من عمق أزمة الجائحة العالمية لفيروس كورونا، تطفو على سطح المجتمعات تجاذبات لفهم الظاهرة ومحاولة “التفاوض” الاجتماعي مع آثارها. وإن كان البعد الطبي والصحي هو السائد بشكل أكبر في قاموس العالم لسنة 2020، فإن مواجهة الوباء فجرت ينابيع التواصل والخطاب بجميع لغات المجتمع الواحد، الكاشفة والمضمرة، العلمية العقلانية و الميتافيزيقية، الحداثية العصرية المعلمنة والتقليدية المحافظة المتدينة.
ولعل المتتبع للزحف التواصلي بشأن الوباء، يلاحظ تفاوت ملموس في سرعات المخاطبين الاجتماعيين، واختلاط غير منسجم لجرعات خطابية تتأرجح في معظمها مابين عناصر لغوية تقليدية محافظة عاطفية رحجت، بشكل ملحوظ، استعمال المدلول الديني القيمي، وما بين عناصر لغوية تقدمية تميل إلى استعمال الاستدلال العقلي العلمي غير المتدين.
لاختبار سؤال الخطاب الاجتماعي المواكب لأزمة كورونا، ولمحاولة رسم خطوط تماس وتمايز بين الخطاب التقليدي المحافظ والخطاب الحداثي التقدمي، حاورت بناصا أستاذ علم السياسة بكلية الحقوق بالجديدة الدكتور محمد الهاشمي، لمحاولة كشف بعض العناصر الوصفية والإشكالية في هذا الموضوع.
وفيما يلي نص الحوار.
هل تلاحظون تراجعا للخطاب الذي يصف نفسه بالحداثي التقدمي بالمغرب في زمن كورونا، وارتفاع الخطاب المحافظ بقوة فيما يتعلق بالعودة للقيم وللدين وغيرها؟
أعتقد أنه من الصعب الحديث عن تراجع الخطاب الحداثي مع ظهور أزمة كورونا، لأن الحديث عن تراجعه يعني ضمنيا أنه كان حاضرا بقوة قبل هذه الأزمة، و هو أمر غير دقيق. يمكن القول أن ما يمكن أن نسميه خطابا حداثيا /تقدميا قد بدأ يفقد قدرته على تأطير بعض قطاعات المجتمع مع التحولات التي عرفتها الجامعة بشكل متسارع نهاية الثمانينات و بداية التسعينات التي شهدت صعود التيار الإسلامي، و بداية هيمنته على الجامعة، و قد تكرس هذا المنحى مع الانهيار الدراماتيكي لأحزاب اليسار و خاصة الاتحاد الاشتراكي ، الذي لم يكن يشكل قوة سياسية فحسب ، بل أيضا قوة فكرية و ثقافية ، بل يمكن القول أن التجذر المجتمعي للاتحاد الاشتراكي و اليسار عموما يمكن تفسيره بقدرته على إنتاج الأفكار و التعبئة بواسطتها و لعل هذه خاصية التيارات اليسارية في جميع أنحاء العالم بشكل عام.
لا يتعلق الأمر إذن بصعود الخطاب المحافظ لأنه هو المهيمن على أغلب مؤسسات التنشئة الاجتماعية، و على رأسها المدرسة و المسجد. و من هنا، فان الاعتماد على الدين كملاذ في سياق الأزمة الصحية غير المسبوقة التي نعيشها هو تحصيل حاصل و نتيجة طبيعية في اللحظة الراهنة من تطور الذهنيات في المغرب و في الدول ذات البنية الثقافية المشابهة. و عموما يمكن القول أن هيمنة الخطاب المحافظ في بعده الديني خصوصا، تعود إلى ضعف حضور العلم، أقصد الفكر العلمي طبعا، في نظرة الإنسان للعالم في فضائنا الثقافي. ولعل هذا أبرز وأخطر أعطاب العقل العربي التي تحدث عنها الراحل عابد الجابري في تفكيكه للعقلية الأشعرية التي تقبل بالنتائج التطبيقية للعلم لكنها ترفض مبادئه، أعتقد أن هذا المعطى لازال حاضرا بقوة و يشكل السمة البارزة لما يمكن أن نسميه العقل الجمعي المغربي، السبب الثاني لبروز دور الدين في هذه الأزمة، يعود في نظري، إلى الطبيعة القياميةapocalyptique للتهديد الذي تشكله أزمة كورونا، إذ أن الطبيعة الغامضة للفيروس، التي تغذيها نظرية المؤامرة، و سرعة نطاق انتشاره، والتغيير الجذري و الفجائي لنمط عيش ملايير البشر، كلها عوامل تذكي الشعور بنوع من الخوف غير العادي، الخوف الناجم عن العجز أمام تهديد وجودي. لاشك أن تجربة الخوف من هذا النوع تجعل الدين يشكل ملاذا أخيرا للعديد من الناس، و لا يتعلق الأمر بدين معين بل بجميع الأديان. فقد رأينا كيف انبرى بعض رجال الدين من المسيحيين و اليهود مثلا إلى طمأنة أتباعهم أن كورونا لا يصيب أتباع هذه الديانات و هو ما لاحظناه كذلك في بروز ادعاءات من هذا القبيل لدى بعض الدعاة المسلمين سنة وشيعة.
هل يعتبر الخطاب التقليدي المحافظ الذي أظهر قوة الجماعة و تهميش الفرد، خزانا أكثر قوة وتماسكا لخلق الوحدة ورص الصفوف لمواجهة الازمات الكبرى وماهي مميزات هذا الخطاب عن الخطاب العلماني والحداثي؟
ان هيمنة نمط التفكير المحافظ لا يعني أن المجتمع المغربي مجتمع محافظ بالضرورة، ان شخصية الإنسان المغربي، منظورا إليها من زاوية طريقة تفكيره، تبدو أقرب ما تكون الى تركيبة فريدة يتعايش فيه الدين مع العديد من مظاهر الحداثة، بل يمكن القول أن الدين كمحدد بنظرة الانسان للعالم يوجد في حالة كمون حتى لدى بعض التيارات اليسارية التي تنتج خطابا مختلفا، يمنح من العقلية الغربية. لكن بالمقابل هناك نزوعات أكثر براغماتية فيما يتعلق بأنماط السلوك لدى فئات واسعة من المغاربة بصرف النظر عن نمط تدينهم. إن هذه الازدواجية بين نمط تفكير تقليدي و سلوك براغماتي عقلاني هي ربما السمة الغالبة على فئات واسعة من المجتمع المغربي، و لذلك يمكن القول أن مقولة المجتمع المركب التي صاغها الراحل بول باسكون لا زالت ذات راهنية في قراءة تطور الذهنيات في المغرب، فالطابع المركب للمجتمع المغربي لا يتعلق بالبنيات و أنماط العلاقات الاجتماعية فحسب بل كذلك على مستوى الذهنيات و أنماط التفكير.
أعتقد أن هذه الازدواجية ربما تكون في بعض أبعادها قاسما مشتركا بين أغلب المجتمعات العربية الإسلامية، التي لم تخرج بعد عن إطار العقل التوفيقي الذي يظل السمة البارزة للعقل العربي منذ تجربة الاصطدام بالفلسفة اليونانية مع الكندية و مشروع بيت الحكمة في بغداد إلى يومنا هذا. إن طغيان النزعة التوفيقية تعذر بناء مشروع فكري قادر على إقامة القطائع الضرورية هو ما يجعلنا نعيش هذه الازدواجية التي تخترق أغلب مناحي الحياة في المجتمع المغربي ، وهذا بالضبط ما يجعل المغربي يعيش العلمانية و يمارسها في حياته اليومية ، لكنه يرخصها كفكرة و مبدأ.
