Share
  • Link copied

 المونديال القطري: المجتمع الثقافي

تتشابه الأحداث الكبرى في أنها تكشف عن حقيقة الأشياء والوقائع والناس، من جهة، وعن مدى قدرة الناس، وعلى رأسهم المسؤولون، على استخلاص الدروس والعبر، من أجل الأفضل والأحسن، من جهة أخرى. لا فرق في تصوري بين أحداث الربيع العربي، وكورونا، وما جرى في المونديال القطري. لقد أبرزت كل هذه الأحداث الانسجام والتفاعل الإيجابيين بين مقومات المجتمع المغربي، ومكوناته المختلفة. فكان للربيع العربي استثناء مغربي، بالقياس إلى ما جرى في مناطق عربية أخرى ما تزال تعاني من تداعياته إلى الآن. وفتحت كورونا صورا كثيرة للتعاون، وكشفت عن أصالة الشعب المغربي في الظروف الحرجة. وجاء المونديال القطري ليؤكد أن بالإمكان الحديث عن ألا شيء مستحيل على الشعب المغربي.

تحدث الجميع عن التنظيم المبهر الذي حققته قطر في مونديال 2022، وأبان أن بإمكان دولة عربية أن تكون في مستوى الحدث العالمي عكس ما كان يروج له الإعلام الدولي. كما أبرز المنتخب المغربي من خلال مشاركته في هذا المونديال، وتوفير الفرح العربي والإسلامي والأفريقي أن بإمكان اللعب الجيد، والتنظيم المحكم أن يفتحا آفاقا جديدة للحلم العربي والأفريقي، وأن بإمكان الإرادة الحقيقية، والإدارة السليمة أن تشرعا نوافذ جديدة للأمل والمستقبل، وتجاوز الصورة النمطية التي يكرسها الغرب عن الشعوب التي ساهم في نهب خيراتها قديما وحديثا.

أسيل مداد كثير، وانتشرت صور لا حصر لها حول التنظيم واللعب، وفتحت النقاشات على مصاريعها، واستخلصت دروس وعبر، وطرحت أسئلة كثيرة عن ضرورة اتخاذ الرياضة نموذجا للعمل في قطاعات أخرى ذات أبعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية. رأى كثيرون، وهم يقارنون بين الرياضة والثقافة أن سوء التدبير الثقافي، وإهمال كل ما يتصل بالثقافة بسبب إيلاء العناية الكبرى للرياضة هو ما أدى إلى تدني المستوى التعليمي والثقافي، وهم يطالبون بأن يعزز الاهتمام بالثقافة وبالتعليم إسوة بما يجري في الرياضة كي نحقق في المجال العلمي والأكاديمي والتربوي ما حققناه على المستوى الرياضي. لا يمكن أن يتحقق مجتمع ثقافي قادر على المنافسة عالميا، وتصل جامعاته إلى رتب عليا في ترتيب الجامعة الدولية المتطورة، بدون تطور على مستوى القطاعات الحيوية الأخرى. فكيف يمكن الوصول إلى المراتب العليا بدون تطوير المجتمع اقتصاديا، وردم الهوية بين الطبقات الاجتماعية؟ وكيف بالإمكان تحقيق ذلك اجتماعيا، والمجتمع السياسي مفكك ومعزول عن المجتمع؟

لقد ساهمت الحكومات المتعاقبة منذ أحداث 20 شباط (فبراير) 2011، وحتى قبلها، في ممارسة تنظيم سيء، ولعب مرتجل في تدبير قضايا المجتمع وعلى المستويات كافة. وحين نقول الحكومات نعني المجتمع السياسي بالدرجة الأولى، من خلال ممارسة مختلف الأحزاب دورا سلبيا في تخليق الحياة، وتنظيم المجتمع، وهي تنشغل فقط بالرغبة في الحصول على السلطة والفرح بالمناصب، وتوزيع الغنائم. فلم يبق همها الأساس هو الارتقاء بالوعي الاجتماعي إلى مستوى أحسن وتوفير العيش الأفضل لكل المواطنين. كانت عزلة المجتمع السياسي عن الهموم الشعبية المركزية تدفع في اتجاه عزلة المثقف وابتعاده عن الثقافة والسياسة معا. هذا الشرخ بين المجتمعين ساهم بشكل كبير في التردي الذي يؤكده ويسلم به الجميع سواء على مستوى تدني المدرسة العمومية، أو مشاركة الجامعة المغربية في أن تكون رافعة للتنمية وتطوير المجتمع. ورغم هذه الصورة السلبية نجد باحثينا ومثقفينا يحتلون مواقع هامة على الصعيد العربي، وينالون جوائز عربية، وآخرها جائزة الملك فيصل التي حصل عليها الكاتب عبد الفتاح كيليطو في مجال الدراسات الأدبية، دون أن يكون لها أي صدى في الإعلام المغربي.

