شارك المقال
  • تم النسخ

المدينة القديمة ذاكرة مدينة الدارالبيضاء بين الترميم والترحيل

 التأم يوم السبت 27يوليوز2024 بمركز التكوين في التنشيط الثقافي والفني لوبيلا يوم دراسي بشأن التنمية الحضرية المستدامة لأحياء الدارالبيضاء التاريخية وتأهيلها البشري والاجتماعي والعمراني(حالة المدينة القديمة ودرب السلطان) ، حيث تم تطارح ما تتعرض له أحياء هذه المدينة ومعالمها من محو ممنهج سيفقد المدينة البيضاوية بأكملها هويتها الثقافية وروحها الاجتماعية.

– المدينة القديمة روح الدار البيضاء وذاكرتها التاريخية

     تتميز المدينة القديمة للدارالبيضاء عن باقي المدن العتيقة والقديمة بباقي مدن المملكة بما فيها فاس ومراكش بهوية خاصة يمتزج فيها ما هو أثري بما هو تاريخي ، وديني بما هو سياسي ، وبيئي بما هو اجتماعي. إذ تعتبر المدينة القديمة من أقدم المدن في المغرب التي يمتد تأسيسها إلى ماقبل العصور التاريخية بدليل موقع سيدي عبد الرحمان الأثري الذي كشف عن وجود أقدم إنسان بالمنطقة الذي تعايش مع أقدم الحيوانات بمختلف أحجامها وأشكالها بما فيها فرس النهر والحيوانات الضارية من فهود وليوث . ولعل تسمية أبو الليوث التي تم تم تحريفها إلى سيدي بليوط لأكبر تأكيد تاريخي وديني على ذلك . إلى جانب ذلك تعتبر المدينة القديمة مدينة ضاربة في عمق التاريخ المغربي حيث أن مدينة أنفا هي أصل المدينة التي عرفت تشكل إمارة برغواطة التي تشكل أكبر إمارة أمازيغية امتد نفوذها من أزمور إلى حدود سلا أو ما يسمى بالليمس الروماني ، والتي عمرت لأكثر من أربعة قرون بعدما سقطت تحت ضربات الأمراء المرابطين والموحدين . لتنبعث من جديد في العهد المريني والسعدي وتواجه الغزو البرتغالي قبل أن تدمر من طرف الزلزال الذي دمر مناطق متوسطية بما فيها البرتغال ، ليتم إعادة تجديدها من طرف سيدي محمد بن عبدالله الذي حرص على تسميتها بالدارالبيضاء وأعاد بناء قصبتها وزودها بمدافع لحمايتها  من الغزو الأجنبي الشيء الذي لم يمنع من قنبلتها من طرف البارجة الفرنسية كاليلي ليتم تعريض ساكنة المدينة لتقتيل ممنهج انتقاما  ورداعلى مقاومة قبائل مديونة وزناتة التي دمرت سكة قطار المستعمر الفرنسي. ولعل طول شاطئها ، الذي يعتبر من أطول شواطئ المملكة سواء بالبحر المتوسط أو بالمحيط الأطلسي   هو الذي دفع أول مقيم عام فرنسي لتحويل المدينة إلى عاصمة اقتصادية وتجارية عبر بناء أكبر ميناء ، وبناء مدينة أوربية موازية بمرافقها الإدارية والمالية ومعمارها المتفرد ليتم بعد ذلك بناء أحياء درب الحبوس ودرب السلطان كامتداد شعبي وسكني للمدينة القديمة . ولعل هذا ما جعل هذه المدينة قبلة لهجرات مختلف الأطياف الإقليمية و الاجتماعية بالمملكة ، سواء من فاس أو سوس ، أو الصحراء لتشكل بذلك مزيجا سكنيا واجتماعيا وثقافيا لا تجده في أي تركيبة بشرية واجتماعية لأي مدينة عتيقة او قديمة بالمغرب. ولعل هذا ما أكسب ساكنة المدينة القديمة نمط عيش خاص وطريقة تفاعل اجتماعي يمزج بين المرح والتفتح وحضور البديهة … لكن وسط هذا الانفتاح سواء على البحر أو على الأجنبي ، تختزن المدينة القديمة روحا دينية عميقة ومتأصلة تستمدها من مختلف أضرحة الأولياء والصالحين الذين يتوزعون جنبات المدينة ، وعلى رأسهم ضريح سيدي عبد الرحمان ، وضريح سيدي بليوط ، و بوسمارة وللا تاجة ، وسيدي الخدير إلى غير ذلك من الأضرحة والزوايا وكذا المساجد وزعلى رأسها مسجد ولد الحمرا ، ومسجد السوق إلى غير ذلك من المساجد التي تضفي قدسية خاصة على المدينة رغم صخب سكانها وتنوع أصولهم . فهذه الخاصية هي التي تنفث الروح وتحافظ على هوية المدينة وهي تتعرض لعملية بناء ممنهج  يشمل بالإضافة إلى الاقامات والأبراج تشييد المراكز التجارية والأسواق الكبرى.

-إعادة هيكلة المدينة القديمة ومحو معالمها التاريخية

     عرفت المدينة القديمة (داخل السور أو خارج السور بما فيه درب السلطان) بالدار البيضاء، منذ نهاية الثمانينيات من القرن 20 إلى الآن، عملية إعادة هيكلة متلاحقة وممنهجة انعكست ومظاهرها من خلال اتخاذ عدة إجراءات؛ من بينها:

-عملية إحصاء ساكنة بعض أحياء هذه المدينة في رمضان 1989 كدرب السنغال، ودرب الطليان، وبوطويل، ودرب كشبار، وبوسبير، ودرب الجران…

– إنجاز مسجد الحسن الثاني على طول ساحلها البحري الممتد من مرزيكا إلى شاطئ العنق، والمقام على مختلف المتنفسات السابقة لسكان هذه المدينة بما فيها “الشوينطي” والمسبح البلدي ومتنزه حوض الحوت، والتيران الأحمر، بالإضافة إلى جزء من المعرض الدولي بعد هدم ما كان يسمى بقاعة القصر الصغير والمرافق التابعة له والمتمثلة في قاعة العرض التي احتضنت الكثير من التظاهرات بمختلف أشكالها الرياضية والفنية والثقافية وحتى العائلية، والمقهى الذي كان يرتاده بعض الشباب من سكان المدينة القديمة.

– ترحيل عدد من العائلات التي كانت تسكن بعض أحياء هذه المدينة، خاصة سكان درب الصوفي الذين تم توطينهم في شقق بحي مولاي رشيد أو بشقق في حي النسيم قرب ليساسفة.

– التشميع الإسمنتي لكل الدور التي تم إخلاؤها من سكانها بل ومباشرة هدم بعضها.

– القيام بهدم بعض المدارس العريقة في هذه المدينة كمدرسة الحريري وثانوية مولاي يوسف الذي خلف هدمها تأثيرا كبيرا لدى سكان بعض أحياء هذه المدينة.

وقد تمم تبرير عملية إعادة هيكلة المدينة القديمة بضرورة شق شارع (المحج الملكي) الذي سيوصل وسط المدينة بالساحل؛ وكذا بتجميل مدينة الدار البيضاء من خلال بناء كورنيش يمتد على ساحلها للترفيه على سكان المدينة واستقطاب السواح والمستثمرين الأجانب؛ بالإضافة إلى خلق عمق روحي للعاصمة الاقتصادية من خلال بناء مسجد الحسن الثاني.وكيفما كانت هذه التبريرات ومدى وجاهتها من الناحية المعمارية والجمالية؛ إلا إنه يحق لساكن مدينة الدار البيضاء على العموم وساكن المدينة القديمة على الخصوص بأن يتساءل عن الأهداف الحقيقية التي كانت وراء هذه العملية؛ وعن ما إذا كانت هذه الأهداف تبطن خلفيات أخرى مرتبطة بالأساس بهواجس أمنية ومركنتيلية.

1 ـ تحكم الهاجس الأمني في إعادة الهيكلة

إن من يرجع إلى تاريخ المدينة القديمة والذاكرة الجمعية لسكانها سيكتشف أن أحياء هذه المدينة، وبالرغم من وجودها خارج سور المدينة التقليدية، تعتبر من أقدم الأحياء البيضاوية وأعرقها إلى جانب أحياء درب السلطان وعين الشق والحي المحمدي وكريان سنطرال، إذ أن بعض الوافدين على الدار البيضاء بسبب الهجرة والبحث عن وسائل الرزق في منتصف ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن الماضي اختاروا الاستقرار بأحياء هذه المدينة نظرا لعدة عوامل من أهمها:

– قربها من الميناء بما يشكله من شريان اقتصادي للمدينة وبما يوفره من منافذ للشغل، سواء على ظهر البواخر أو في الشحن والإفراغ أو من خلال الاشتغال بمراكب الصيد.