هل هذا يوحي بتراجع أفكار الحداثة وعدم صمودها أمام الأزمات الكبرى خصوصا أن الغرب الحداثي ظهرت فيه أنانية مفرطة ضد قيم الحقوق الإنسانية حسب المتتبعين؟
أعتقد أن القول بتراجع القيم الحداثة في الغرب بعد أزمة كورونا فكرة تنطوي على الكثير من الغموض و العمومية. أعتقد أن الشيء الوحيد المؤكد هو أن عالم ما بعد كورونا سيكون مختلفا لكن من السابق لأوانه الحديث عن تفاصيل هذا التغيير و المدى الذي قد يصل إليه. و لا يعرف ما إذا كان تأثير الأزمة سيصل إلى حد تغيير وعي الغرب بذاته و إعادة تشكيل منظومة العلاقات داخل المجتمعات أو على مستوى العلاقات بين الدول. هناك كلام كثير حول إمكانية تفكك الاتحاد الأوروبي بعد كورونا غير أن هذا مجرد سيناريو من بين سيناريوهات أخرى. يمكن لأزمة أن تؤدي إلى بداية تفكك التكتلات الإقليمية و أن تحفز على الإنكفاء على الذات و تراجع مد العولمة démondialisation والإتجاه نحو تفكيك سلاسل الإنتاج العابرة للحدود والتوسيع التدريجي لهامش الإعتماد على الذات في السياسات الإقتصاديةEconomic self reliance، لكنها يمكن أيضا أن تعزز الحاجة إلى مزيد من التضامن و التعاون و مزيد من الوعي بوحدة المصير. في هذه الحالة، فان الأزمة الحالية ستؤدي الى إعادة بناء العولمة على أسس جديدة، تسمح بتجاوز التفاوتات الرهيبة التي أفرزها النمط النيولبرالي للعولمة. أعتقد أن كلا السيناريوهين قابلان للتحقق و ترجيح أحدهما على الآخر يتوقف على الطريقة التي ستتطور بها الأزمة في الأشهر المقبلة.
أما على مستوى نظام العلاقات الاجتماعية فيمكن القول أن مظاهر الأنانية التي برزت مؤخرا تبقى مرتبطة بصدمة التغيير المفاجئ الذي أحدثته الأزمة و من الصعب القول بأنها تعبر عن تحول جذري في نظام القيم الذي يعلي من شأن الحريات العامة و الفردية.
هناك مشاهد عالمية لعودة الروح للمؤسسات الدينية في تأطير الجماهير لمحاربة تفشي الفيروس على ماذا يدل هذا في نظركم؟
من الصعب تقييم تأثير هذه الأزمة على القيم المحورية في المجتمعات الغربية في اتجاه تراجع الفردانية في الوقت الراهن، على اعتبار أن الأمر هنا يتعلق برصد الاتجاهات العميقة للتغير الاجتماعي deep trends التي تأخذ وقتا طويلا ونادرا ما تحدث بشكل عنيف وفجائي. لذلك يمكن القول ان ما يلاحظ من سلوكات وأفكار وتصريحات لمسؤولين هي اقرب ما تكون الى ردود فعل مباشرة على صدمة كوفيد 19 أكثر منها تحولات بالمعنى السوسيولوجي للكلمة. التحولات ستأخذ وقتا أطول وستحددها مجموعة من المتغيرات أهمها طول مدة الحجر وقدرة الدول على التحكم في الاثار الاقتصادية لإجراءات التباعد الاجتماعي، إضافة الى شكل الحياة بعد الأزمة.
على العموم يمكن القول أن لاشئ سيعود كما كان لكن من غير السابق لأوانه تحديد ملامح مستقبل العالم مابعد كورونا. يعلمنا التاريخ أنه لا يعيد نفسه أبدا، وأن المستقبل لايمكن أن يكون عودة إلى شيء ما بل يكون دائما عبارة عن شيء جديد لا يحتوي على عناصر القديم إلا بقدر ما يستعملها لتجاوزه. بهذا المعنى لايبدو أن مابعد كورونا سيفضي إلى تفكيك النظام المؤسساتي والقيمي الحالي ليعود إلى إعلاء القيم الجماعاتية valeurs communautaires ، على افتراض أنه غير موجودة في المجتمعات الغربية، بقدر ما سيعيد بناء العلاقة بين الفرد والجماعة وفق أسس جديدة. إن الأمر في نهاية المطاف يتعلق بإعادة بناء توازن جديد بين الفرد والجماعة وليس تهميش أحدهما على حساب الآخر.
تعليقات الزوار ( 0 )