فجائيًا جاء النبأ الأليم الذي تناقله بريد النعي في كل اتجاه، وكالصاعقة هبط نعي الصحافي الفلسطيني ومدير مكتب “القدس العربي” بالرباط، محمود معروف، الذي غيبه الموت اليوم الخميس في الرباط، بعد سنوات طويلة من العطاء الثقافي والإعلامي، حمل خلالها الراحل قضية فلسطين في كل محطة من محطات حياته، وكان ترجمانها في المغرب، وصوتها في صحافته.
محمود معروف، الصحافي الذي جاء إلى المغرب مطلع ثمانينيات القرن الماضي، قادمًا من بغداد، فطاب له المقام فيه، وعاش بين أهله كواحد منهم، حتى نعوه اليوم بالمراثي على كل فم، فقد كان رحيله الأبدي خسارة قاسية وكبيرة على الحقلين الثقافي والإعلامي.
الصحافي المخضرم الذي تناقلت الصحف اسمه الذي نقشه بثقافته ومهنيته، يترجل عن صهوة الحياة ويلفظ آخر نفس بسكتة قلبية، ويوارى الثرى ويلتحف أرض مقبرة “سيدي مسعود” بحي الرياض في العاصمة المغربية الرباط، بعد 67 حولًا من العمر، أطلق صرخته الأولى فيها وحواسه الخمس بقرية “دير القاسي” عكا، سنة 1953.
كسب احترام الجميع
نعت النقابة الوطنية للصحافة المغربية الفقيد، واصفة إياه بالزميل العزيز والمحبوب. وجاء في البلاغ أيضاً “هو فلسطيني الهوية والانتماء، أحب بلده المغرب واحتضنه على امتداد عقود، وفيه أسس لعلاقة مهنية وإنسانية شاسعة الأطراف، عنوانها الصدق والمصداقية. وبروح عالية، وسلوك متميز، نجح الراحل في نسج علاقات وطيدة مع مختلف مكونات المجتمع المغربي، وبجدارة كسب احترام الجميع وبدون منازع”.
وأضافت النقابة: “في هذه الظرفية العصيبة التي عايش الفقيد آلامها ومحنها، نعى الراحل قبل أيام بعض أصدقائها وأقاربه، وكتب عن الموت وفواجعه، وفجأة رحل وغادرنا وترك في قلوب أهله ومعارفه وأصدقائه غصة وحرقة”.
خبير في قضايا المغرب
قال يونس مجاهد، رئيس المجلس الوطني للصحافة، في تصريح لـ”القدس العربي”: “افتقدنا في محمود معروف صديقاً كبيراً، فبالإضافة إلى كفاءته وعمله كصحفي، فإن علاقاته الاجتماعية كانت واسعة وطيبة وكان محبوباً عند الجميع. من خلال ردود أفعال التعزية، يظهر التعاطف الشخصي والإنساني مع شخص أصبح واحداً من أبناء المغرب، حيث عاصر عدداً من أجيال الصحافيين والسياسيين والنقابيين”.
وأضاف مجاهد: “عرفت محمود معروف إلى جانب عدد من المراسلين العرب الذين كانوا في المغرب، حيث ربطتني به علاقة الزمالة والمهنية. كنا نشعر أننا أمام أخ وصديق يمارس عمله المهني بصدق، فهو الذي تابع عدداً من قضايا المغرب، وكان مطلعاً على عدد من الملفات الوطنية حتى أصبح مختصاً في الشأن المغربي”.
كان وسيبقى معروفاً
الصحافي المغربي، رشيد البلغيتي، يقول لـ”القدس العربي”، وهو تحت تأثير النبأ الأليم: “فقدت صديقاً عزيزاً وصحافياً رصيناً حمل معه همين طوال حياته”.
محمود معروف، وفق شهادة البلغيتي، “حمل هم وطنه الفلسطيني، وممسكاً بالمفاتيح في تجاويف يده دون أن يتمكن من العودة لبيته الأول”.
والهم الثاني يقول “هو التوازن في رسالته الصحافية بما تقتضيه المهنية من جهة، والظروف السياسية المتقلبة التي عاشها المغرب طيلة إقامته”.
وأضاف: “لقد عاش معروف بالمغرب في ظروف كان عنوانها الانغلاق والتوتر والحساسية الشديدة من الصحافة أحياناً، وأخرى عاش فيها المغرب انفتاحاً جزئياً لم يدم للأسف، لكن محمود ظل متماسكاً ومتوازناً رغم الضغوط”.
“يكفي محمود أنه كان وسيبقى معروفاً في قلوب من أحبوه، وأنا واحد منهم”، يختم البلغيتي قوله وصوته معشق ببحة الفقد.