أرى أن المقارنة بين الرياضة والثقافة غير مناسبة لأن لكل منهما خصوصيتها الخاصة. لكن عدم الاهتمام بما هو ثقافي وفني وعلمي لا يمكنه أن يسهم في جعل ما حققناه رياضيا دالا على ما يزخر به المغرب الثقافي من إمكانات واعدة وطاقات هائلة. فإلى متى سنظل نتحدث عن هجرة الأدمغة في الطب والهندسة، دون أن يكون لها أي دور تلعبه وطنيا؟ وحتَّام نظل نتحدث عن مشكلة المدرسة والتعليم العمومي، ونشجع التعليم الخصوصي الذي يغذي خريجوه البلدان التي يهاجرون إليها دون ان تكون لهم أي مساهمة في المشاركة في “المنتخب” العلمي والثقافي الوطني بارتداء اللباس الوطني؟ ولا حصر للأسئلة التي يمكن طرحها في هذا السبيل، منفردة وخاصة بكل ما هو علمي وثقافي وفني، أو مجتمعة عبر مقارنتها بما يجري في الرياضة.

يكاد يتفق الجميع أن ما تحقق على مستوى كرة القدم المغربية من خلال المونديال القطري يعود إلى عدة عوامل برزت في أكاديمية محمد السادس لكرة القدم، وفي توفير البنيات التحتية الملائمة، وفي تشجيع الرياضة. فهل عندنا أكاديمية للآداب والفنون والعلوم الإنسانية؟ لتكوين أطر في البحث؟ ومبدعين من الطراز الرفيع في الإنتاج الأدبي والفني بمختلف أجناسه وأنواعه؟ وهل عندنا بنيات تحتية ثقافية تناظر ملاعب القرب، والملاعب الكبرى المحلية؟ صحيح صار عندنا الآن في المغرب مسرح من مستوى راق. فما هي العروض المسرحية التي سيقدمها في غياب تطوير الثقافة، وإعداد المثقفين؟

إن ما تحقق في المونديال القطري يبرز، في رأيي، بصورة واضحة أولا في اعتماد المدرب الوطني، وثانيا في خلق الفريق المنسجم، وثالثا في التشبث بالروح الوطنية. الحديث عن الأمهات، والجمهور عناصر مكملة. أقارن المدرب الوطني الذي يمتلك المعرفة والخبرة بالشيخ في ثقافتنا العربية الإسلامية، والفريق والطاقم المصاحب بالمريد. إن علاقة الشيخ بالمريد علاقة إنسانية، وتعني التفاعل الإيجابي بين الطرفين لتحقيق الارتقاء إلى الأحسن، وعلى أي مستوى من المستويات. فهل يمكن أن يكون هناك شيخ دون أن يكون له مريدون؟ والعكس صحيح. نتحدث، عادة، عن العلاقة بينهما بشكل سلبي. لكنها في الحقيقة علاقة ذات بعد تربوي بين المعلم والمتعلم أيا كان الاختصاص. عندما اتصل تودوروف بـ”الشيخ الأكبر” رولان بارت ليشتغل معه، أوصاه بملازمة صاحب الاختصاص جيرار جنيت. وأثمرت العلاقة بين شيخ فوق المستوى، ومريد في المستوى تأسيس علم السرديات الذي صار عالميا. صارت كليات الآداب المغربية تحتضن بنيات، ومختبرات، ومراكز للبحث لكنها تشتغل بلا شيخ. كل أستاذ يراه نفسه “الشيخ”، ولا يقبل بأن يكون غيره “شيخا” عليه. ومع ذلك نجدنا نتحدث عن “الفريق” البيداغوجي، و”الفريق” العلمي، بلا بيداغوجيا، ولا علم؟ ونجد هذا أيضا في السياسة. فكل أمين للحزب، وحتى بدون مشيخة يرى نفسه الشيخ مدى الحياة. تقول الثقافة الشعبية المغربية: “الشيخ بلا شيخ، ليس شيخا”. وكان القدماء العرب يعددون شيوخهم ويذكرونهم باحترام وتقدير، ويظلون يترحمون عليهم حتى وإن صاروا بدورهم شيوخا، ولهم تلاميذ وأتباع. من منا الآن يذكر أساتذته بخير؟ يناقش أحدهم اليوم، ويفكر غدا في أن يصبح رئيس فريق، ويرى نفسه، وقد صار “مؤهلا” لمناقشة الرسائل، والإشراف على الأطاريح في غير اختصاصه؟ ويرى نفسه “عالما”، وعليهم أن يستدعوه في الندوات والمؤتمرات، ويقيموا له التكريم في مختلف مناطق المملكة. كل هذه الأمراض وغيرها تساهم بشكل كبير في تراجع الثقافة والتعليم. ونظل مع ذلك نتهم الآخر بأنه لا يهتم بالثقافة؟

إن تطوير المجتمع الثقافي، إسوة بما تحقق في المونديال، رهين بالتشبع بالروح الوطنية، وبالعمل الجماعي، والتكوين الذاتي.

Share
  • Link copied
المقال التالي