يجمع كل الخبراء والمحللين والمتتبعين والملاحظين أن عالم ما بعد جائحة كورونا لن يكون مثل عالم ما قبلها، كما كان الأمر عقب المحطات العالمية المشابهة لهذه الأزمة كالحرب العالمية الاولى والثانية وأزمة الكساد الكبير(the great depression) (1929) وانهيار جدار برلين وغيرها من الاحداث التي غيرت منظومة التوازنات والمصالح بالعالم.
هذا وقد جاءت الازمة في سياق خاص مطبوع أساسا بقرب نهاية الثورة الصناعية الثالثة وظهور مؤشرات الثورة الرابعة المبنية على الروبوتيك والذكاء الاصطناعي، بجانب شروع الصين في خطواتها الأخيرة لضمان الزعامة الاقتصادية بالعالم عبر إطلاق مشروع الحزام والطريق وكذلك ظهور شك كبير في مدى قدرة الاتحاد الأوروبي على الاستمرار عقب خروج بريطانيا(Brexit) منه ووصول اليمين المتطرف للسلطة في بعض دوله، بالموازاة مع التراجع النسبي للدور الامريكي في العالم عسكريا وديبلوماسيا بعد رفع الرئيس ترامب لشعار “أمريكا أولا”.
وخلال ستة أشهر فقط، استطاعت الجائحة وضع العالم في كساد غير مسبوق منذ ثمانين سنة مع خسارة الملايين من الوظائف وتوسيع خارطة الفقر العالمية ومفاقمة ديون الدول وتدمير أسطورة “سلسلة القيمة العالمية الصلبة”. وهي انعكاسات أولية قد تظهر غيرها بعد أيام أو أسابيع بالنظر لدخول العالم في المجهول وغياب أي تصور واقعي وبراغماتي لسبل انتهاء الجائحة ومعها الأزمة. لذلك يبقى الوصول الى لقاح فعال هو الأمل الوحيد للعالم من أجل الخروج من هذا النفق الاقتصادي والصحي والاجتماعي المظلم.
وقد استطاعت الجائحة كذلك، وضع العالم في سكة نظام عالمي جديد، يتسم بالرجوع الى نظام القطبية الثنائية في قيادة العالم اقتصاديا وسياسيا، من خلال تكريس الصين لنفسها كقوة اقتصادية ذات تأثير كبير في الساحة العالمية. وبذلك فحتى مصالح دول العالم ستعرف تغيرات كبيرة وهو ما يطرح السؤال حول مكانة المغرب في دينامية تحولات منظومة المصالح العالمية؟ وذلك على ضوء التنسيق الأخير بين جلالة الملك والرئيس الصيني.
في سنة 2013 طرح الرئيس الصيني “شي جين بينغ” مبادرة الحزام والطريق، التـي تمد النفوذ الصيني إلى مناطق واسعة من العالم في أوروبا وأفريقيا وآسيا من خلال شبكة مـن الطرق والموانئ والمطارات ومشاريع البنية التحتية، ويبدو أن هذه المبـادرة سـوف تحـدد ملامح جديدة لتوازنات القوى في النظام الدولي، وهي مبادرة يمكن اعتبارها مشـروع القـرن الاقتصادي في العالم عبر استثمارات تناهز 64 مليار دولار.
ويعتبر المغرب البوابة الغربية لهذه الطريق وآلية الربط بينها وبين افريقيا والأمريكيتين، لذلك يجب العمل على احياء طريق سجلماسة التاريخية لضمان ربط القارة الافريقية بهذه الطريق وتقوية مكانة المغرب كمركز محوري للنظام التجاري العالمي الجديد. كما يمكن للمغرب الاستفادة من التحولات الهيكلية لنظام سلاسل القيمة العالمية، والتي تتجه لتصبح جهوية بعد أزمة كورونا، وهو ما سيمكن من استقبال بلادنا لجزء مهم من الاستثمارات العالمية الموطنة(délocalisé) في الصين، وذلك في سياق سعي الدول الاوروبية لإعادة توطين(relocalisation) بعض الانشطة وتقريبها من سلسلة القيمة الاوروبية. وهو ما سيدفع الصين للاستثمار في المغرب، عبر خلق مناطق صناعية لضمان تواجد الصين في سلاسل القيمة الجهوية الجديدة وربطها بدينامية الحزام والطريق.
من شأن هذا التوجه، تقوية مكانة المغرب في الخريطة التجارية الجديدة للقارة الافريقية(ZLECAF) . حيث أن القارة بصدد وضع اللمسات الأخيرة لمنطقة التبادل الحر الافريقية، التي ستمكن دول القارة من 1.2 مليار مستهلك، وهو ما سيقوي المنظومة التجارية القارية بشكل كبير ويجعل من بلادنا منصة عالمية للولوج الى السوق الافريقية، بالنظر للتجربة المهمة لبلادنا في الصناعات والمهن العالمية وكذلك توفر المغرب على منصة لوجيستية متقدمة على المستويات البرية والبحرية والجوية.
إن الشراكة مع الصين، ينبغي أن تكون وفق منطق رابح رابح(win-win)، يتمكن من خلالها المغرب من الاستفادة من الخبرات الصينية واستقبال استثمارات ذات نسبة ادماج عالية(taux d’intégration) قادرة على اشراك سلاسل القيمة الوطنية في منظومتها الانتاجية. كما يجب العمل على بتعاون مع الصين، على الاستفادة في أقرب فرصة من الربط بالجيل الخامس(5G) من الانترنيت التي ستشكل البداية الفعلية لانخراط المملكة في الثورة الصناعية الرابعة(Industry 4.0) .
وفي المرحلة المقبلة سيكون لزاما على بلادنا تنويع العرض الاقتصادي الوطني وتطوير صناعة وطنية عالية التقنية، خاصة وأنه بعد الجائحة تبين أن المغرب أهدر في السابق العديد من فرص الاقلاع وتقوية التموقع (positionnement) في الاسواق، وأصبح جليا أن بإمكان بلادنا انتاج مجموعة من المنتوجات الصناعية العالية الجودة. وهنا يجب تنويع منظومة الانتاج الوطني لتشمل آليات الرعاية الصحية والهواتف الذكية والبرامج المتطورة وتقوية توجهات انترنيت الأشياء(IoT Internet of things) . وذلك بجانب تقوية سلاسل القيمة المرتبطة بالمهن العالمية كصناعة السيارات والطائرات والنانوتكنولوجيا. ومن شأن ذلك، تعزيز ميكانيزمات خلق الثروة وتقوية المردودية الاجتماعية للاقتصاد الوطني وتعزيز منظومة “صناعة الاستقرار” (Industrie de la stabilité) والعدالة الاجتماعية.
إن هذه التوجهات، ستمكن المغرب من مكانة محورية في الأجندة التجارية الجديدة للقارة، وستمكن من الاحياء الرمزي للطريق التجارية التاريخية التي كانت تسمى “طريق سجلماسة” لكن بنفس رقمي وصناعي وعلمي جديد. وهو ما سيمكن بلادنا من مضاعفة ناتجها الداخلي الخام(GDP) بعشرات المرات في العشرين سنة المقبلة، بجانب تقليص مسار اللحاق بنادي الدول الصاعدة من ثلاثين سنة إلى حوالي عشر سنوات.
*محلل اقتصادي ومالي
Najib.somoue@gmail.com
تعليقات الزوار ( 0 )