– قربها من وسط المدينة وما تتوفر عليه من قطاع خدماتي وتجاري في حاجة مستمرة لليد العاملة، وكذا لوجود تجمع إداري يضم مقر العمالة والمجلس البلدي، وبعض المصالح التابعة لوزارة المالية كإدارة الجمارك والضرائب… مما سمح لبعض سكان هذه الأحياء بالاشتغال كشواش أو كأعوان…

– قربها من المصانع والمعامل الموجودة في أحياء صناعية مثل الحي الصناعي لعين السبع وحي المعاريف الذي كان يضم العديد من مصانع النسيج كمصنع إبوما وغيرها.

– قربها من كورنيش عين الذئاب بما يتوفر عليه من مسابح ومقاه ومراقص وفنادق وغيرها ومن محلات ترفيهية؛ وهو ما كان يوفر الشغل لشريحة من السكان لكي يعملوا في هذه المحلات كحراس أو بستانيين، أو خادمات في البيوت أو المقاهي، أو نوادل إلى غير ذلك من المهن.

– قربها من بعض الأحياء الراقية كحي بوركون أو حي آنفا للاشتغال في الفيلات المنتشرة في هذه الأحياء إما بشؤون المطبخ أو الاهتمام بتشذيب الحدائق أو حراسة الأبواب، حيث كانت هذه الفيلات في ملكية بعض المعمرين الفرنسيين وفئات من البرجوازية البيضاوية وكبار الموظفين ورجال السلك الدبلوماسي والقنصلي.

– قربها من أحياء المدينة الأوربية، خاصة الموجودة في شارع فرنسا (الذي بدل اسمه بشارع محمد الخامس بُعيد الاستقلال) وشارع باريس، ومرس السلطان.

وبالتالي، فنظرا لكل هذه العوامل، قد استقرت عدة شرائح شعبية في هذه الأحيان، حيث سكنت بالبيوت التي شيدت هناك وفق نظام معماري كان يختلف بشكل كبير عن معايير الهندسة العصرية التي بنيت على أساسها البيوت والشقق الموجودة في الأحياء الأوربية. وهو ما جعل أحياء هذه المدينة أحياء مكتظة بالسكان؛ تضم منازل تتكون من طابقين أو ثلاثة تسكنها عدة عائلات تستقر كل واحدة في بيت من البيوت؛ كما أن ممرات هذه الأحياء غالبا ما كانت ضيقة لا تسمح بمرور السيارات سواء الكبيرة منها أو الصغيرة.

ولعل هذه الهندسة العشوائية والالتوائية هي التي شكلت صعوبات كبيرة في مواجهة قوات الأمن في انتفاضة يونيو 1981 لبعض شباب هذه الأحياء الذين كانوا يستطيعون الإفلات من مطاردة هذه القوات بسرعة اختبائهم في الدروب والأزقة الضيقة لهذه الأحياء، والتسلل من زقاق إلى آخر أو القفز من سطح إلى آخر؛ الشيء الذي صعب من قيام هذه القوات بمأموريتها على عكس الأحياء الشعبية الأخرى كالحي الحسني أو الحي المحمدي أو عين الشق أو سباتة والتي لم تجد قوات الأمن كبير عناء في مطاردة المتظاهرين وضبط أماكنهم مما سهل القبض عليهم.

ولعل هذه الصعوبة المجالية هي التي جعلت السلطة المركزية والمحلية تفكر جديا في التخلص من هذه الأحياء من خلال اختراقها عبر بناء المحج الملكي. ومما قد يؤكد هذه الخلفية الأمنية هو وجود شارعين (شارع الموحدين وشارع مولاي يوسف) يربطان هذه المنطقة بوسط المدينة مما يجعل التساؤل مشروعا عن الحاجة إلى شارع ثالث والكيفية التي سيتم بها إنجازه .بالإضافة إلى أن الاكتظاظ السكاني التي تعرفه هذه الأحياء وقربها من وسط المدينة بمركباته الأمنية ومرافقه الإدارية المختلفة قد ساهم بشكل كبير في استحضار هذه الخلفية، خاصة في فترة سياسية تميزت بالهوس الأمني وتركيز السلطة المركزية وإستراتيجيي الأمني في عهد وزير الداخلية السابق إدريس البصري على احتواء كل المكامن التي يمكن أن تشكل أو تهدد الأمن المحلي أو الجهوي للدار البيضاء. ولا ننسى أن الخطاب الملكي للملك الراحل الحسن الثاني في سنة 1984، والذي تضمن مشاريع إصلاح مدينة الدار البيضاء والاهتمام بتجهيزاتها المرفقية والإدارية، كان قد ألقي بمقر ولاية الدار البيضاء والتي لا تبعد كثيرا عن أحياء وسكان هذه المدينة القديمة.

كما أن السلطة المحلية وهي تفكر في مشروع إعادة هيكلة هذه المنطقة البيضاوية العريقة كانت تستحضر التاريخ النضالي لسكان هذه الأحياء الذي عرضهم، خاصة في بداية الخمسينات من القرن الماضي وبعد نفي الملك محمد الخامس، لإجراءات تشددية وقمعية من لدن قوات الإقامة العامة، فكثيرا ما ذاق سكان هذه الأحياء مرارة الحصار، من خلال بناء سلطة الحماية لجدران وأسلاك أمنية قصد احتواء تسللات رجال المقاومة؛ أو كما ينعتهم السكان برجال الفداء. كما خضع هؤلاء السكان لتحرشات ومضايقات جيش الاحتلال عندما كان الجنود الفرنسيون يقصدون وكر “بوسبير” القديم للهو وقضاء الليالي الحمراء فيه. بالإضافة إلى ذلك كثيرا ما تعرض سكان هذه الأحياء لتنكيل الجنود السنغاليين وعنفهم الوحشي حتى لقب أحد أحياء هذه المنطقة بدرب السنغال.

وقد سهل بناء مسجد الحسن الثاني، الذي ساهم فيه شباب هذه الأحياء بشكل مكثف ومضني واشتغلوا في أوراشه ليل نهار بما صاحب ذلك من كد وتعب أدى في بعض الأحيان إلى تعرض بعضهم لعدة حوادث خلفت عدة ضحايا ومعطوبين، في إضفاء شرعية على عملية ترحيل بعض سكان هذه الأحياء، حيث تم نقل سكان أحياء درب الصوفي ودرب الطليان بعدما تم الانتهاء من بناء هذا المسجد، التي أصبحت تحيى فيه بعض المناسبات الدينية كإحياء ليلة القدر أو إحياء ليلة المولد النبوي، حيث يتم آنذاك اتخاذ كل الإجراءات الأمنية المكثفة من خلال إقفال كل الممرات والشوارع المؤدية إلى المسجد بما فيها تلك التي تفضي إلى هذه الأحياء.

2 ـ تحكم الهاجس العقاري في إعادة الهيكلة

كثيرا ما رددت شائعة بين سكان هذه الأحياء حول العرض الذي قدم من لدن المستثمرين الخليجيين لشراء الأراضي الموجودة فيها هذه الأحياء. وكيفما كانت صحة أو عدم صحة هذه الشائعة، فإن ذلك لا ينفي أن هذه المنطقة تتمتع بقيمة عقارية كبيرة نتيجة لعدة معطيات؛ من أهمها:

– موقعها الإستراتيجي داخل المدينة من حيث قربها من عدة مواقع اقتصادية حيوية كالميناء، ومحطة القطار، ومحطات الحافلات بوسط المدينة.

– قربها من الوسط الحقيقي لمدينة الدار البيضاء بمرافقه الإدارية وخدماته الاجتماعية والتجارية والترفيهية، إذ بالرغم من خلق عدة عمالات بهذه المدينة بمركباتها الإدارية الضخمة؛ فإن ذلك لم يؤد إلى إيجاد وسط مدينة آخر يمكن أن ينافس الوسط الذي بنته فرنسا بهياكله الإدارية ونافورته الموسيقية وشوارعه الترفيهية وحزامه الأخضر الشيء الذي يفسر المد الذي يعرفه من قبل سكان باقي الأحياء الطرفية، خاصة في نهاية الأسبوع.

– قربها من الكورنيش الذي يعدّ المتنفس الأساسي لمدينة في حجم الدار البيضاء بساحله وامتداد محيطه ومقاهيه، وكل المسابح والفنادق التي توجد فيه. بالإضافة إلى قربها من شاطئ بيبسي وشاطئ عين الذئاب الذي يعدّ من أكبر الشواطئ الموجودة بهذه المدينة بل في المغرب.

– قرب هذه الأحياء أيضا من المشاريع الاستثمارية التي بنيت، خاصة منذ منتصف السبعينيات كإقامة الحبوس بمركباتها التجارية والخدماتية والترفيهية؛ بالإضافة إلى إنشاء مطاعم للأكل السريع كماكدونالز ومركب داوليز، وكذا مركز أنفا ، وموروكو مول، والمارينا

– قرب هذه الأحياء أيضا من المدينة القديمة داخل السور بما تتوفر عليه من أنشطة تجارية وورشات صناعية ومعالم تاريخية ومعمارية.

– اعتبار هذه الأحياء امتدادا طبيعيا لحي بوركون الذي تحول منذ الثمانينيات إلى سوق عقاري استثمرت فيه أموال طائلة في بناء الإقامات الخاصة وتشييد الشقق العصرية وما حققه المستثمرين العرب (كالمستثمر العراقي حامد جاسم) وبعض المنعشين العقاريين المغاربة من أرباح من جراء شراء الأراضي وبيع الشقق. ولعل القيمة العقارية التي أصبحت تتمتع بها الأراضي بهذا الحي ونفاذ المخزون العقاري به دفعا المنعشين العقاريين إلى التطلع إلى الأحياء المجاورة، بما فيها أحياء المدينة القديمة كدرب الطليان ودرب الصوفي ودرب المعيزي والدروب المجاورة، التي يمكن أن تستثمر بعد نقل سكانها وترحيلهم إلى أراض لبناء الإقامات والشقق الفخمة.

-قربها من المشروع الضخم لمارينا الدار البيضاء والتي تعدّ من أكبر المارينات بالمغرب بما تضمه من إقامات فخمة، وأبراج عالية تضم مشاريع تجارية واستثمارية كبرى ومتنوعة

ولعل مما يزكي هذا التطلع إلى القيمة العقارية لأراضي هذه الأحياء وتحلب ريق المنعشين للمخزون العقاري الموجود بها هو التصميم المعماري الذي وضع لهذه المنطقة، حيث ينص على السماح بإقامة عدة إقامات خاصة على طول المحج الملكي مما سيزيد من سومة هذه البنايات وأثمان اقتنائها، خاصة أن شق هذا المحج وربطه هذه المنطقة بوسط المدينة مباشرة سيزيد من الرفع من القيمة العقارية لكل البنايات والمحلات التي ستقام على أنقاض هذه الأحياء.وقد تأكد هذا المعطى من خلال تسابق المنعشين العقاريين لبناء إقامات فخمة قرب هذه الأحياء؛ كتلك الإقامات التي شيدت قرب حي كوبا على أرض أحد ملاعب هذه الأحياء بمباركة من السلطة المحلية وبتزكية من رئيس الجماعة الحضرية التي تدخل هذه الأحياء ضمن محال نفوذه ضاربا عرض الحائط باحتياجات ساكنة هذه الأحياء من الشباب في اللعب والتنفيس، إذ من المعروف أن الملعب (أو ما كان يسمى بالتيران الأحمر) كان متنفسا لكل ساكنة تلك الأحياء من شباب وكهول؛ حيث كانوا يتمرنون فيه ويمارسون فيه كرة القدم لعبتهم المفضلة، فتم حرمانهم من هذا المتنفس لاعتبارات “مركنتيلية” وتحقيقا لمصالح فئة من المنعشين والمضاربين العقاريين داخل هذه المدينة. فقد لقي هذا الملعب نفس مصير ملاعب درب لوبيلا وبن إبراهيم والمكسيك التي تحولت إلى تجمعات سكنية.

إعادة ترميم أحياء المدينة القديمة والحفاظ على هوية الدار البيضاء

   يظهر أن تلازم الهاجس الأمني للسلطة بمصالح لوبيات عقارية أدى إلى التخطيط الممنهج للقضاء على جزء من مجال الدار البيضاء الغني بزخمه الشعبي وتراثه النضالي وذاكرته التاريخية. فأحياء مثل درب الصوفي التي تمت تصفيته وترحيل ساكنته وتشتيتها على أحياء طرفية بالعاصمة الاقتصادية، وعرصة بن سلامة التي تم هدم جزء من مبانيها ودرب المعيزي الذي أزيلت بعض معالمه، ودرب السنغال، ودرب بوطويل ودرب بوسبير، ودرب عبد الله وباقي الدروب الأخرى التي ما زالت تنتظر بطش الجرافات كلها دروب وأحياء تعتبر من أقدم أحياء المدينة القديمة وتشهد على فترات تاريخية من حياة مدينة الدار البيضاء وتطورها، ومعلمة من معالم الذاكرة الجمعية لهذه المدينة. فلعل هدم ثانوية مولاي يوسف، أو ما كان يسمى عند البيضاويين بقبة والو وهدم مدرسة الحريري ليشي بشكل  خاص عن المرامي الحقيقية لعملية ترحيل ساكنة هذه الأحياء بدل العمل على إعادة بنائها وترميمها. إذ أن القضاء وإزالة هذه الأحياء هو بتر ممنهج لجزء من هوية المدينة البيضاوية كمدينة شعبية تعج بالحركة والحيوية. بالإضافة إلى أن إزالة هذه الأحياء هو قضاء على نمط معيشي معين مرتبط بالأساس بالميناء والحياة بالمرسى والعيش من تجارة في الخضر والفواكه وباقي الأشكال التجارية الأخرى بدليل أن كل الساكنة التي تم ترحيلها إلى حي النسيم أو مولاي رشيد ما زالت أسباب عيشها مرتبطة بهذه القطاعات مما جعلها تعاني يوميا مشاق التنقل لمزاولة أعمالها سواء بالمرسى أو بالسويقة أو ببعض المعامل والورشات التي تشتغل بها بوسط المدينة.كما أن هذه الأحياء تعكس نمط فكريا واجتماعيا كان يقوم دائما على التضامن والتعارف والمساندة المتبادلة في مواجهة أعباء الحياة ومشاكلها. فالمآتم والأعراس عادة ما تشكل مناسبة لتلاقي أبناء كل الدرب ومواساة بعضهم البعض أو تقديم التهاني فيما بينهم. فكل عرس أو مأتم هو عرس ومأتم كل سكان الدرب، إذ كثيرا ما شوهد ساكنات هذه الأحياء وهن يساهمن في إعداد قصاعي الكسكس وتوزيعها على المعزين كتعبير إنساني وديني يجسد أسمى المعاني عن احترام الجيرة والتآزر في الشدائد.فهذه الدروب والأزقة هي، قبل أن تكون مبان وبيوت، خزان لذكريات مشتركة وتكريس لذاكرة جمعية، ونسيج لعلاقات اجتماعية تتميز بطابع خاص لا تجده في العديد من الأحياء الجديدة أو العصرية أو حتى الراقية التي غزت مدينة الدار البيضاء. فشعبية هذه الأحياء ذات لون خاص أصبح ينقرض بسبب العصرنة التي اكتسحت هذه المدينة وطبيعة الهندسة الأوربية التي هيمنت على فضاءاتها الشيء الذي حولها إلى غول إسمنتي ضخم بدون هوية أو روح.

من هنا، أصبح من الضروري إعادة النظر في هذه العملية التي تواصل قضم أحياء ودروب هي من صميم الذاكرة الجمعية للدار البيضاء ورافدا من روافد هويتها الشعبية والنضالية.وبالتالي؛ فبدل من التفكير في بناء إقامات خاصة وعصرية على حساب ترحيل آلاف من العائلات وتشتيتهم بين الأحياء الطرفية للمدينة، بما يترتب عن ذلك من محو أبدي لجزء من الذاكرة الشعبية البيضاوية، ينبغي التفكير في إيجاد صيغة تعيد ترميم وإعادة بناء مساكن هذه الأحياء وتخصيص تمويلات خاصة لهذه العملية للحفاظ على أحد المكونات العمرانية التقليدية والعريقة لمدينة الدار البيضاء، خاصة أن الكلفة المالية لهذا الترميم ستكون في كل الأحوال أقل من التكاليف التي يتطلبها ترحيل سكان هذه الأحياء. ففسح المجال أمام المقاولات الصغرى والمقاولين الذاتيين للتعاقد من أجل إعادة بناء كل المساكن بما فيها تلك الآيلة للسقوط وفق تصاميم عصرية تحترم كل معايير البناء والسلامة، في عملية تجمع بين السلطة المحلية، ومالكي هذه المساكن بالإضافة إلى جمعيات المدينة القديمة، ستكون بلا شك عملية مربحة لكل الأطراف، حيث ستجنب السلطة المحلية تعقيدات تحديد المستفيدين والمشاكل المترتبة عن ذلك.كما ستخلق هذه العملية رواجا للمقاولات الصغرى من خلال خلق فرص عمل متعددة، في حين سيضمن لسكان هذه الأحياء البقاء في مسقط رأسهم والاستمرار في العيش ضمن نمط ووتيرة العيش التي تربوا عليها والتعامل مع الوجوه والأمكنة والمرافق نفسها التي ألفوها من حمامات وأفرنة وحوانيت وغيرها، وستجنب سكان هذه الأحياء أو ما تبقى منهم مختلف الصعوبات النفسية والمادية في التأقلم مع العيش في شقق ما يسمى بالسكن الاقتصادي في مدن طرفية تفتقد للزخم التاريخي والفكري واللغوي والمعيشي لمثل هذه الأحياء.

بالإضافة إلى أنه غير المنطقي التأكيد في الخطابات الرسمية للسلطة على ضرورة الحفاظ على المدينة القديمة داخل السور من خلال إعادة ترميم مرافقها والاحتفاظ بمساكنها مع الاستمرار في القضاء على الامتداد العمراني لهذه المدينة من خلال إزالة جزء من أحيائها، فالمدينة القديمة بالدار البيضاء هي تطور عمراني وتاريخي مترابط المكونات ومتواصل الحلقات. من هنا ضرورة التفكير ضمن هذه الأوراش الكبرى التي ستنجز بالدارالبيضاء في أفق تنظيم إقصائيات كرة القدم 2030 و خطة 2035 أن تسترجع المدينة القديمة مسبحها البلدي الذي هدم لإنجاز مسجد الحسن الثاني ، حيث يمكن أن يتم بناؤه مكان مسبح إدن روك السابق ، وإعادة بناء أكواريوم لتعويض حوض الحوت الذي تم إغلاقه  . ليتم بعد ذلك محاولة جرد كل الدور والمنازل التي سكنها وجوه فنية ورياضية وفكرية وتثمينها والتذكير بساكنيها من الفنانين كالموسيقار أحمد البيضاوي بجامع الشلوح وبوشعيب البيضاوي والماريشال قيبو وبوجمعة أوجود ولحريزي المفضل ، أو الفنان إبراهيم العلمي ومحمد الحياني والحاجة الحمداوية…والرياضيين كاللاعب بيتشو وغيره بدرب السلطان..أو مفكرين  كالمهدي المنجرة بدرب التازي ….بالاضافة إلى ذلك ، ينبغي التشجيع على إعادة خلق ما كان يسمى بجمعيات الدروب والأزقة التي كانت تقوم بالعناية بنظافة المدينة والحفاظ على طمأنينة العيش فيها ، وتنظيم تظاهرات أو مسابقات بينها حول أنظف حي أو أجمل حي مما سيقوي من الشعور بالانتماء إلى الحي وإعادة الاعتبار لمفهوم ولد الدرب وبنت الدرب بما كان يواكب ذلك من احترام متبادل والجيرة المتضامنة.

بالاضافة إلى ذلك ، فينبغي لإحياء ذاكرة المغاربة عموما والبيضاويين خصوصا أن يتم خلق بوابة أو منصة إلكترونية يتم من خلالها إعداد برامج خاصة عن تاريخ المدينة العريق وعن معالمها الأثرية والتاريخية  واستضافة مختصين ونخب وفعاليات وعموم ساكنة المدينة للتحدث حول قضاياها والمشاكل التي تعاني منها المدينة.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي