شارك المقال
  • تم النسخ

النبوة لا تحتاج إلى دليل فهي نفسها الدليل!

وأنا في عطلتي الصيفية أحاول الابتعاد عن  الضغط الفكري والمهني  ، أثارني نقاش  انتشر انتشار النار في الهشيم في  اليوتيوب. ووسائل التواصل الاجتماعي  حول مكالمة  بين ملحد وشيخ من شيوخ اليوتيوب  كشفت عن  استراتيجية الالحاد المغربي الجديد ،لمأزقة الدين والمتدينين، عن طريق  إنشاء منتديات على الفيايسبوك،وقنوات على اليوتيوب ، واستهداف الشيوخ  عبر المكالمات الملغومة ، وهم في هذه السيناريوهات قد يوفقون تكتيكيا في إحراج ، هؤلاء الشيوخ ، والذين هم في حقيقتهم ليسوا شيوخا بالمعنى  الحقيقي ،بقدر ما هم ظواهر صوتية ، فأغلبهم دعاة ، ليسوا من أهل الاختصاص والعلم الحقيقي ، بقدر ما هم. أصحاب قنوات يعتمدون على خضوع الأتباع من العوام ، لوعظياتهم، اكتسبوا رمزيتهم من طرابيشعم ولحاهم الطويلة ،وليس من أطروحاتهم الأكاديمية والعلمية ، وبالتالي فإن استهداف الملحدين لهذه  العينة يعطيهم تفوقا شكليا ،لكنه مؤثر ، إعلاميا ، لأن العلماء الحقيقيون أصحاب الكراسي العلمية ،في ميادين الفكر الاسلامي والفلسفة وعلم الكلام ، واصول الفقه، لا يعرفهم أحد ،وإن كانوا معترفا بهم في الأوساط الجامعية الأكاديمية  الوطنية والدولية ، وعلى مستوى المجلات العلمية المحكمة ، مما يكشف عن ضعف بضاعة المستهدفين، ويحدث بلبلة في الجمهور ، لكن ما يحققه الالحاد من نتائج تبدو. أنها انتصار ،يبقى انتصارا شكليا من قش لأنه إنما حارب  فرسانا  مزيفين ،يحاربون بسيوف ورقية ،  في حوارات  لا يتحقق فيها أدنى شروط المحاججة والمناظرة.

ثم إن هذا الالحاد  إنما. تفوق افتراضيا ،في نقاش عابر ومسطح يفتقر إلى أبسط مقومات  المناظرة من تكافؤ  مستوى المتناظرين ومعرفة بعضهم لبعض ومن الاتفاق على الموضوع والاعداد له، والهدوء ، والمواجهة ،العلنية ، ووجود مدير.  للحوار ، محايد ، والاعلان عن هوية المتناظرين،واسمائهم وحقيقة  موقفهم الفكري والعقدي، وليس اخفاء الهوية والكذب ، للنقاش بقصد الخديعة  والمكر  وايقاع الخصم  في المصيدة ، وبالتالي فما جرى من مكالمة كان مجرد خديعة بين  مخادع  ومخدوع ، وبين من لا يعرف ومن لا يستحق.

ثم  إنه من جهة ثانية فإن الالحاد المغربي غير من  استراتيجيته، فبدل مناقشة الاصول المتعلقة بالتشكيكات في التوحيد ووجود الخالق من عدمه ، انتهج اسلوبا آخر هو التشكيك في النبوة وصدقيتها.

وهذا ليس اسلوبا جديدا كما قد يبدو ، للعموم ، وإنما هي اسئلة قديمة جدا كانت مثار نقاشات ومجادلات وحوارات نقلتها لنا كتب الملل والنحل ، ومنها ما  أثاره أبي بكر الرازي الطبيب الفيلسوف، في كتابه  الطب الروحاني   ،و في كتابين من كتبه المفقودة ، هما :(مخاريق الأنبياء أو حيل المتنبئين ) وقد صادف هذا الكتاب رواجاً لدى بعض الطوائف التي انتشرت فيها الزندقة والإلحاد ، وبخاصة القرامطة .أما الكتاب الثاني فهو (نقص الأديان أو في النبوات ) وقد بقي لنا منه بعض فقرات أوردها أبو حاتم الرازي في كتابه (أعلام النبوة ) . في انكاره. النبوة  و حاجة العقل الى الأنبياء ، وما أثاره كذلك ابن الراوندي في كتابه الدامغ ،وما جاء في حواراته مع المؤيد في  الدين هبة الله بن عمران  الاسماعيلي داعي الدعاة الفاطميين  في كتابه الضخم المعروف بالمجالس المؤدية ،والتي نقل أجزاء منها الدكتور عبد الرحمان بدوي في كتابه  من تاريخ الالحاد في الاسلام ، وهذه الاعتراضات على قد. أشبعت  بحثا وتنقيبا قديما وحديثا ، حول ضرورة الحاجة إلى النبي ودليل صدقية النبي على الاتصال بالله عن طريق الوحي ، وقد ألفت عشرات الكتب في تاريخ الفكر الإسلامي حول دلائل النبوة ،والحقيقة أن كل هذه الدلائل دلائل نقلية حديثية ،وليست دلائل عقلية منطقية ، ولذلك شكلت هذه النقطة ضعفا في العقل الاسلامي لأن هذا العقل لم يكن في حاجة إلى بحث هذه النقطة في أوج انتصار  الاسلام. على خصومه ، لكن كانت هناك محاولات خاضها العقلانيون المسلمين خاصة من الفلاسفة والمتكلمون المعتزلة ،كالخياط في كتابه الانتصار. في  الرد على كتاب الزمردة  لابن الراوندي ، والقاضي عبد الجبار  بن احمد الهمداني في كتابه تثبيت دلائل. النبوة  والعلاف والنظام  وغيرهم ، وتعتبر محاولة الفيلسوف الاسلامي الفارابي هي المحاولة الأكثر جدية. وعقلانية . وبدون اعتماد على النصوص الدينية.

وأمام هذه المحاولات التي تستهدف التشكيك في صحة النبوة أو إنكارها ، وقف مفكروا الإسلام على اختلاف مشاربهم يصدون هذه الحملات ، وصنفوا الكثير من الكتب في دلائل النبوة وإثباتها.

وحاول المشتغلون بالفلسفة في العالم الإسلامي أن يسهموا بدورهم في الرد على حملات الطعن في النبوة ، وذلك بأن يعرضوا تفسيراً عقلياً فلسفياً للوحي.

لقد كان الفارابي معاصراً للراوندي والرازي معاً ، ويروي المؤرخون أنه كتب ردين على كل منهما ، إلا أن هذي الردين لم يصلا إلينا.

ويعتبر الفارابي أول من طبع نظرية النبوة بطابع فلسفي ، وفصل القول فيها وكان لنظريته هذه تأثير كبير في خلفائه من فلاسفة الإسلام والمتكلمين والصوفية.

لقد كان فلاسفة الإسلام حريصين كل الحرص على أن يوفقوا بين الفلسفة والدين ، بين العقل والنقل ، بين لغة الأرض ولغة السماء ، لهذا لم يفتهم أن يشرحوا لغة السماء ويوضحوا كيفية وصولها إلى  المخاطبين بها  ، ويؤسسوا الدين  على أساس عقلي ، فكونوا نظرية النبوة التي هي أهم محاولة قاموا بها للتوفيق بين الفلسفة والدين.

وكان الفيلسوف الفارابي  هومن أول   من فصل القول فيها.

وتعتبر هذه النظرية هي أسمى جزء في مذهبه الفلسفي ، تقوم على دعائم من علم النفس وما وراء الطبيعة ، وتتصل اتصالاً وثيقاً بالسياسة والأخلاق . ذلك لأن الفارابي يفسر النبوة تفسيراً سيكلوجياً ، ويعدها وسيلة من وسائل الإتصال بين عالم الأرض وعالم السماء . ويرى فوق هذا أن النبي لازم لحياة المدينة الفاضلة من الناحية السياسية والأخلاقية ، فمنزلته لاترجع إلى سموه الشخصي فحسب ، بل لما له من أثر في المجتمع.

