شارك المقال
  • تم النسخ

المدفونةُ الفيلالية.. عندما يصبحُ للأكلةِ بعدٌ رمزي واجتماعي

كل من دخل من ذلك القوس، يدخلُ مجالاً ليس فيه ما يلفتُ عدا السكون والبساطة. مدينةُ الريصاني حالمةٌ، هواؤها الساخنُ وجوّها الحار، تصطدمُ به ملامحُ الوجه الرطبة، لتحس قسوة الجو وضراوة العيش في المكان. المشاةُ والدراجاتُ العادية أكثرُ من السّياراتِ في الشوارع. الملامحُ تارة سمراء وتارة بيضاء، كدليل على التنوع العرقي والقبلي بالريصاني.

كل القبائل من “الشرفاء” و”الحراطين” و”العبيد” و”الأمازيغ” و”الأحرار”، تذوبُ انتماءاتهم وتنصهرُ وتختفي، عندما تصبحُ المدفونةُ “جامعةُ الأعراق” بتافيلالت.

خبزةٌ تشملُ اللوزَ والبصلَ والبيض والأكثر أهمية في فحواها هو اللحم الطازج والجيد. تَحضيرُها ملازمٌ للجزّارِ، والمنافسةُ على أشدها ليحافظ كل منهم على زبائنهِ الأوفياء، القادمون من مرزوكة والطاوس وتفراوت، وكذلك الحاجّون من القصور العريقة المحادية للريصاني، فضلاً عن مركز المدينة، التي تعتبرُ مهد الدولة العلوية.

كيف تحضّرُ؟

يتذمّرُ عبد الله، الجزار من شتى المحاولات في غرب المغرب وفي الداخل، لابتداع المدفونة، التي لا يتقنها سوى سكان تافيلالت، وخصوصاً الجزّار. “فاش كنشوف داكشي أمولاي علي فالتلفون، كنسميه التدربيز والله العظيم، واش غير أجي وقاد المدفونة”.

وأردفَ وهو يمدني بكأس من الشاي، طريقة التحضير بالنسبة لنا نحنُ سهلة، ونستطيعُ تحضيرها بأعينٍ مغمضةٍ، فنحضرُ البصر ونقطعها ثم نقطع اللحم إلى قطع صغيرة وكذلك القزبر، ثم نخلطهُ مع الزنجبيل والقليل من الملح والإبزار” وزاد بعد أن وضبَ رزتهُ فوق رأسه “نأخذها إلى المخبزة، يضعونها في العجين، ثم تدخلُ إلى الفرن، وبعد ذلك تصبحُ جاهزةً.” مضيفاً بجدية أن “اللوز والبيض أمرٌ اختياري، يعود لصاحبها، هل يريدُ إضافتهما أم لا، ولكن المدفونة المعيارية هي التي تتضمنُ كل ما قلناه جملةً”.

واستطردَ عبد الله، بخصوص الأثمنة أنها تتراوحُ بين الستين والمائة درهم، وهناك واحدة من الحجم المتوسط بثمانين درهماً، وتدخلُ في الثمن حتى تكلفة المخبزة والعجين والفرن، لكي يتعامل الزبون مع الجزار وحده ولا نرهقه بالذهاب إلى المخبزة”. على حد تعبيره.

لماذا المدفونة؟


يضحكُ عمرُ الجزار، بعدَ أن سألتهُ هذا السؤال، يستجمعُ الأنفاس، ثم يجيبُ بأن المدفونة تعبيرٌ على قيم غارقة في عمق سجلماسة، “واش المدفونة يالله جديدة؟ الله يهديك راه من جدود جدودنا وهي كاينة”، يقولُ وهو يقطعُ البصل بسكّين يدهُ صفراء، معتبراً المدفونة ملازمةً للتاريخ ووالحضارة الأرض.

وأضافَ كالناصح لي وعيناهُ تسقطُ منهما بعضُ الدموعِ بفعل ماء البصل، “عرفتي لا حطيتي لشي واحد المدفونة، راك ماشي غير فرحتي بيه، أحسن من لا حطيتي ليه خروف مشوي”، ضاحكاً بانفجارٍ.

الناسُ تنتظرُ دورها لتحضر المدفونة عند هذا الجزار الكائن بمدخل السوق الأمامي لدار الشباب، يتحدثُ واثقاً إلى كل فرد “غادي تاكلها وتشكرني ومزال ترسل ليا الناس وترجع عندي”، ما السرّ في كل هذه الثقة؟

بشواربهِ الفاحمة وقامتهِ الشامخةِ يتحدّثُ “شفتي ملي كنت صغير وأنا كنقاد المدفونة مع الواليد، وديما كان تايقوليا بلي أنا فاش كاندير ليها القوام، كنجيبها عبار، والشحمة لا مضبطتيهاش تولي ميدمة” يريدُ أن يقول إن السر يكمنُ في القدرة على ضبط مقدار التوابل والشحمة، فالتعاملُ معها ليس بتلك العفوية، لاسيما عند “إضافة الملح والإبزار”، كما يقول.

مروة، الساكنة بحي مولاي رشيد، تشهدُ بأنها سبقَ وتذوقت مدفونةً من يديهِ فلاحظت أن مقدار التوابل معقلنٌ وكانت لذيذة جداً، حتى أصبحنا كلما نشتهيها نأتي إليه هو وحده.

بذخُ الفقراءِ

تعبترُ المدفونةُ دليلٌ على “البذخ” بالنسبة للبعض في مدينة المستوى المعيشي فيها متدني، حيثُ يعلو التفاخرُ بالمرور بها مخلفةً روائح قوية مغرية، حيثُ تغدو الأنظارُ واضعةً كل التركيز في قطعة الورق المقوى “الكارطون” المشدود بخيطٍ صلبٍ لكي لا تتمزق وتسقط، ويضيعُ الحماس ومعهُ البذخ تلقائياً.

الحاجة لطيفة، تسكنُ بقرب مقبرة خلف حي مولاي رشيد. المكانُ عاديٌّ، ولكنها صادفتنا قرب عبد الغاني الجزار وسط السوق المركزي. تتحدثُ خلف اللثام، متطلّعةً بأعينها اللتان تكشفان اختلاف اليوم حيثُ ستوضعُ المدفونةُ فوق المائدة.

“من العيد الكبير ماكليناها، نفرحو بيها اليوم”، التعبيرُ عن الفرحِ دلالةٌ على اختلاف اليوم، بمعنى أن المدفونةَ رديفٌ للفرح والسعادة.

الأستاذ عبد الرحيم، يقول، بصوتٍ متشنجٍ لاستجماع الأفكار بغية الإفصاح عن أشياء دفينة، إن “المدفونةَ تحملُ بعداً رمزياً في نفوس سكان تافيلالت، هي تقريباً مثل الطنجية بالنسبة للمراكشيين، اعتباراً أنكَ عندما تلتهمها تحسُّ أن تؤدي واجباً نفسياً، وتضمنُ الاستمرار لتقاليد راسخة، لذلك نضعها لكل زائرٍ، ونستطيعُ أن نميّزَ روائحها حيثُما كانت، لأنها بتفاصيلها متجذرة فينا”.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي