أبلغ روبرتو أزيفيدو، الذي يشغل منصب المدير العام منظمة التجارة العالمية منذ 2013، سفراء منظمة التجارة العالمية في بيان أن ولايته ستنتهي في سبتمبر 2020 ، أي قبل عام من انتهاء ولايته. وقال في البيان إن رحيله المبكر قد يساعد الحكومات بالتركيز في الاجتماع المزمع لوزراء التجارة في العام المقبل على إصلاح منظمة التجارة العالمية. لا يمكن أن نفصل هذه الاستقالة من التهميش الذي عرفته المنظمة منذ انتخاب دونالد ترامب التي جاءت بالحرب التجارية وبأدوات جمركية بين الولايات المتحدة والصين. والتي اتهم فيها البيت الأبيض منظمة التجارة العالمية بتجاوز حدودها والسماح للصين بممارسة تجارة غير عادلة.
حتى وقت قريب، كانت منظمة التجارة العالمية هي النظام التجاري الدولي البارز. بالإضافة إلى ذلك، كان نظام تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية أحد أكثر الأنظمة القانونية الدولية احترامًا على نطاق واسع بسبب العدد الكبير من القضايا ، والإلزامية القضائية التي تتجلى في المستويات العالية من الامتثال لأحكامها ، واعتبر المراقبون منظمة التجارة العالمية نموذجًا للحوكمة العالمية ومؤسسة تعمل رغم المؤاخذات بشكل طبيعي وجيد. يكفي أن نشير أن منظمة التجارة العالمية تمكنت من تحمل الصدمات الاقتصادية العالمية دون أن تنهك الدول الأعضاء بالتزاماتها ودون فرض حواجز جديدة على التجارة.
إلا أن هذه الصورة ستتغير فور انتخاب دونالد ترامب الذي بدأها بإصدار شكوك حول قوة منظمة التجارة العالمية. كان هجوم إدارة ترامب على منظمة التجارة العالمية عبارة يمكن تجسيدها في نقطتين أولا – هجومه على هيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية ؛ ثانيا العودة إلى سياسة حل النزاع من جانب واحد لمعالجة المنازعات التجارية والتي تتجسد في ملفات عديدة أحد أهمها نزاعه مع الصين.
بدأ الجزء الأول من استراتيجية إدارة ترامب لتقويض منظمة التجارة العالمية بمنعها من تجديد أعضاء هيئة الاستئناف ، تتمثل سياسة الولايات المتحدة في الاعتراض رسميًا على جميع الطلبات المقدمة لترشيح أو تجديد فترة عضوية أعضاء هيئة الاستئناف. وقد وصف عضو سابق في هيئة الاستئناف ، ريكاردو راميريز ، أن هذا الجهاز رغم أهميته المحورية في جسم المنظمة فهو يعرف “حالة اختناق مميتة ” . على الرغم من أن الإدارات الأمريكية السابقة رفضت إعادة ترشيح بعض أعضاء هيئة الاستئناف الأمريكيين وكذا منع إعادة تعيين عضو هيئة الاستئناف الكوري الجنوبي، فسياسة إدارة ترامب تتجاوز هذه النقطة بفرض حظر كامل على المرشحين لجهاز الاستئناف . تكمن خطورة هذه السياسة إلى الدفع بإنهاء عملية حل النزاعات داخل المنظمة تمامًا.
إن منع الولايات المتحدة القيام بتعيينات هيئة الاستئناف هو اعتداء مباشر على فكرة حل النزاعات من خلال تفسير محايد للقانون التجاري بدلاً من الحل القائم على القوة الاقتصادية الذي يتجسد في المفاوضات الثنائية .بدون نظام تسوية المنازعات ، القانون التجاري الدولي سيعود إلى نظام أشبه بعصر الجات حيث ستصدر اللجان آراء قانونية ولكن حل معظم النزاعات التجارية المهمة يمر عبر المفاوضات الثنائية التي يغلب عليها لغة القوة بدل لغة العدل.
وهو ما يتجسد لنا في الحرب التجارية التي تجمع كل من الصين والولايات المتحدة والتي بدأت مباشرة بعد فرض إدارة ترامب عقوبات تجارية من جانب واحد على الصين بسبب سياسات الملكية الفكرية ، التي اعتبرتها ممارسات تجارية غير عادلة . وقد تصاعدت هذه العقوبات خلال الأشهر العديدة الماضية حيث ردت الصين بفرض عقوبات على الواردات الأمريكية.
هذه السياسة استخدمت القسم 301 من العقوبات وهي بدرها تجسد رفضًا لأحد مبادئ منظمة التجارة العالمية الأساسية للإجراءات القانونية الواجبة وهي الالتزام بتسوية النزاعات متعددة الأطراف من خلال الحل المحايد. إن جوهر قانون منظمة التجارة العالمية ليس مجرد نظام لقواعد التجارة، بل التزام بالقوانين التي تحمي من انتهاكات القانون التجاري لدول منظمة التجارة العالمية الأخرى حتى يتم الفصل في الانتهاكات المزعومة، ثم يكون الجزر وفق ما يسمح به التحكيم في منظمة التجارة العالمية.
فاللجوء إلى التدابير التجارية الانفرادية التي نهجها ترامب خروجًا عن مسار الإدارات الأمريكية السابقة ، التي اتبعت بعناية قواعد الإجراءات القانونية الواجبة لمنظمة التجارة العالمية للحفاظ على قوة وشرعية النظام. كما يمثل رفضًا كاملًا لمعايير منظمة التجارة العالمية التي تعلي من سيادة القانون وذلك بالعودة إلى الأحادية التي تتعارض مع هندسة منظمة التجارة العالمية والتي سعت منذ تأسيسها لمنعها.
كما أن الوباء الذي تسبب به فيروس كورونا أثر بدروه بالسلب على الدور الذي من المفترض أن تلعبه المنظمة في الجانب الضبطي في مجال التعريفات؛ فعلى سبيل المثال تمثل المنتجات الطبية حوالي 5٪ من إجمالي التجارة العالمية (الواردات والصادرات) ؛ أكثر من نصف الواردات يندرج ضمن الأدوية ؛ حيث بلغ إجمالي الواردات العالمية من المنتجات الطبية 1011 مليار دولار في عام 2019 ، بزيادة 5٪ عن عام 2018. إلى جانب الصادرات ، بلغت التجارة في هذه المنتجات الطبية حوالي 2 تريليون دولار وشكلت 5٪ من إجمالي تجارة البضائع في عام 2019. كانت “الأدوية” أكبر فئة من حيث القيمة ، والتي تمثل 56٪ من إجمالي قيمة واردات المنتجات الطبية ، تليها في المرتبة الثانية “اللوازم الطبية” بنسبة 17٪. “المعدات الطبية” و “معدات الحماية الشخصية” لديها أقل حصة بنسبة 14٪ و 13٪ على التوالي.
هذا القطاع المنتعش أصلا قبل وباء كورونا، شهدت التجارة فيه بلوغ إجمالي تجارة المنتجات الموصوفة بأنها مهمة وتعرف نقص حاد أثناء أزمة COVID-19 حوالي 597 مليار دولار ، أو 1.7٪ من إجمالي التجارة العالمية في عام 2019 . كما لا تزال الرسوم الجمركية على بعض المنتجات مرتفعة للغاية. على سبيل المثال، يبلغ متوسط التعريفة المطبقة على صابون اليد 17٪ ويطبق بعض أعضاء منظمة التجارة العالمية تعريفات عليه تصل إلى 65٪ . كما أن لوازم الحماية المستخدمة في مكافحة COVID-19 تبلغ متوسط تعريفة عليها 11.5٪ وترتفع إلى 27٪ في بعض البلدان ، فالمنظمة عاجزة على تحرير المنتجات الطبية من هذه التعريفات المرتفعة والتي تحول دون انتشار هذه المواد المهمة في زمن الجائحة لجميع من يحتاجها.
يجدر الاشارة أن مساهمة منظمة التجارة العالمية في تحرير المنتجات الطبية التجارية قائم على ثلاث أمور رئيسية وهي ؛ ما أعربت عنه نتائج مفاوضات التعريفات المقررة منذ تأسيس منظمة التجارة العالمية عام 1995 ؛ وكذا إبرام الاتفاق القطاعي المتعدد الأطراف بشأن المنتجات الصيدلانية (“اتفاق فارما”) في جولة أوروغواي واستعراضاته الأربع اللاحقة ؛ بالإضافة إلى توسيع اتفاقية تكنولوجيا المعلومات عام 2015.
هذه الترسانة من الاتفاقيات كانت عاجزة من ان تلعب دوراً مهماً في زمن الجائحة وهو ما تعكسه لنا أرقام نسب التعريفات الكبيرة على المنتجات الطبية ، وكذلك العدد المتزايد لحظر الصادرات والقيود التي أدخلها بعض أعضاء منظمة التجارة العالمية للتخفيف من حدة النقص الحاد على المستوى الوطني. وذلك بسبب ما تتطلب الاستجابة لـ COVID-19 بشكل عاجل زيادات حادة في الإنتاج العالمي للإمدادات الطبية الأساسية. يمكن أن تساعد سلاسل القيمة التي تعمل بشكل جيد في زيادة الإنتاج بسرعة مع احتواء الزيادات في التكلفة.
غياب دور مهم للمنظمة في تفاعلها مع مجريات التجارة الدولية في زمن الجائحة هو تحصيل حاصل جراء السياسة الممنهجة التي تسلكها ادارة ترامب لتجميد دور المنظمة في التجارة العالمية ، فالمنظمة عاجزة على أن تلعب دورها في الضبط والتحكيم بسبب تعطيل أجهزتها وهو ما جعلها غير قادرة على السعي نحو تقليص الضرائب الجمركية على السلع المرتبطة بالجائحة ، وكذا عجزها على ضبط عملية حظر التصدير الذي قامت به مجموعة من الدول .
إن سياسة ترامب تجعل من المنظمة العالمية للتجارة ، وبعض مؤسسات أخرى من النظام الدولي هي التي تدفع ضرائب عالية لو استمرت ستجهز على الدور الوظيفي لها ، ممهدة لمشهد جديد قد لا يغلب عليه النظام بقدر ما قد يغلب عليه الفوضى في العلاقات الدولية ، وهذه الاستقالة التي قام بها روبرتو أزيفيدو هي جرس انذار حقيقي وجب الانتباه اليه.
* باحث في العلاقات الدولية
تعليقات الزوار ( 0 )