المعاصرة، والتي تتجلى في الجرائم الكبرى التي عاصرتها في خضم صعود الأنظمة التوتاليتارية، وفي تشريحها لبعض الظواهر السياسية كالعنف، والثورة، والعصيان المدني وغيرها، وفي تحليلها لواقعة محاكمة أيخمان.
فالصيغة الفينومينولوجية التي اعتمدتها انصبت على وصف الشر كظاهرة محايثة للوضع البشري من جهة، ومن جهة أخرى، نزعت إلى تأويل الشر باعتباره انحصارا للفعل، وذلك من خلال الوقوف على السياق الاجتماعي والسياسي المنتج له، وتعرية آثاره المدمرة كمحاولة لتحجيمه، ونشر قيم الصفح والتسامح والتعايش والاعتراف المتبادل بين الأفراد والجماعات والدول.
أما القسم الثاني يركز على التوجهين الذين اتخذتهما آرندت لمعالجة مفهوم الشر، يهدف التوجه الأول إلى تبيان دور النظام التوتاليتاري في القضاء على الفعل الإنساني ومسخ الانسان، وبناء عليه اعتبرت آرندت أن الشر فعلا جذريا سياسيا، ولا تعني كلمة جذري أنه فعل متجذر في طبيعة الإنسان، وإنما تعني أنه فعل جذري راديكالي تجاوز الفهم الإنساني، وما يمكن أن يعاقب عليه القانون، فالجذرية تعني هنا القدرة على إقناع العقل الإنساني على الاستقالة من فعله الطبيعي المتمثل في التفكير، وجعل مرتكب الجرائم غير مدرك لفظاعتها، وإنما يتعامل معها كأوامر إدارية يجب تطبيقها.
أما التوجه الثاني جاء بعد أن شهدت آرندت محاكمة أيخمان، حيث توصلت إلى استنتاج أن الشر لا يصدر عن حقد أو رغبة في إلحاق الأذى، بل إن الأسباب التي تجعل الناس يتصرفون بهذه الطريقة هي أنهم ضحايا فشلوا في تحكيم العقل، وهذا الفشل تلعب فيه الأنظمة التوتاليتارية دورا كبيرا، فتمكنت من قتل الحيوان السياسي في الإنسان واحتفظت فقط بمظهره الخارجي. على هذا الأساس قامت آرندت بتحليل سلوك أيخمان الرجل العادي، ونحتت بعدها مفهوم “ابتذال الشر”، الذي يتعارض مع “الشر الجذري”.
ويركز القسم الثالث من البحث على الحل الذي قدمته آرندت لهيمنة الشر على وضع الإنسان المعاصر، حيث عادت لجواب أنواري في صيغة فينومينولوجية، وراهنت على الفكر كحل لمشكلة الشر، ولكي لا تعاد تجربة أيخمان في التاريخ، تدعو آرندت للصفح المقرون بالوعد وللفكر باعتباره المنقذ الذي يمكن أن يخلص هشاشة الشرط الإنساني من الوقوع في شراك الشر، فأزمة أيخمان تكمن في كونه فقد القدرة على التمييز بين الخير والشر، بل كان يعتبر أن الفضيلة تتجلى في تطبيق القوانين والأوامر، والالتزام بعدم طرح الأسئلة، لهذا نحتاج إلى تفكير جديد لا يقوم على أحكام القيمة، إنما نحتاج إلى تفكير في مجال الحرية والإرادة من زاوية سياسية، لا من زاوية أخلاقية كانطية محضة، أي التفكير ضد النزوع نحو الانتقام والعنف الذي تغذيهما الأنظمة البيروقراطية والتوتاليتارية.
ومن الأهداف التي تتوخاها الباحثة الهراق من هذا العمل استثمار أهمية الرؤى التي طرحتها آرندت لتجديد الفكر السياسي والأخلاقي المعاصر، وفتح كل النقاشات ذات العلاقة مع العمق الذي أثارته ضمن مساجلاتها وأعمالها، لأهميتها في إثارة الأسئلة الحقيقية التي يحتاجها الفاعل السياسي في الزمن الراهن، فالحاجة إلى الدراسات النظرية لتجديد الفكر السياسي والأخلاقي تطرحها التجارب السياسية الحالية، حيث أن السياسي يحتاج للبحث في العديد من القضايا التي تشكل مصدر نزاع بين مختلف الفئات.
وبهذا الملمح التعددي الذي يطرحه الشرط الإنساني يستطيع السياسي أن يراقب نفسه بنفسه، الأمر الذي يمكنه من تجنب الوقوع في شراك الشر وأهواله. ويمكن تبرير راهنية العودة إلى آرندت في كون أن لفلسفتها دورا مهما في العمل على تجاوز الفكر السياسي الكلاسيكي، ومحاولتها تأسيس نظام سياسي جديد تسوده الحرية والصفح واحترام حقوق الإنسان.
تعليقات الزوار ( 0 )