أدلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نهاية الأسبوع الماضي بتصريحات عن الديانة الإسلامية كانت ستتصدَّر الأجندة الإخبارية في العالم لولا أخبار إصابة الرئيس دونالد ترامب وزوجته بفيروس كورونا، في اليوم ذاته، وتفاقم حرب القوقاز بين أذربيجان وأرمينيا.
في خطاب خصصه لشرح خططه لمحاربة ما يسمَّى في الخطاب السياسي والإعلامي الفرنسي séparatisme «الانطواء الإسلامي» (أرفض مصطلح «إسلاموي» لأنه بدعة لغوية) قال ماكرون إن الإسلام «عبر العالم يعيش أزمة عميقة» سببها «صراعات بين أصوليات ومشاريع سياسية ودينية». وحذّر من أن فرنسا تعاني من تداعيات هذه الأزمة بشكل مباشر وخطير. ماكرون اعترف كذلك بأن فرنسا أخفقت في التعاطي مع تنامي التطرف والعزلة الاجتماعية للمسلمين بين ظهرانيها.
ثم سرد سلسلة من الإجراءات قال إنها تهدف إلى معالجة «الإنطواء الإسلامي». لا شيء يضمن نجاعة الإجراءات الجديدة التي يُبدأ العمل بها حالا، لأنها فوقية ومشبعة بصِيَغ الأمر والنهي.
تتغيّر الحكومات ويتبدّل الرؤساء والوزراء، لكن الهوَس ذاته لم يتغيّر منذ 40 سنة. قبل ماكرون أقرَّ رؤساء فرنسيون آخرون بالفشل، وتوعدوا بسياسات وقرارات صارمة تعالج «الخلل الإسلامي» في المجتمع الفرنسي. وبعد ماكرون سيهدد رؤساء آخرون ويتوعدون مثله أو أكثر. لكن النتيجة واحدة، إخفاق ومزيد من الانعزال ما لبث أن تحوّل إلى تطرف وإرهاب في فرنسا والعالم.
لن أسمح لنفسي بالفتوى في صحة كلام ماكرون عن أزمة الإسلام، من عدمها. لكن كمتابع لا يمكنني إنكار أن المجتمعات المسلمة تعيش فعلا أزمات عميقة وحادة تضعها في مفترق طرق. المسلمون اليوم، بمعتدليهم ومتطرفيهم، من أكثر شعوب العالم عرضة للاضطرابات والأزمات، الفردية والجماعية، في بلدانهم وفي مجتمعات الهجرة. أغلبية كبيرة من المسلمين تعيش شقاءً يبدو ألَّا شفاء منه. شقية في أوطانها وأكثر شقاءً في مهجرها الذي لم يعد مهجرا للكثيرين من المسلمين بل وطن لا يعرفون غيره.
نشرات الأخبار تحفل على مدار السنة بعناوين رئيسية وصور وتقارير عن المسلمين والإسلام. أغلبية هذه الأخبار مألوفة في سطحيتها وسلبيتها، إذا استثنينا أخبار الأويغور، حديثا، التي تتعاطف مع هذه الأقلية المسلمة ليس حبًّا فيها بل نكاية في الحكومة الصينية. المسلمون يتحمّلون نصيبا معتبرا في سلبية وسطحية هذه الأخبار، و»الآخر» يتحمّل نصيبه من المسؤولية أيضا.
أستطيع، في المقابل، أن أجزم بأن فرنسا مأزومة اجتماعيا وسياسيا. وأثبتت عجزا مزمنا عن بناء علاقة سويّة وصحية مع مواطنيها غير الأصليين، من مسلمين وغير مسلمين، ناهيك عن عجزها عن كسب ثقتهم. مع فرق مهم يكمن في أن التأزم مع الفرنسيين الذين يدينون بالإسلام أكثر حدّة وأشد وضوحا، لأنه يُقابَل بتأزم مشابه يعانيه المسلمون الفرنسيون، ولأنه مرتبط بماضٍ استعماري دموي عجزت فرنسا حتى الآن عن مواجهته بشجاعة.
بوضوح أكبر: فرنسا تعاني مع أجيال جديدة من أبناء المهاجرين القادمين تحديدا من المغرب العربي ودول إفريقيا الملوَّنة. كان الأباء المهاجرون متصالحين مع ذواتهم راضين بقدرهم، لكن الأبناء والأحفاد أكثر تمردا واحتجاجا. كان للآباء مرجعية تمنحهم السكينة والأمل، تتمثل في وطن يحلمون بالعودة إليه، لكن هذا الوطن أبعد ما يكون عن الأبناء والأحفاد وهم في مجتمع لا يبدي لهم علامات الثقة والترحيب.
المعاناة، التي تحوَّلت مع الوقت وتراكُمِ الإخفاقات إلى مرض مزمن، ثقافية واجتماعية الجوهر. لم تصبح دينية إلا لاحقا بعد أن اُلبست رداءً دينيا (إسلاميا) احتارت في خلعه.
الهروب إلى الدين والتديّن معادلة تخدم الطرفين: المسلمون الفرنسيون المعنيون بهذه الأزمة وجدوا في الاختفاء مبررا لوضعهم ومن ثمة تصرفاتهم وردات فعلهم. والسلطات الفرنسية ترتاح لهذا الهروب إلى الدين، لأنه يسهّل عليها حشر «عدوّها» في زاوية ووصمه بما تشاء. كما يشكل هروب «العدو» إلى التديّن وقودا لنقاشات سياسية وإعلامية أزلية ينشغل بها المجتمع عن مشاكله الحقيقية، ويخفف (الهروب) عن الدولة ثقل مسؤولية الإخفاق تجاه مكوِّن من مكونات مجتمعها.
حتى لو لم يكن هناك متطرفون وإرهابيون بين المسلمين، كانت النخب السياسية والإعلامية الفرنسية ستجد سببا لإشغال نفسها بالمعتدلين منهم. هناك ألف سبب وسبب، من وجهة نظر فرنسية محضة، لمهاجمة المسلمين خصوصا والأجانب عموما.
فرنسا حوَّلت ثراءً إثنيًا واجتماعيا ودينيا وثقافيا هائلا إلى قنبلة موقوتة. كان يمكنها، مثل أمريكا وبريطانيا والدول الإسكندنافية، استغلال ذلك الثراء والاستفادة منه، لكنها فضلت البقاء سجينة قانون عمره 115 عاما، وُضع في سياق مختلف تماما، يساوي بين الفرنسيين بإلغاء خصوصيات بعضهم وأجزاء أساسية من هويتهم وشخصيتهم.
العلمانية الفرنسية في أصلها مجرّدة، ومبتغاها في أواخر القرن التاسع عشر، كان تقليص هيمنة الكنيسة. لكن النخب الفرنسية في القرن الحادي والعشرين حوّلت العلمانية إلى سلاح يستهدف المسلمين، وخصوصا النساء منهم. لهذا فرنسا هي الدولة الوحيدة التي يشكل فيها امتناع امرأة عن مصافحة رجل موضوع نقاش وطني. وهي الدولة الوحيدة التي تعتبر قطعة قماش تغطي شعر سيّدة علامة تمرد اجتماعي وثقافي وحتى سياسي. وهي الدولة الوحيدة التي تريد إسلاما فرنسيا. لم نسمع يوما مسؤولا بريطانيا يطلب إسلاما بريطانيا ومسؤولا في ستوكهولم يطلب إسلاما سويديا!
ولهذا يستغرب الأوروبيون والأمريكيون الورطة الفرنسية مع الإسلام والمسلمين. ويستغربون كيف حوّل السياسيون والمثقفون الفرنسيون هذا الموضوع الى فخّ هم أول من يدفع ثمنه.
لا يمكن، ولا يجب، إنكار أن المسلمين يمرون بواحدة من أكثر مراحل وجودهم سوادا. ومسؤولية تجاوز هذا الوضع غير السوّي تقع على نخبهم ومثقفيهم، هم قبل غيرهم، لأن التغيير يبدأ من الداخل وبقليل من الجرأة والشجاعة الدينية والثقافية والعلمية. لكن، في المقابل، تعيش فرنسا أزمة لا تقل خطورة. ومسؤولية تجاوز الخطر المحدق بالمجتمع الفرنسي تقع على عاتق المثقفين والنخب. ولعل الخطوة الأولى تكون بامتلاك جرأة التوقف عن تقديس قانون 1905 الذي يكرس العلمانية (اللائكية) والتفكير في المستقبل من دونه.
تعليقات الزوار ( 0 )