رجل مواقف
الكاتب المؤرخ المغربي، المعطي منجب، كان صديق الراحل، يقول في شهادة لـ”القدس العربي”: “محمود معروف رجل مواقف صلب، ورغم أنه يعيش في المغرب منذ حوالي أربعين عاماً، فقد ظل يتنفس فلسطين في كل يوم وفي كل آن وحين”.
ويضيف: “كان له أصدقاء ومعارف من كبار القوم بالعالم العربي، كالرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح، وقيادات من أعلى مستوى في الأردن والعراق والمغرب، وفضل العمل كمثقف حر، والعيش بقلمه ومن أجل فلسطين ومن أجل حرية الكلمة بالمغرب؛ حيث كان يتعرض أحياناً لضغوط من أجل تغيير خط تحرير جريدته فيرفضها بكل أنفة رغم الترهيب والترغيب الذي يرافقها”.
محمود معروف “كان صديقاً قريباً وكنا نلتقي بشكل منتظم، وخصوصاً أيام الجمعة لتناول طبق الكسكس المغربي الذي يحبه كثيراً، كنا نلتقي في الغالب بأحد المطاعم البسيطة قرب مقر عملي بمعهد الدراسات الإفريقية بجامعة محمد الخامس بحي أكدال أو بمدينة العرفان، كان رجل فكاهة ومرح دائم لا يغضب إلا لفلسطين لما تمس حقوق شعبه أو كرامته”، يقول منجب بحزن على هذا الفقد.
ويسترسل المؤرخ المغربي، في شهادته لـ”القدس العربي” عن الراحل معروف أنه “خلال الفترة الأخيرة، وبعد رفع الحجر الصحي النسبي، بدأ يحكي لي ذكرياته مع الصحافيين والزعماء العرب وعلاقة ذلك بالقضية الفلسطينية، كان يحكي حكايات مضحكة وأحيانًا مؤلمة عن الواقع العربي المتردي، وأكد لي عدة مرات أنه سينهي كتابة مذكراته عن صخب منطقتنا الذي لا ينتهي… وكأنه كان يشعر أن القدر يتربص به!”، “لترقد روحك بسلام صديقي الشهم العزيز”، يختم منجب كلامه متأثرًا.
مرآة “القدس العربي” بالمغرب
لم يكن محمود معروف، مدير مكتب “القدس العربي” في الرباط فقط، بل كان مرآةً تعكسها وتعكسه، فلا يذكر معروف إلا ذكرت “القدس العربي” والعكس كذلك، وفق شهادات من عرفوه.
ويقول الإعلامي المغربي، نور الدين لشهب، في حديث مع “القدس العربي”، إن محمود معروف هو الذي “عرفنا بالقدس العربي في المغرب، وجعل المغاربة جميعهم يحترمونها، انطلاقاً من مقالاته وتقاريره، وانفتاحها على جميع الخلفيات السياسية والثقافية والهوياتية داخل المغرب والتي تختلف وتتفق على قضية فلسطين”.
ويضيف لشهب في شهادته: “المغاربة كانوا يحبونه باعتباره صحافيًا من الطراز العالي، ذلك الصحافي المثقف، على عكس اليوم كما نلاحظ طغيان الصحافي الموظف، فكان معروف صحافيًا له قضية، والقضية كانت فلسطين، وهي قضية عادلة تجمع عليها كل الأطراف السياسية المغربية”.
و”على الرغم من أنه كان مقربًا من يساريين مغاربة، إلا أنه كان يأخد من اليسار قيمه في الدفاع عن الكرامة والاستقلال والحقوق والمبادئ، وظل محافظاً على علاقته الطيبة مع جميع الأطياف السياسية في البلاد، بغض النظر عن خلفياتها”، يقول لشهب.
“معروف صديق عزيز، لا أنكر فضله عليّ، حين أسأله عن شيء مهم حول القضية الفلسطينية وأرجع إليه، لأنه كان مرجعًا وخبيرًا فيها؛ يعرف كل شيءٍ عنها؛ مثقفيها مقاوميها ومناضليها، وساستها الكبار الذين يعرفهم عن قرب، ولم يكن يبخل بالمعلومات”، يزيد الإعلامي في شهادته لـ”القدس العربي”.
ويختم شهادته قائلًا: “تختلف أو تتفق مع محمود معروف، لكنه -رحمه الله- ينتزع منك احترامه انتزاعًا، نظرًا للصرامة التي يتحلى بها في تناول القضايا التي تمس الشعب المغربي أو الفلسطيني والعرب كافة، فقد ظل وفيًا لتوق الشعوب للحرية، وكان مناصرًا للديمقراطية والحرية، إنه خسارتنا جميعًا”.
وأدلى مراد القادري رئيس بيت الشعر في المغرب لـ”القدس العربي” بالتصريح التالي:
“تفاجأنا بخبر وفاته كما تفاجأ المغرب بكافة فئاته السياسية والجمعوية والثقافية. فقدنا بوفاة معروف واحدًا من أبناء هذا الوطن الذي مثل دومًا صوتًا إعلاميًا مدافعًا عن المغرب وقضاياه الأساسية وحقه في الحرية والديمقراطية والعدالة، كما دافع طيلة حياته عن تكريس منظومة إعلامية وصحافية تتوفر فيها كافة الشروط المهنية والنزاهة.
كان معروف صديقًا للحركة الثقافية المغربية وصديقًا خاصًا لبيت الشعر، حيث كان إلى جانب هذه الهيئة منتصرًا للثقافة المغربية ومدافعًا عن الشعر المغربي ووجوده في الصحيفة التي كان يرأس مكتبها في المغرب.
وخلال أزيد من 25 عاماً، لم يفوت معروف حضور أي فعالية ثقافية وشعرية لمؤسستنا، كما كان يحضر بنصائحه وتوجيهاته في عمل بيت الشعر”.
وغصت وسائط التواصل الاجتماعي بتدوينات تضمنت شهادات حول الراحل، وهكذا كتب عبد الجبار الرشيدي الإعلامي والسياسي وعضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال (المعارض): “رحم الله الصديق العزيز محمود معروف مدير جريدة القدس العربي في الرباط. الإنسان الخلوق والمتواضع، رجل المبادئ والقيم، صحافي متنور في فكره ومنفتح على الجميع، ومثقف ملتزم بقضايا الأمة. بوفاته تفقد القضية الفلسطينية أحد أقلامها الأوفياء، وتفقد الساحة الإعلامية المغربية أحد رجالاتها المتميزين”.
واعتبر الإعلامي والحقوقي، محتات الرقاص، رحيل الزميل محمود معروف “فاجعة حقيقية ورزءًا فادحًا ورحيلاً صادمًا وقاسيًا. وأضاف: “خسرنا زميلًا مهنيًا مواكبًا ومتابعًا لتجربتنا، وخسرنا صديقًا لبلادنا، وخسرنا صوتًا فلسطينيًا قويًا”.
وكتب الصحافي والناشط الحقوقي عبد الناصر بنوهاشم: “ضربة موجعة تزيد الوجع إيلامًا. في وقت لم يعد في القلب مكان لجرح جديد. كان إنسانًا قبل أن يكون صحافيًا”.
وتساءلت الإعلامية أسمهان عمور: “لا أدري.. هل سنة 2020 هي سنة الحزن والفقد والوباء والعزل. ألا يكفي أننا ودعنا نساء ورجالاً بصموا تاريخ الفن والثقافة لنفجع هذا الصباح برحيل الصديق الإعلامي محمود معروف”.
وجاء في تدوينة الصحافي المصطفى أبو الخير: “قبل أيام كتب ناعيًا عددًا من كبار رموز الوطن، قائلاً: أخشى ما أخشاه أن تتحول صفحتي إلى صفحة نعي. الموت لا يرحمني. لا ينتظر حتى أجفف دموعي وأرتاح قليلًا لملء عيوني بدمع إضافي حتى يأخذ صديقًا وغاليًا وأخًا جديدًا. اليوم يرحل في غفلة من الجميع دون وداع. رحم الله الصحافي الفلسطيني المغربي حبًا وهوى”.
ورثى الباحث محمد أبطيوي، محمود معروف الصحافي الفلسطيني المقيم بالمغرب منذ عقود. وقال: “وافته المنية هذا الصباح، ففقدنا برحيله فلسطينيًا آخر أحب المغرب وبادله المغاربة حبًا بحب، حباً فيه وحباً في فلسطين”.
كما كتب الأديب المصطفى كليتي، التدوينة التالية: “كيف تسلل الموت إلى قلبك النابض بالحياة يا محمود. أكاد لا أصدق رحيلك المفاجئ والمباغت. ألم عميق أشعر به وأنا أعرفك منذ سنوات ذوات العدد، خلت بشوشًا حاضرًا مواكبًا، صحافيًا مناضلًا ملتزًما لا تساوم. رجل مبادئ ومواقف رغم المضايقات التي كنت تتعرض لها أحيانًا ضريبة مهنة المتاعب .
محمود، الفلسطيني حتى النخاع، يحمل فلسطين في قلبه أينما حل وارتحل. ركب الصعب ولم يتنازل لإغراء كانت القضية الفلسطينية والرسالة الصحافية فوق كل اعتبار.
سلامًا سلامًا سلامًا محمود الفلسطيني الأصل المغربي الهوى”.
عن القدس العربي
تعليقات الزوار ( 0 )