Share
  • Link copied

المعسكر الغربي عدو أم شريك؟

في سنة 1991، وبعد الحرب الحضارية الخطيرة التي شاركت فيها أكثر من ثلاثين دولة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ضد دولة العراق، وما عرفته هذه الحرب من خرق للقوانين الدولية واستعمال للأسلحة المحظورة، إضافة إلى المجازر التي وقعت مثل مجزرة ملجأ العامرية، نشرت مجلة الهدى؛ التي كانت تصدرها جماعة الدعوة الإسلامية بفاس؛ مقالا افتتاحيا بعنوان: [إن الغرب لكم عدو فاتخذوه عدوا]. بعد ذلك بحوالي عقد من الزمن، وفي سنة 2001، أصدر المفكر الألماني الكبير فريتس شتيبات Fritz Steppat كتابه [الإسلام شريكا]. فأي الوصفين يؤطران علاقتنا بالغرب، أشراكة أم عداوة؟

بالعودة إلى الحضارة الغربية نجدها حضارة مؤطرة بالفكر، حيث نجدها فكرا أولا، ثم ممارسة تطبيقية لذلك الفكر ثانيا.

ولعل أهم المفكرين الذين أثروا في الفكر الغربي وعملوا على تشكيل عقليته هم دارون ونيتشه وهيغل مع آخرين، إضافة إلى بعض المعاصرين كالأمركي هنتغتون، أما الساسة الغربيون، فأشهر من عمل على بلورة السياسة الغربية تجاه الأخر هم الألماني هتلر والإنجليزي تشرشل، وبعد مرحلتيهما، تم تسويقهما باعتبار أولهما ممثلا للشر، وثانيهما ممثلا للخير.

لكن القاسم الأساس بين هؤلاء المراجع للكبار من المفكرين والسياسيين هو العنصرية تجاه غير الغربي والاستعلاء عليه وتحقيره والدوس عليه ببرودة دم.

فداروين يركز نظريته في “أصل الأنواع” على أطروحة “التناحر على البقاء”، وهي أطروحة صراعية تؤمن بضرورة الصراع مع الآخر والبقاء للأقوى الذي لا يقوى على البقاء إلا بعد عملية صراع وتناحر مع الآخر، وادعى أن كل الكائنات تتناحر لتبقى، وضرب لذلك مثالا بعشب الدبق الذي يتناحر بعضه مع بعض ويتناحر مع أشجار أخرى من ذوات الثمار، ويخلص إلى أن كل فرد من أفراد الكائنات الحية لا يتسنى له البقاء إلا بعد تناحر شديد ينتابه في بعض أدوار حياته، وأن أدعى الضرورات لبقاء نوع بعينه تنحصر في تفوقه على منافسيه، ومن ثم يقع ما اصطلح عليه بـ”الانتخاب الطبيعي”، أو “بقاء الأصلح”، مع الإشارة إلى أن “الأصلح” هنا لا تحمل دلالة أخلاقية، بل معناها: “البقاء للأقوى” الذي ينتصر على الآخر في عملية التناحر.

نظرية البقاء للأقوى/الأصلح سيتم تنزيلها على عالم الإنسان باعتباره أحد الكائنات الحية التي تحدث عنها دارون، وسيتم الحديث بموجب هذه النظرية عن ظاهرة الإنسان الأقوى [السوبرمان]، وسيتشرب الإنسان الأوربي/الغربي هذه النظرية ويعتقد جازما أنه الإنسان الأقوى الذي بإمكانه إبادة الإنسان الأضعف في إطار تفوقه عليه في عملية التناحر والانتخاب الطبيعي، ويعد أدولف هتلر من خيرة السياسيين الذين تشربوا نظرية دارون، ويبدو فكر النشوء والتطور جليا في كتابه كفاحي، ما جعله يؤمن بوجود أعراق أسمى من غيرها، ولا تتحقق مصلحة البشرية إلا بسيادة العرق الأسمى وإفناء الأعراق والطوائف الأدنى، وكل هذا خدمةً للبشرية وحماية للجنس البشري من التدهور.

هذا السمو الذي يميز عرقا على آخر، المنبني على اللامساواة بين البشر، سيتبدى جليا مع أيقونة الفكر الغربي الآخر، وأقصد به فيلسوف القوة نيتشه، وهو الذي يعلي صوته ضد المساواة ويقول بدون أدنى مواربة: “أريد أن أكون واضحا، وأن لا أحدث بلبلة حول موقفي من هؤلاء الذين ينادون بالمساواة، فأقول أنْ لا مساواة بين الناس، إن العدالة لتصرخ في دخيلتي أن لا مساواة بين الناس، إن طبيعة الإنسان تأبى عليه المساواة، وأولئك الذين يدعون إلى المساواة يدعون لها لعجزهم عن أن يكونوا جبابرة طغاة، إن الطبيعة تحب اختلاف الأفراد والطبقات والأنواع”.

هكذا نجد الحديث عن طغاة جبابرة يسودون في العالم، وأناسا ضعفاء يطالبون بالمساواة حسدا من عند أنفسهم، ومنه نرى إرادتين اثنتين، “إرادة القوة” التي تعتبر الفكرة المركزية في أطروحة نيتشه، و”إرادة المساواة” التي يتوجه إليها بلسان مقذع لاذع، فيقول لأصحابها: “أيها الداعون إلى المساواة، إن الجنون الغاشم للعجز هو الذي يصرخ من خلالكم مطالبا بالمساواة، هكذا تتنكر رغبات الاستبداد الأكثر خفاء في دواخلكم تحت عبارات الفضيلة، غرور منغص وحسد مكبوت”، وبعد هذا يصرح بدون أدنى تلكؤ: “لا أود أن أُمزَج بدعاة المساواة ولا أن يُخلَط بيني وبينهم، إذ هكذا تحدثني العدالة: الناس ليسوا سواسية، ولا ينبغي لهم أن يصبحوا كذلك، إذ ماذا عن حبي للإنسان الأعلى إذاً، لو أنني تكلمت بغير هذا الكلام؟”.

هنا نجد حديثا عن الإنسان الأعلى عند نيتشه، وهو ما يتوافق مع أطروحة الإنسان الأقوى في فكر دارون، وأن التناحر الذي تحدث عنه هذا الأخير هو التدافع والحروب التي تحدث عنها نيتشه في قوله: “ليمضوا متدافعين فوق ألف جسر وعلى ألف درب نحو المستقبل، ولتكن بينهم على الدوام حروب أكثر ولا مساواة”.

هذه اللامساواة وسمو جنس على جنس تظهر بقوة في فكر الألماني هيغل الذي يرى سمو الجنس الأوربي ومركزيته مقارنة مع غيره من الأجناس، وتظهر فكرته هذه من خلال تقسيمه لإفريقيا مثلا، فهو يجعلها ثلاثة أقسام، وسمى قسمها الشمالي بـ”إفريقيا الأوربية”، وهذه التسمية لوحدها تدل على مركزية أوربا في المتن الهيغيلي، وتبعية الأغيار لها وإلحاقهم بها، وهذا الذي فهمناه تلميحا سنجده تصريحا في قوله: “لقد كان من الواجب ربط هذا الجزء من إفريقيا بأوربا، ولا بد بالفعل أن يرتبط بها”، ومناداته بإلحاق شمال إفريقيا بأوربا ناتجة عن نظرته الدونية لإفريقيا جنوب الصحراء، “لأن الرجل الزنجي يمثل الإنسان الطبيعي في حالته الهمجية غير المروضة تماما، ولا بد لنا إن أردنا أن نفهمه فهما حقيقيا سليما، أن نضع جانبا كل فكرة عن التبجيل والأخلاق وكل ما نسميه شعورا أو وجدانا، فلا شيء مما يتفق مع الإنسانية يمكن أن نجده في هذا النمط من الشخصية”.

وعنصرية هيغل ستظهر أكثر في رؤيته للعالم وتاريخه، فيقول: علينا أن نترك إفريقيا عند هذه النقطة ولا نعود إلى ذكرها مرة أخرى، لأنها ليست جزءا من تاريخ العالم، ولا تكشف عن حركة أو تطور، وما فيها من حركات تاريخية [وهي تلك التي تقع في الجزء الشمالي] تنتمي إلى العالم الآسيوي والعالم الأوربي، ولقد لعبت قرطاجة هناك دورا انتقاليا هاما في الحضارة، لكنها، بوصفها مستعمرة فينيقية، لهذا تنتمي إلى آسيا، وسوف ندرس مصر بوصفها مرحلة انتقال الروح البشري من مرحلته الشرقية إلى مرحلته الغربية، لكنها لا تنتمي إلى الروح الإفريقي، والواقع أن ما نفهمه من اسم إفريقيا هو الروح غير المتطور الذي لا تاريخ له ولا تطور أو نمو، والذي لا يزال منغلقا تماما وفي حالة الطبيعة المحض، والذي كان ينبغي أن يعرضها بوصفه واقعا على عتبة تاريخ العالم فحسب”.

إذن، نحن أمام نظرة غربية لإفريقيا، فهي لا مزية لها ولا روح لها ولا تطور فيها، وهي ليست من جوهر العالم ولبه، بل هي ــ إن تجاوزنا وأدرجناها مع العالم ــ فهي مجرد عتبة لتاريخ العالم، أما المسرح الحقيقي للتاريخ فهو الخط الرابط بين الشرق والغرب، فآسيا هي الشرق المطلق، وبها أشرق ضوء الروح، ومن ثم بدأ التاريخ الكلي، وأوربا هي نهاية التاريخ على نحو مطلق، وبها تغرب شمس الوعي الذاتي، وهنا يسطر السمو الأوربي عامة والجرماني خاصة حين يقرر أن “الشرق لم يعرف ولا زال حتى اليوم لا يعرف سوى أن شخصا واحدا هو الحر، أما العالم اليوناني والروماني فقد عرف أن البعض أحرار، على حين أن العالم الجرماني عرف أن الكل أحرار”، والعالم الجرماني مقارنة مع العوالم الأخرى يمثل ــ عند هيغل ــ مرحلة الشيخوخة، والشيخوخة في الطبيعة تمثل الهرم والضعف، أما شيخوخة الروح فتعني النضج والقوة الكاملة، وهذا الكمال هو مبدأ السمو الجرماني الذي سيجتهد هيتلر في تنزيله واقعا.

إن الغرب في حلته الحالية ليس إلا تطورا لأفكار هؤلاء وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين، مما يبين أن هتلر كان يمثل القاعدة وليس الاستثناء كما يحلو للبعض أن يُظهروه.

أما رمز الأنتلجنسيا والتنوير والانفتاح فقد لا يكون في الساسة الغربيين غير تشرشل، وهو الذي اجتهدوا في تسويقه باعتباره أديبا وروائيا ومتحضرا ورمزا للاعتدال والانفتاح، والحقيقة أن جوهره لا يحيد عن جوهر الإنسان الغربي الذي رسم معالمه المفكرون المذكورون وغيرهم، ولا أدل على ذلك من نظراته الاحتقارية والاستعلائية تجاه الهند التي كانت خاضعة للتاج البريطاني، فحين كان البنغال يعانون من مجاعة قوية ذهب ضحيتها ثلاثة ملايين بنغالي، امتنع تشرشل عن تقديم أي مساعدة لهم وهم تحت نفوذه، بدعوى أن أي مساعدة لن تكون كافية لهم، لأن الهنود يتكاثرون كالأرانب، ولما كان ليوبولد إيمري وزير الدولة لشؤون الهند وأرشيبالد ويفل يناقشان كيفية إرسال المزيد من المساعدات الغذائية إلى الهند، كانت جهودهما تصطدم بالرفض الصارم لتشرشل، عقب ذلك قال ويفل: “يبدو أن إنقاذ اليونانيين وشعوب البلدان المحررة الأخرى أكثر أهمية من إطعام الهنود”، وقال إيمري: “قد يكون تشرشل مصيبا في قوله في أن تجويع البنغاليين الجياع أصلا ليس بخطورة تجويع اليونانيين الأصحاء”، وهذان تصريحان يتوافقان مع ما سطره الفلاسفة المذكورون أعلاه في حديثهم عن اللامساواة وسمو جنس على جنس وعرق على عرق.

ولن ندرك فداحة جريمة تشرشل إلا إذا علمنا أن شح المواد الغذائية في الهند لم يكن بفعل العوامل الطبيعية، بل كان بسبب استحواذ البريطانيين عليها وتصديرها إلى بلادهم. وهذه العنصرية أو النظرة الاحتقارية للآخر ليست إلا تنزيلا للنظرة الداروينية، وهذا ما أشارت إليه الصحفية الهندية مادوسري مكرجي في كتابها “حرب تشرشل السرية”، حيث قالت: “لم تكن العنصرية لتفسر السبب الذي حدا بالبريطانيين إلى غض الطرف عن المجاعة في الهند، بينما لم يكن بوسعهم حتى التفكير في تقنين الخبز على مواطنيهم، بل كان السبب الرئيس هو اختزال موازين القوى المتأصل في الهرم الاجتماعي الدارويني”.

 ولما مثل سنة 1937 أمام لجنة بيل التي حققت في الحوادث المتعلقة بالثورة العربية، شبّه تشرشل الفلسطينيين بالكلاب، وقال بأن الكلاب إن كانوا في المعلف، فإنه ليس لهم الحق النهائي في البقاء في المعلف حتى لو بقوا في المعلف زمنا طويلا، يعني أن الفلسطينيين لا يمتلكون شرعية البقاء في بلادهم بناء على مكثهم الطويل فيها، ثم استرسل قائلا: “لا أقر بأن ظلما كبيرا قد وقع على الهنود الحمر في أمريكا، أو ذوي البشرة السوداء في أستراليا، ولا أقر بأن ظلما ارتُكب بحق هؤلاء الناس [أي الفلسطينيين]، لأن عِرقاً أقوى وعرقا أعلى مكانة وعرقا أوسع حكمة ومعرفة قد جاء واحتل مكانهم وبلادهم”.

ووصفُ الهنود بالأرانب والفلسطينيين بالكلاب يتطابق مع ما سمعناه أثناء معركة “طوفان الأقصى” من تشبيه لأهل غزة بالحيوانات، فالعقل الغربي واحد. ووصف العرق الإسرائيلي بكون أعلى وأقوى من العرق الفلسطيني ليس إلا تطبيقا عمليا لنظرية الانتخاب الطبيعي التي نظّر لها دارون.

إن الغرب بعقليته الاستعلائية والاحتقارية للآخر وفق ثنائية تشرشل [عرق أعلى وعرق أدنى]، هو غرب متناغم مع ذاته، لذا لا يتردد في ارتكاب أو مباركة المجازر التي لا يقبلها الشيطان، مثل مذبحة دير ياسين ومجزرة صبرا وشاتيلا وحصار بيروت ومجزرة ملجأ العامرية ومجزرة قانا ومجزرة المستشفى المعمداني الأخيرة.

إن هذه المجازر ليست استثناء من القاعدة، بل هي القاعدة ذاتها، وما الحقبة الاستعمارية عنا ببعيد.

إن الغرب الذي غرس الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية، جعله كيانا مقدسا فوق النقد، لدرجة أننا نجد الصهاينة يكتبون نقدا حادا لدولتهم في صحفهم ولا نكاد نسمع نقدا لإسرائيل في الصحافة الفرنسية، وأي انتقاد لها يُصنف معاداة للسامية تستوجب العقاب، والآن، مع معركة “طوفان الأقصى”، افتضحت الأكاذيب الغربية حول المساواة وحقوق الإنسان وأخلاق الحروب واتفاقية جنيف والعدالة وغيرها من الشعارات التي تخفي حقيقة الغاب، حيث لا حقّ إلا للأقوى.

إن بايدن وجورج بوش وأباه وإيمانويل ماكرون وساركوزي وتوني بلير وبوريس جونسون وغيرهم ليسوا سوى نسخ مطورة من أدولف هتلر وتشرشل، جوهر واحد وأعراض متعددة ومختلفة.

ما زلنا نتذكر صرخة جورج بوش الابن حين قال: لماذا يكرهوننا؟ وكأنه حمل وديع أو حمامة سلام تكرههما الذئاب المفترسة، وهو في صرخته/سؤاله يمثل جوهر المجتمع الأمريكي، بدليل أن ستين مثقفا أمريكيا دبجوا سنة 2002 بيانا موجها إلى المسلمين بعنوان: “لماذا نخوض الحرب؟”، وكأنه أرضية إيديولوجية للإدارة الأمريكية التي قررت بطريقة غير أخلاقية وغير قانونية تدمير أفغانستان والعراق، وخلاصة بيانهم هو ادعاؤهم أن القيم الأمريكية أفضل القيم وأحقها بالكونية كما بيّن ذلك الدكتور طه عبد الرحمن في تحليله الدقيق والعميق لذلك البيان، لذلك قالوا: “إننا باسم الأخلاق الإنسانية الكونية وبوعي تام لقيود ومقتضيات الحرب العادلة، نساند قرار حكومتنا ومجتمعنا في استعمال قوة السلاح مع هؤلاء”، لكن هؤلاء المثقفين بلعوا لسانهم حين رأوا القنابل تنهال على حفلات الأعراس في أفغانستان، مما يستوجب مساءلتهم حول “الأخلاق الإنسانية” و”الحرب العادلة”. كما أن المثقفين الأمريكيين أصيبوا بالخرس ولم يصدروا أي بيان حول تدمير إسرائيل لمستشفى المعمداني ومدارس الأونروا وإسقاط خمسمائة شهيد في أقل من دقيقة، لهذا، ولهذا وحده، نكرههم، ونقول ملء الفم شعارا دالا وعميقا: “يكفينا يكفينا من الحروب، أمريكا أمريكا عدوة الشعوب”.

إنه ليس شعارا عابرا أو تافها، إنه شعار يقال في الشوارع العربية من أكثر من ثلاثين سنة.

إن إسرائيل وعموم الغرب حين يمارسون القتل الجماعي لغير الغربيين، فإنهم يقتلونهم باسم “الأخلاق الإنسانية” كما قال المثقفون الستون، بمعنى أن قتل ضحايا ملجأ العامرية كان قتلا إنسانيا، وقتلَ ضحايا مستشفى المعمداني كان قتلا إنسانيا.

إنها الإنسانية الغربية، أو الإنسانية المتوحشة.

إن الاطلاع على حضارة الغرب في جانبها البراني، أي في جانب علاقتها مع الآخر، تجعلنا نميل إلى تصنيفها وفق تصنيف مجلة الهدى في مقالها الافتتاحي: “إن الغرب لكم عدو فاتخذوه عدوا”، ولا نميل إلى وصف الشراكة الذي أطلقه فريتس شتيبات.

إن علاقة الغرب بنا علاقة مزدوجة، يُظهرون احتضانهم لأبنائنا، وهم في الحقيقة يستفيدون من نخبتنا وأدمغتنا، ويُظهرون احتضانهم للجالية وهم في الحقيقة يستفيدون من اليد العاملة، ويرفعون شعار الديمقراطية لكنهم يحتضنون ويدعمون ديكتاتوريينا، لدرجة أن دونالد ترامب خرق كل الأعراف وصرح أمام العالم بأن عبد الفتاح السيسي ديكتاتوره المفضل، وهو الديكتاتور الذي لم يعتل عرش مصر إلا بمباركة من أوباما وأتريك أشتون وهما رمزا العالم الحر حينذاك.

هذه جزئيات مما يمكن سرد عشرات الصفحات من أمثالها للاستدلال على العداوة التي يعامل بها الغرب غير الغربيين من عرب ومسلمين وهنود، وأن إبادة هؤلاء ليس أمراً ذا بال. لذا وقفوا بكل تلاوينهم وقفة رجل واحد دعما للصهاينة في معركة طوفان الأقصى، فالفرق الرياضية تمنع اللاعبين من التعبير عن دعمهم للفلسطينيين وتبيح للاعبين آخرين دعم الإسرائيليين، والتلويح بالمقاربة الجنائية في فرنسا وبريطانيا لكل من رفع علم فلسطين أو تضامن مع أهلها، ووسائل التواصل الاجتماعي تحظر الحسابات التي تكتب عن القضية بنفَس غير غربي، وتحذف المنشورات المؤيدة للقضية الفلسطينية، ضربا لمبدأ حرية التعبير عرض الحائط.

كل هذا ليس بالغريب، فهذا هو العقل الغربي الذي رأيناه مع مؤسسيه كداروين وهيغل ونيتشه وغيرهم.

نعم، إذا كان الغرب في جوهره ومؤسساته ودوله معاديا لغير الغرب، فإن هناك استثناءات شعبية في العالم الغربي كله، وهي استثناءات تؤكد القاعدة ولا تلغيها، وهي المتمثلة في مفكرين وسياسيين وباحثين ورجال دين، ولا أدل على ذلك من أمثال تشومسكي وغارودي وفريتس شتيبات المذكور أعلاه والموسيقي توماس سواريز صاحب كتاب “دولة الإرهاب”، وهو الكتاب الذي يتحدث بناء على الوثائق الرسمية عن قيام إسرائيل الحديثة على الإرهاب، إضافة إلى بعض عامة الغربيين، وقد ظهروا مؤخرا متحدّين قوانين بلدانهم ومتظاهرين في مدن وعواصم أوربية وأمريكية تنديدا بالإرهاب الهمجي لإسرائيل ومتعاطفين مع الفلسطينيين ومحتضنين لقضيتهم في الشوارع وعلى مدرجات الملاعب وفي مدرجات الجامعات، وهؤلاء هم الضمير اليقظ الذي لا يتلوث بداء الانفصام بين الشعارات والممارسات.   

Share
  • Link copied
المقال التالي