Share
  • Link copied

المشاريع العربية العملاقة ليست نتاجا لـ”السيادة الصناعية”!!!

لعل “الفيديو كليب” الشهير الذي صوره الفنان المصري العالمي عمرو دياب، عام 1993، والذي يحمل عنوان “ضحكة عيون حبيبي”، قد أصبح وثيقة تاريخية مصورة مهمة تشهد على واحدة من أيقونات البنيات التحية المصرية، والتي اختفت اليوم وصارت من الماضي، يتعلق الأمر هنا بـ”كوبري أبو العلا” الذي كان يربط، قبل أن يتم تفكيكه وإزالته عام 1998، بين حي الزمالك (الراقي) وحي بولاق أبو العلا المصري الشعبي العريق.

فالأغنية التي كتب كلماتها الشاعر مجدي النجار ولحنها وغناها عمرو دياب، تراقصت أنغامها على سطح جسر كان من عجائب البنية التحتية التي عايشها نهر النيل منذ بداية القرن العشرين، إذ تم الشروع في بنائه عام 1908 ليفتتح في عام 1912 على عهد الخديوى عباس حلمى، وذلك بعدما أتمت تشييده شركة “fives lille” الفرنسية للإنشاءات المعمارية، وبإشراف من المهندس الفرنسي” إيفل” الذي قام ببناء برج إيفل الفرنسي الشهير، وجسور وأبراج أخرى كثيرة في مصر وغيرها، فيما تعهدت شركة “شيرزر” الأمريكية مهام تنفيذ الجزء المتحرك من الجسر، حيث كان يُفتح من منتصفه لتتمكن السفن العابرة من النيل المرور دون الاضطرار إلى تنحية صواريها العالية.

لقد كان هذا الجسر كما غيره من البنيات التحتية التي تصنف عادة تحت تصنيف “المشاريع العملاقة”، واحدا من العجائب غير المسبوقة في وطننا العربي، وفي الآن نفسه هي مشاريع تعكس البون الشاسع بين مستويات التصنيع المتطورة جدا في الدول الصناعية الكبرى، وبين الدول النامية والفقيرة أو حتى تلك الممتلكة لثروات ريعية، بقدر ما تحتاج هذه الدول إلى المؤسسات الاستثمارية الضخمة في تلك الدول عندما تهم ببناء وتشغيل البنيات التحتية العملاقة من مطارات وموانئ وجسور وسدود ومحطات لتوليد الطاقة أو إنتاج ونقل النفط والغاز وسكك حديدة وطرق سيارة وأبراج وأنفاق كبرى وبنيات صناعية فضائية، وما إلى ذلك. حيث يكاد كل مشروع ضخم من هذه المشاريع يكون رهين الاعتماد على معدات وخبرات وأحيانا تمويلات تلك المؤسسات، نظرا لعجز دولنا عن إنشاءات من ذلك الحجم.

فبدءا بشَقِّ قناة السويس الذي راود مخيلة نابليون لدى حملته على مصر نهاية القرن الثامن عشر، وصولا إلى مشاريع ضخمة من قبيل جسر الملك فهد الرابط بين مملكتي السعودية والبحرين، وغيرها من المشاريع العملاقة، تحضر المؤسسات الاستثمارية الأجنبية بقوة جاعلة كل حديث عن السيادة الصناعية للدول العربية والدول المثيلة لها، حديثا غير ذي معنى، ذلك أنه للمسألة جانبان مهمان للغاية، يرتبط الجانب الأول منهما بكون إنشاء تلك البنيات العملاقة تنضوي على معضلة امتلاك الآليات الضخمة القمينة بالتنفيذ، والتي حتى إن امتلكتها بعض الدول النامية والفقيرة فإنها لا تمتلك الآليات التي تصنعها والآليات التي تصنع الآليات التي تصنعها، في متتالية طويلة تنتهي بامتلاك البنيات الصناعية الأساسية المتمثلة في مستوى تصنيع الحديد والصلب الذي زادته التكنولوجيا الرقمية  قوة وحضورا وأهمية، وهو المطلب الذي ألحت عليه معظم حركات التحرر في عوالمنا النامية، نجحت أحيانا وأخفقت أخرى، وفي جميع الحالات لم تتمكن من بلوغ أعلى سقوف التنافس مع الدول الصناعية الكبرى، بل إن الشركات الوطنية للإنشاءات العملاقة بدورها تصبح والحالة هذه مجرد مؤسسات وسيطة.

الجانب الثاني من هذه المسألة يكمن في ما يتيحه التعاقد وفق آليات القانون الإداري، ذي النَفس اللبرالي/الرأسمالي، خصوصا فيما يتعلق بتطوير العقود الإدارية الدولية، وبعض أشكال شراكة القطاعين العام والخاص، وكذلك عقود البناء والتشغيل ونقل الملكية المعروفة بعقود الـ”BOOT”، وهي تعبيرات عن الترسانة القانونية الإدارية التي تجعل الدولة تستنجد بإمكانيات الشركات الاستثمارية العملاقة من أجل بناء وتشييد مرافق عمومية وبنيات تحتية أساسية، بل وتعطيها الحق أحيانا في تشغيلها والاستفادة من مداخيلها لعقود طويلة. وضع يستفيد منه المواطن إذ يجد نفسه حائزا لخدمات كان يستحيل على الدول الفقيرة أن توفرها، لكن كان سيكون أفضل لو وفرتها في ظل سيادة صناعية وطنية.

قبل عشر سنوات، كانت الشركات السورية لإنشاء البنى التحية واحدة من أهم المؤسسات الناشطة في العالم العربي من مشرقه إلى مغربه، وكانت الشركات المصرية العاملة في مجال البناء والعمير والحديد والصلب تحقق أعلى أرقام المعاملات والأرباح جراء أنشطتها، فيما كانت رؤوس الأموال العربية تتجه صوب مشاريع الربط القاري عبر الجسور العملاقة والطرق السيارة الدولية، حتى فرملت السياسة الدولة وتجاذباتها والنزاعات الإيديولوجية ومنعرجاتها كل ذلك. ولم يعد اليوم من بُدّ للحديث في هذا الصدد سوى عن إعادة الإعمار تارة، ما يفسح المجال مجددا أمام الاستثمار الدولي الضخم في مجال الإنشاءات، أو أمام نزعات انكفاء الدول المستقرة على تأمين حدودها من مخاطر الجوارات التي تتنامى يوما بعد يوم.

Share
  • Link copied
المقال التالي