عديد منّا يعرف أن أصل الدول في تاريخ الحضارات هو المدن والحواضر، ومنّها اشتُقت في اللغات العالمية الحية كلمات، مواطن ومدني حضارة.. لكن القليل منّا لا يربط سبب تأخر الدول وتقدمها برباط عضوي حيوي، بوجود المدينة كفضاء حضري وعمراني منظم، ينعم بتاريخه الخاص وشخصيته المتميزة، بحيث تصير المدينة ذاتاً تاريخية، تؤشر دائما إلى وجود الدولة. وعندما تصعب كتابة تاريخ المدينة، يصعب قيام الدولة ذاتها، بالقدر الذي يمكن اندراجها في التاريخ الكبير، على ما نعرف اليوم في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
لكن الأمر اختلف تماما في الحالة الجزائرية، حيث صارت المدن فيها قاتلة، لا ترحم وليس لها أي استعداد لقبول الزائر والضيف، ناهيك من السائح والأجنبي. المدن الجزائرية بسبب تَوَرّمها الأخطبوطي المتَوَحِّش آلت إلى أوضاع عشوائية، حتى لو أنفقت عليها أموال البترول كلها. فرغم أن الجزائر دولة نفطية منذ الاستعمار، لكنها تبتعد مسافات ضوئية من حيث طراز المدن وجمالياتها، عن مدن دبي، الرياض، الكويت، أبوظبي، الدوحة، المنامة، المدن الخليجية التي بدأت مشاريع التعمير فيها نهاية الثمانينيات فقط. في الجزائر أموال تصرف من أجل مشاريع مُفلسة وفاشلة، أي الإنفاق على تنمية معكوسة وخائبة في نهاية البرنامج والخطة والمشروع، بينما في البلدان الخليجية النفطية، الأمر يجري وفق نموذج قابل للتعميم، والقبول من الجميع، الأمر الذي ييسر متعلقات ومتواليات ونتائج المدن الطراز. ولعلّ نجاح الدوحة بتنظيم كأس العالم سنة 2022 يندرج في الطراز المعياري، الذي حصّلت عليه دولة قطر، من خلال تحقيقها لنموذج المدينة العالمي.
في المجمل، المقصود من كلامنا هذا، أن وضع الدولة الجزائرية اليوم ناجم عن مدن لا تعمر، تُدَمر مشاريعها في المهد، وتوأد الإنجازات حالة بدايتها، والقليل الذي يصمد إلى النهاية، لكن يعتريه حتما النقص والفساد، وسرعان ما يطلب الإصلاح، ودائما من أموال الشعب. فالإنجازات تطلب كإنجازات الوزير صاحب القطاع، تؤخذ لها الصور والتعليقات حال التدشين، ثم ينصرف الوفد، وأبدا لا يرجع يتفقد سير المشروع بعد سنة أو سنتين، لأنه يدرك جيدا أنه أمواله دخلت إلى الأطراف التي من أجلها اعتُمد المشروع، وتم تقاسم أمواله على سبيل عدم إتمامه أو تعريضه للضياع، والبحث عن أموال أخرى للإصلاح، أو تقديم مشاريع أخرى بالكيفية والطريقة والغرض والمآل نفسه، وهكذا دواليك.
الجزائر، منذ استيلاء العسكر على زمام السلطة، ومرافق الدولة المالية ومواردها الطبيعية، تورّمت مدنها، خاصة العاصمة بشكل سرطاني، بالقدر الذي صارت تقتل وتساعد على العنف والإرهاب وضَيْق العيش وعدم الأمن.. جعل كبار قادة الجيش والموالين لهم من ممثليهم على مستوى الدولة، يواصلون حياتهم في الخارج خاصة فرنسا. فقد تيقَّنوا أن المدينة الجزائرية لا تُشَرّف أجسادهم لكي يواصلوا الحياة فيها، ولا مستشفياتها صالحة لمداواتهم، وقد يبدأ التفكير لاحقا، ضمن «ثقافة» العصابة الحاكمة، أن يدفنوا في الخارج، وليس تحويل أموال المعاش المتبقي فقط. المدن الجزائرية، على ما نشهد ونشاهد عبارة عن تجمعات سكانية ممتدة عشوائيا إلى ما لانهاية من العمران المخْتَل، المهَدَّم أجزاؤه والخَربان من أطرافه، كل البنايات والمرافق يلفها اللامعنى واللاانتماء، حالة الضبابية وغياب الهوية والطراز. تجمعات عمرانية بلا أسماء شوارع، ومعالم طريق، ولا بوصلة هادية، يعيش أهلها روتينا قاتلا، لا يلتفتون إلى حالة الضياع والفَقْد إلا مع لحظة الغط في النوم، لحظتها يتأكدون أن يوماً آخر ضاع من حياتهم هباء، وأن ما ينتظرونه من حياة أفضل وأنعم وأسعد كلها أضغاث أحلام، بل كوابيس تعيسة.
كان يفترض أن كل شيء في الجزائر يمر إلى ما هو أهدأ وألطف وأسلم، لو سارت الأمور على ما تركه المستعمِر، بالبناء على نمطه والإبداع على منواله …لكن. الجزائر اليوم لا تستطيع أن تفاخر إلا بما ورثته عن المستعمر الفرنسي، وهذا ما نلحظه بشكل يومي عندما تقدم مشاهد وشواهد من المعالم وبنايات وعمران معياري رائق للذوق، وأنيس الوجدان والوعي، بينما تستحي السلطة من أن تظهر الإنجازات «الوطنية» المفقودة، ليس بغيابها في المشاريع والبرامج، ولكن في إنجازاتها الخائبة، يتوارى منجزوها عن الظهور ويمتنعون عن تقييد أسمائهم، ضمن الذين قاموا بإنجازها، ومن ثم تصعب كتابة تاريخها، وتبقى تنتظر الموت فقط، وهذا هو قدرها الأصلي. والمفارقة تظهر في المقابلة بين دولة المستعمِر الفرنسي، ودولة المستعمَر، لما بعد الاستقلال «الوطني» حيث انتهى الصراع مرحلة ما بعد الكولونيالية، إلى العودة إلى المدينة الفرنسية وطرازها الإنساني، الذي يأوي إليها حتى من حاربوها بالأمس. تحوّلت المدن الجزائرية، بفعل الفساد، الذي تراكم في الحياة العامة إلى حد النظام المحكم، إلى معضلة حقيقية تَصُد وتَحُول دون تحقيق دولة القانون والحق، ذات مؤسسات موضوعية منزَّهة عن الأغراض الشخصية، ولا تقبل الاستحواذ والتمليك. إن فعل البناء العشوائي الطائش أعدم المجال العام بشكل نهائي، لا من يحرص عليه، ولا يدخل في حيازة أحد، بل لكل أحد أن يعبث به، عرضة للإهمال «العام» بالمعنى الذي يشير إلى «ليس للعام ولا للخاص» نوع من الوضع الفاسد الذي تمخض عن فعل غير شرعي، تسبب فيه المقاولون المزيَّفون وغياب العقل الجمعي والسلطة المحلية. جميع الفضاءات العمومية من مقابر وحدائق وملاعب وشوارع ومعالم وآثار تاريخية وبنايات عمومية، كلها في حالة تسبح برثاء عظيم، يؤكد على ضياع الدولة واستحالة قيامها على ما تقتضيه أصول وطراز المدينة/ الدولة.
عندما تُغْتَصب الموارد الطبيعية من مياه وجبال (المحاجر) ومحروقات (سونا تراك) من قبل جنرالات العسكر، فلا يمكننا أن نتشوّف إلى بناء مؤسسات اعتبارية، تُبًيّن أن الجزائر دولة، وليست فقط موردا للثراء الفاحش المغشوش. لأن الاستغلال، في حالة الجزائر، يطال الموارد الأصلية التي بها يَقُوم الإقليم الجزائري، ويعْرَف، وهي المياه وصخور الأرض من جبالها وثرواتها الباطنية.
ولعلنا، في ضوء ما تقدم، لا نزيغ إطلاقا عن الحقيقة، عندما نؤكد الحالة التالية: إذا كانت الدساتير توضع للرؤساء الذين يَتَعَاقبون على الحكم، وتُفَصّل على مقاسهم وصلاحياتهم، فلأن هذا التفصيل الجديد لصلاحيات الرئيس، هو الذي يسمح له بتنصيب «بدون تسمية رسمية» لمقَاوِله (رجل أعمال تجاوزا) الأعظم من أجل أن يباشر مهام وأعمال النهب «القانوني» المرخص بها في إطار العصابة الخارجة عن الدستور والقانون، عصابة قائد الأركان السائد، على ما رأينا في حالة اللواء خالد نزار، ومقاول عصابته عبد المؤمن خليفة، الذي يقبع في السجن بعد سنوات من الفرار من وجه العدالة. ثم على ما نشهد اليوم مع المقاول المزيف والفاسد علي حدّاد الذي يقبع بدوره في السجن، بعد وفاة راعيه الأول والأخير قائد أركان الجيش القايد صالح. في الأخير، ولعله أولا، يجب تحرير المدينة كطراز وفضاء حيوي ومشروع تنموي دائم، على اعتبار أنها أسلم وأفضل طريق إلى إرساء معالم ومقومات الدولة المدنية المعاصرة.
تعليقات الزوار ( 0 )