ونجد نظرية النبوة عند الفارابي تكون أكثر وضوحاً في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة )  حيث عقد فيه فصلين متكاملين (في سبب المنامات ) و ( في الوحي ورؤية الملك ) يرتفع في نهايتهما إلى النبوة محاولاً تفسيرها بشرح علمي فلسفي . حيث يجعل ( المخيلة ) قطب الرحى الذي تدور في محيطه نظرية النبوة وذلك على النحو التالي:

إن المخيلة متى انفردت بنفسها أثناء النوم ، عمدت إلى مالديها من مخزونات ذهنية وصور فقاربت بينها وركبتها وولدت منها صوراً جديدة منسجمة مع مزاج النائم وحالته النفسية ، مستعدة للإنفعال والتأثر .

فيحلم النائم مثلاً بالسباحة ، إذا كان مزاجه رطباً ، وبالقتال وخوض المعارك إذا كان في حال هياج عصبي وثورة نفسية .

جعل المخيلة سبيل اتصال النبي بالعقل الفعال .

يقول الفاربي : إن الإتصال بالعقل الفعال . ، وإن كان نادر الوجود وخاصاً بعظماء الرجال ، إلا أنه ميسور بطريقين :

طريق العقل وطريق المخيلة ، أو طريق التأمل وطريق الإلهام.

فبالنظر والتأمل يستطيع الإنسان أن يصعد إلى منزلة العقول العشرة ، وبالدراسة والبحث ترقى نفسه إلى درجة العقل المستقاد حيث تتقبل الأنوار الإلهية.

وليست النفوس كلها قادرة طبعاً على هذا الإتصال ، وإنما تسمو إليه الأرواح القدسية التي تستطيع أن تخترق حجب الغيب وتدرك عالم النور.

يقول الفارابي : الروح القدسية لاتشغلها جهة تحت عن جهة فوق ، ولايستغرق الحس الظاهر حسها الباطن ، وقد يتعدى تأثيرها من بدنها إلى أجسام العالم ومافيه ، وتقبل المعلومات من الروح والملائكة بلا تعليم من الناس.

فبفضل الدراسات النظرية الطويلة والتأملات العقلية الكثيرة يستطيع الحكيم الإتصال بالعقل الفعال ، وهذا الحكيم الواصل هو الذي يسمح الفارابي بأن يكل إليه مقاليد أمور مدينته ، وبهذا يحل ( صاحب المدينة الفاضلة ) ــ على طريقته ــ مشكلة الرئيس السياسي والإجتماعي ، وهو حل صوفي كما ترى ، وليس غريباً أن يصدر عن فيلسوف يقول بنظرية السعادة والإتصال.

فآراء الفارابي السياسية ، وإن ارتكزت  على دعائم أفلاطونية ، فهي  مشوبة بنزعة صوفية واضحة.

ويمكن عن طريق المخيلة أيضاً الإتصال بالعقل الفعال ، وهذه هي حالة الأنبياء ، فكل إلهاماتهم وما ينقلون إلينا من وحي منزل أثر من آثار المخيلة في الأحلام وتكوينها ، فإنا إن فسرنا الأحلام تفسيراً علمياً استطعنا أن نفسر النبوة وآثارها ، وذلك لأن الإلهامات النبوية إما أن تتم في حال النوم أو في حال اليقظة ، وبعبارة أخرى إما أن تبدو على صورة الرؤيا الصادقة أو الوحي ، والفرق بين هذين الطريقين نسبي ،والإختلاف بينهما في الرتبة لافي الحقيقة.

وما الرؤيا الصادقة إلا شعبة من شعب النبوة تمت إلى الوحي بصلة وتتحد معه في الغاية ، وإن اختلفت عنه في الوسيلة ، فإذا فسر أحدهما أمكن تفسير الآخر.

وقد عقد الفارابي في كتابه : ( آراء أهل المدينة الفاضلة ) فصلين متتاليين (في سبب المنامات ) ، ( وفي الوحي ورؤية الملك ) ، يصعد في نهايتهما إلى مرتبة النبوة محاولاً تأويلها وشرحها شرحاً علمياً فلسفياً.

فهو يبدأ أولاً بالأحلام فيوضحها توضيحاً يقرب كثيراً من بعض الآراء العلمية الحديثة ، ويرى أن المخيلة متى تخلصت من أعمال اليقظة تفرغت أثناء النوم لبعض الظواهر النفسية ، فتخلق صوراً جديدة أو تجمع ببعض الإحساسات والمشاعر الجسمية أو العواطف النفسية والمدركات العقلية ، فهي قوة مخترعة قادرة على الخلق والإيجاد والتصوير والتشكيل ، ولها أيضاً قدرة عظيمة على المحاكاة والتقليد ، وفيها استعداد كبير للإنفعال والتأثر.

فأحوال النائم العضوية والنفسية وإحساساته ذات أثر واضح في مخيلته . وبالتالي في تكوين أحلامه ، وما اختلفت الأحلام فيما بينها إلا لأختلاف العوامل المؤثرة فيها ، فنحلم بالماء أو السباحة مثلاً في لحظة يكون مزاجنا فيها رطباً.

وكثيراً ما مثلت الأحلام  تحقيق رغبة أو الفرار من فكرة بغيضة ، فقد يتحرك الإنسان أثناء نومه تلبية لنداء عاطفة خاصة ، أو يجاوز مرقده ويضرب شخصاً لايعرفه أو يجري وراءه ، وعلى الجملة الميول الكامنة والإحساسات السابقة أو المصاحبة لحلم ما ذات دخل عظيم في تكوينه وتشكليه … وإذا كان في مقدور المخيلة أن تحدث كل هذه الصور فهي تستطيع أن تشكلها بشكل العالم الروحاني ، فيرى النائم السموات ومن فيها ، ويشعر بما فيها من لذة وبهجة.

وفوق هذا قد تصعد المخيلة إلى هذا العالم وتتصل بالعقل الفعال الذي تتقبل منه الأحكام المتعلقة بالأعمال الجزئية والحوادث الفردية ، وبذا يكون التنبؤ ، وهذا الإتصال يحدث ليلاً ونهاراً ، وبه نفسر النبوة ، فهو مصدر الرؤيا الصادقة والوحي.

يقول الفارابي : أن القوة المتخيلة إذا كانت في إنسان ما قوية كاملة جداً ،وكانت المحسوسات الواردة عليها من خارج لاتستولي عليها استيلاء يستغرقها بأسرها ، ولايستخدمها للقوة الناطقة ، بل كان فيها مع اشتغالها بهذين فضل كثير تفعل به أيضاً أفعالها التي تخصها ، وكانت حالها عند اشتغالها بهذين  في وقت اليقظة مثل حالها عند تحللها منها في وقت النوم … اتصلت بالعقل الفعال وانعكست عليها منه صور في نهاية الجمال والكمال ، وقال الذي يرى ذلك إن الله عظمة جليلة عجيبة ، ورأى أشياء عجيبة ، لايمكن وجود واحد منها في سائر الموجودات أصلاً ، ولايمتنع إذا بلغت قوة الإنسان المتخيلة نهاية الكمال أن يقبل في يقظته عن العقل الفعال الجزئيات الحاضرة والمستقبلة أو محاكياتها من المحسوسات ، ويقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة ويراها ، فيكون له بما قبله من المعقولات نبوة بالأشياء الإلهية . وهذا هو أكمل المراتب التي تنتهي إليها القوة المتخيلة والتي يبلغها الإنسان بهذه القوة.

فميزة النبي الأولى في رأي الفارابي أن تكون له مخيلة قوية تمكنه من الإتصال بالعقل الفعال أثناء اليقظة وفي حال النوم ، وبهذه المخيلة يصل إلى مايصل إليه من إدراكات وحقائق تظهر على صورة الوحي أو الرؤيا الصادقة ، وليس الوحي شيء آخر سوى فيض من الله عن طريق العقل الفعال . وهناك أشخاص قويو المخيلة ، وقد يعز عليه أن يعربوا عما وقفوا عليه . أما العامة والدهماء فمخيلتهم ضعيفة هزيلة لاتسمو إلى درجة الإتصال هذه لافي الليل ولافي النهار.

هذه هي نظرية النبوة التي انتهى إليها الفارابي بعد بحوثه الإجتماعية والنفسية ، فالنبي والحكيم في رأيه هما الشخصان الصالحان لرياسة المدينة الفاضلة ، وكلاهما يحظى في الواقع بالإتصال بالعقل الفعال الذي هو مصدر الشرائع والقوانين الضرورية لنظام المجتمع ، وكل مابينهما من فرق أن الأول يحظى بهذا الإتصال عن طريق المخيلة والثاني عن طريق البحث والنظر .

ير ى بعض الباحثين أن الفارابي في نظرية النبوة قد تأثر بأرسطو وذلك من خلال رسالتا أرسطو وهما :

( رسالة الأحلام ) و ( رسالة التنبؤ بواسطة النوم ) حيث كانت الدعامة الأولى التي قامت عليها نظرية الأحلام والنبوة والفلسفة … فحديث الفارابي عن النوم وظواهره والأحلام وأسبابها لايدع مجالاً للشك في أنه متأثر بأرسطو وآخذ عنه .

فقد اعتنق الفارابي نظرية أرسطو في الأحلام ، وقال معه إنها أثر من آثار المخيلة ونتيجة من نتائجها . ولابد أن يكون قد لوحظ في التفاصيل والجزئيات تشابه واتصال أكثر من هذا بينه وبين الفيلسوف اليوناني ، فإن الفارابي يعتد بالميول والعواطف ويثبت مالها من أثر في تكوين الأحلام وتشكيلها ، ويرى كذلك أن للطبائع والأمزجة دخلاً كبيراً فيها ، وكل تلك أفكار رددها أرسطو ، من قبل .

إلا أن صاحب ( اللوقيوم ) ــ أرسطو ــ يجهد نفسه دائماً في أن يبعد عن مذهبه التفسيرات الدينية والتعليلات القائمة على قوى خفية وأسرار غامضة ، ونزعة الواقعية تغلب عليه في دراساته النفسية ، كما استولت عليه في بحوثه الطبيعية والأخلاقية ، لهذا نراه يرفض أن تكون الرؤى وحياً من عند الله ، ولايقبل مطلقاً التنبؤ بواسطة النوم . لأن الأحلام ليس مقصورة على طائفة دون أخرى ، وفي مقدور العامة والدهماء أن يدعوا التنبؤ بالغيب عن هذا الطريق ، وهذا لايسلم به أحد .

وهنا يفارق الفارابي أستاذه ويقرر أن الإنسان يستطيع بواسطة مخيلته الإتصال بالعالم العلوي واختراق حجب الغيب والوقوف على المكنون والخفي … وإذن متى توفر لدى شخص مخيلة ممتازة تمت له نبوءات في النهار والليل ، وأمكنه في حال اليقظة أن يتصل بالعقل الفعال مثل اتصاله به أثناء النوم ، بل ربما كان ذلك على شكل أوضح وصورة أكمل .

فالنبي في رأي الفارابي بشر منح مخيلة عظيمة تمكنه من الوقوف على الإلهامات السماوية في مختلف الظروف والأوقات .

 وعندما سئل ابن تيمية عن هذه النظرية ،خصص للإجابة عليها كتاب الصفدية ، أعلن فيه أنها باطلة ،

ويمكننا أن نجمل رده ــ رحمه الله ــ في عدة نقاط :

يقول رحمه الله : هي نظرية لادليل على صحتها مع أن منهجهم يقتضي تقديم الأدلة العقلية ولكن أقوالهم في هذا الصدد تعتمد على التجويز الذهني ، فإثبات قوى النفس لايوجب مثل هذه الآثار التي يدعون أنها المعجزات ، كما أنهم ينفون المعجزات التي وردت في الشرع ، دون ذكر أدلة ، والنافي عليه الدليل كما أن المثبت عليه الدليل ، فالذين ينفون المعجزات من الفلاسفة يلزمهم إقامة الدليل على نفيها … ولكن لادليل لهم ، وإنما كذبوا بمالم يحيطوا بعلمه ، وعدم العلم ليس علماً بالعدم ، وعدم الدليل ليس علماً بعدم المدلول عليه ، فإن عدم مايدل على الشيء المعين لايقتضي انتفاؤه .

يزعم الفلاسفة أن لقوى النفس تأثراً ، ولكنهم لايدعون أن تأثيرها يبلغ إلى أن ينزل ماء الطوفان الذي غرق أهل الأرض ، ولا أن يرسل الريح العقيم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً التي أهلكت عاد ، وغير ذلك من الأمور الكثيرة التي قصها الله مما تثبت المعجزات للأنبياء ، وأنها خارجة عن قوى النفس ، فإن الفلاسفة وسائر العقلاء متفقون على أن قوى النفس لاتفعل مثل هذا ، بلا ولاشيء من القوى المعروفة في العالم العلوي والسفلي .

 وفي إثبات أن الله فاعل مختار يفعل بمشيئته وقدرته ، يحدث مايشاء بحسب مشيئته وحكمته ، ليس موجباً بالذات ، فإن الموجب بالذات مستلزم لآثاره ، فيمتنع أن تتغير أفعاله عن القانون الطبيعي .

من يدعي أن خوارق الأنبياء من الإخبار بالغيب ، إنما هي من قوى النفس فهو لايخلو من أمرين : إما أن يكون مصدقاً للرسل فيما أخبروا به ، وإما أن يكون مكذباً لهم . فإن كان مكذباً لهم كان الكلام معه أولاً في تثبيت النبوات والإقراربها .

وهؤلاء الفلاسفة وأتباعهم من الباطنية يعظمون أمر الأنبياء ويقرون بصدقهم ، ويدعون أن ماجاءت به الأنبياء لايناقظ أصول الفلسفة ، أي أنهم يتفقون مع سائر أهل الملل على أن الأنبياء من أعلم الخلق بالحقائق ، ومن أبر الناس وأصدقهم . ومن المعلوم أن الرسل أخبرت بالملائكة والجن . وأنهم أحياء ناطقون ، وأنهم يأتون بأخبار الأمور الغائبة ، وأنهم يفعلون أفعالاً خارجة عن قدرة البشر ، فيلزم إذن التصديق بكل ما أخبرت به الرسل . ولكن الفلاسفة متناقضون في أمر النبوات ، فلاهم كذبوا بهم مطلقاً ، ولاصدقوهم مطلقاً ، فهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض .

وإذا كان الوحي  كما يزعم الفلاسفة تخيلاً في نفس النبي ، وليس له وجود في الخارج ، فحينئذ يكون النبي من آحاد المسلمين ، الذين يرون في المنام أنهم في السموات ، وأن الملائكة خاطبتهم ، ونحو ذلك مما يراه عامة الناس ، وإذن فلا يكون للنبي منزلة خاصة .

من المعلوم أن تأثير النفوس مشروط بإرادة هذه النفوس وشعورها ولكن خوارق العادات التي للأنبياء منها مالايكون للنبي شعوراً بها ، ومنها مالايكون مريداً لها ، فلا يكون ذلك من فعل نفسه . بل ومنها ما يكون قبل وجوده ، ومنها ما يكون بعد موته ، مثل ذلك قصة أصحاب الفيل الذين أرسل الله عليهم طيراً أبابيل ، وكان ذلك كرامة للنبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ وكان عام الفيل عام مولده وقد حدثت هذه الكرامة قبل مولده بنحو خمسين ليلة ، فلم تكن له قوة نفسانية يؤثر بها ، ولاشعور بما جرى ولا إرادة له في ذلك . وكذلك كان بقاء الكعبة ألوف السنين بعد موت من بناها كرامة لإبراهيم الخليل عليه السلام .

أن تعرف أن النبوة لاتنال باكتساب الإنسان واستعداده كما تنال بذلك العلوم المكتسبة والدين المكتسب ، فإن هؤلاء القوم ماقدروا الله حق قدره ، ولاقدروا الأنبياء قدرهم لما ظنوا أن الإنسان إذا كان فيه استعداد لكمال تزكية نفسه وإصلاحها فاض عليه بسبب ذلك المعارف من العقل الفعال كما يفيض الشعاع على المرآة المصقولة إذا جليبت وحوذي بها الشمس ، وأن حصول النبوة ليس هو أمر يحدثه الله بمشيئته وقدرته ، وإنما حصول هذا الفيض على هذا المستعد كحصول الشعاع على هذ الجسم الصقيل .

لكنني أقول في نهاية  هذا المقال ،إن السؤال عن دليل صدقية اتصال النبي بالله عن طريق الوحي  يبدو  سؤالا يكتسي مشروعية ظاهرية ،  لكنه سؤال يتضمن مغالطة منطقية ومفارقة عقلية،،لأنه يطلب دليلا ماديا ملموسا ، على أمر غيبي ، فهو كمن يحاول أن يزن البطاطس بميزان الذهب ، فأن يأتي شخص في هذا العصر  ويدعي أن له اتصال مع الخالق ، فإنه من المستحيل  ومن  الصعوبة جدا أن ينجح في هذا الأمر ، ما لم يأت بأدلة عقلية يقينية ، أو أن يتضمن إخباره عن الله بواسطة. الوحي حقائق عقلية يقينية  كبرى. لا يمكن دحضها ،  وكذلك لا يمكن القول أن  محمد صلى الله عليه وسلم نجح بسهولة في نشر الاسلام. فقط بالاستناد. الى القوة والسيف والعنف ،لأنه بشر. برسالته وحيدا ، ونجح  في  جعل قومه يصدقون رسالته ، وإن كذبوه في البداية واتهموه بالجنة والسحر والكهانة ، لكنه نجح في نهاية المطاف لما تضمنت رسالته من مبادئ أخلاقية  وحقائق   كونية عن البعث والمعاد،  والخلق والخالق ، والجنة  والنار ،  والتوحيد ،  ثم  إن ما يتعلق بأمور.  الإيمان. والغيبيات ، والله، يحتاج الى الجانب الحدسي الكشفي. التأملي ، والتجارب الروحية أكثر من  أن يتأسس على الحجج. المنطقية والفلسفية ،أو  الأدلية المادية الملموسة ، فتصديق علاقة النبي بالله عن طريق الوحي ،  تأسس تاريخيا  في سير الأنبياء. والأدعياء على مدى صدقية رسالتهم. وصوابيتها، أو كذبها،ومخالفتها للحس. والفطرة السليمة ،فإذ ما بشر نبي مثلا بالكذب والسحر والقتل والزنا ، والخيانة ،فإن رسالته هذه تكون باطلة ، لمخالفة مضمونها ،للعقل والأخلاق النبيلة والفطرة السليمة ،  أما في حالة النبي محمد ص فإن القرآن. وليس المعجزة الخارقة للعادة. هي الدليل  الأهم. والأوحد. على صدقية. اتصاله بالله عن طريق الوحي،  بالنظر. الى إعجاز هذا القرآن  البلاغي والعلمي وما تضمنه من حقائق يقينية كبرى حول الكون والحياة ، وما يحمله في حروفه من شحنات مؤثرة في النفس البشرية ، لا يخطأها كل ذي عقل سليم.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي