أثارني هذا العنوان: «أتحدى أن تُصدِّق هذا الحديث في صحيح مسلم» في اليوتيوب لأيلال رشيد. فأقسمت أن أسمع ما يقول رغم أني منذ شبابي لا تثيرني العناوين الرنانة، ولا الأفلام أو الكتب التي تثير الصخب والضجيج. ابتدأ بالقول إن الشيوخ يشتمونه، وهو لا يفعل سوى تأكيد ما تقدمه النصوص. وأنه سيبين بالبرهان من خلال حديث، ورد في صحيح مسلم، ما يتضمنه من إساءة لعِرض الرسول، وتشويه لنسائه. وأن فيه من السوء ما يفوق مما يمكن أن يقوله الشيعة أو الملحدون. ويستنتج أن كتب الحديث مقدسة أكثر من القرآن. ويتعجب، ويتساءل عن جدوى هذا الحديث الذي لا يرى فيه فائدة، معلنا براءته منه.
قدم الحديث في الصيغتين التي ورد بهما في صحيح مسلم، على النحو التالي: «عن أم سلمة رضي الله عنها أن مخنثاً كان عندها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت، فقال لأخي أم سلمة: يا عبد الله بن أبي أمية، إن فتح الله عليكم الطائف غداً فإني أدلك على بنت غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. قال: فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «لا يدخل هؤلاء عليكم». أما الصيغة الثانية: «عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث، فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة. قال: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة، قال: إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أرى هذا يعرف ما ها هنا لا يدخلن عليكن». قالت: فحجبوه.»
إن تأكيد كون الحديث في صحيح مسلم ومسند أحمد وغيرهما تجاهل لصحيح البخاري الذي أورد الحديث بمضمونه أربع مرات. لا شك أنه أنهى «أسطورة» البخاري، وجاء دور مسلم. ساق البخاري هذا الحديث في أبواب المغازي (الطائف)، والنكاح، وفي اللباس، والحدود متصلا بالمخنثين والمترجلات، حيث منع فيها الرسول بدخولهم جميعا على النساء.
يلاحظ أيلال أن المخنث يدخل على نساء الرسول ويتحدث معهن على الجنس، ويسوق دليله بقوله: إن المخنث يتحدث عن بنت غيلان التي تقبل بأربعة أطراف، وتدبر بثمانٍ لأن رجلا يركبها كما تركب الدابة. في هذا الاستنتاج جهل صريح باللغة وبالوصف، وتأويل مبني على خيال مريض. يبرز الجهل باللغة في عدم فهمه «تُدبر بثمان»، مما جعله يتوهم أن المقصود هو الرجل، وليس العكن.
والعكن هي ثنايا البطن التي تبرز في حال الإدبار. أما الجهل بالوصف فيكمن في أن المخنث لا يسرد فعلا رآه بعينيه عن «زانية» (الرؤية السردية)، ولكنه يكتفي بوصفها مقبلة مدبرة ليحببها لسيده ليختارها لجمالها. وهو إلى جانب ذلك جاهل بالسرد. فعبد الله بن أبي أمية جاء مع خادمه المخنث إلى بيت أخته أم سلمة قبيل الخروج إلى فتح الطائف، فقال ما قال له لتكون بنت غيلان من نصيبه. فالمخنث لم يكن يتحدث مع أم سلمة. ولما سمع الرسول ذلك أنكره، وأمر بعدم دخول المخنثين إلى بيوت النساء كي لا يوصفن للرجال، كما فعل مولى ابن أبي أمية. وحديث عائشة هو الحديث نفسه، ففيه وصف المقبلة المدبرة، بدون ذكر الأسماء، وليست فيه أدنى إشارة إلى أن المخنث يتحدث مع نساء الرسول عن الجنس كما يدعي. إن عائشة تتحدث عن واقع شائع عربيا عن المخنث الذي كان يسمح له بالدخول على النساء لأنه معدود في «غير أولي الإربة». إن التأويلات الباطلة والزائدة والمضخمة دليل على جهل فظيع، وعلى هوى فاسد. فأين الإساءة للرسول ولنسائه؟
يبرز الجهل باللغة أيضا في تضخيم معنى «المخنث». إنه يقرأ «غير أولي الإربة»، ولكنه مع ذلك يصر على أنه، وكأنه رجل، ويدعي استنكار دخوله، وحديثه عن الجنس مع نساء الرسول؟ إن هذا الحديث، وكل الأحاديث حول المخنث بمختلف الصيغ لا تتعارض مع القرآن الكريم. وسورة النور واضحة لذي عينين: «وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(النور، 31).
إن القرآن الكريم أباح للنساء إبداء زينتهن لـ«التابعين غير أولي الإربة من الرجال»، والمخنث خادم ابن أبي أمية من هؤلاء. فأين تقديس الحديث على حساب القرآن الكريم؟ وحين نعرف أن سورة النور نزلت قبل فتح الطائف بثلاث سنوات، ندرك جيدا عبقرية الرسول في الإبلاغ والاجتهاد. فالقرآن الكريم أباح دخول المخنث على النساء، لكن الرسول العظيم منع ذلك. وموقفه لا يتعارض مع ما جاء به القرآن. إنه سلوك نبوي لا يتعارض مع الأمر الإلهي في عموميته، ولكنه تخصيص له في ضوء ما يجري واقعيا إذا كان يؤدي إلى ما يتعارض مع فحواه العام. ويكمن هذا التعارض في إمكان المخنث وصف النساء للرجال. إن سلوك خادم ابن أمية كشف واقعا لم يفصل فيه القرآن، وهذا ما جاءت به السنة. ولا يمكن أن يفهم هذا من يفرق بين الحديث والقرآن الكريم، ولا يعرف العلاقات بينهما. ولذلك لعن الرسول ليس فقط «الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ»، ولكن أيضا «وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنَ النِّسَاءِ»، وأمر بإخراجهم، واحدا، واحدا، ما دام بإمكانهم أن يقوموا بما يخالف ما جاء به الشرع. لا فرق بين مخنث ومترجلة.
حديث أم سلمة ترجمة أمينة لمحتوى النص القرآني، وحين يورده رواة الحديث، ويتم الإقرار بصحته من لدن الجميع درس بليغ للمجتمع الإسلامي. وليس كما يدعي أتلال زورا وبهتانا، وادعاء كاذبا. لو أن الرسول (ص) لم يمنع دخول المخنث بعدما سمع منه ما سمع لكان مخالفا للأمر الإلهي، ومقتضيات ما تفرضه صورة المجتمع الإسلامي الذي كان قيد البناء. وصورة المجتمعات التي نعيش فيها حاليا يتغزل فيها الرجل الفحل بالمرأة أمام زوجها، وهو راض عن ذلك. فأين الكوع من البوع؟
عرف العرب جيدا المخنث والمخصي والمترجلة، وتعاملوا معهم في حياتهم العادية. فالمخنث هو من قال فيه الشاعر: «لعمرك، ما الخِناث بَني قُشيْرٍ / بنسوان يلدن، ولا رجال». وكتب التراث العربي زاخرة بأخبارهم. نزل الحُطَيْئَةُ، كما في «إغاثة اللهفان» برجل من العرب، ومعه ابنته مُلَيْكة، فلما جَنَّ الليلُ سمع غناءً، فقال لصاحب المنزل: كُفَّ هذا عني، فقال: وما تكره من ذلك؟ فقال: إن الغناء رائدٌ من رَادَةِ الفجور، ولا أُحب أن تُسمِعَه هذه ــ يعني ابنته ــ فإن كففته وإلا خرجتُ عنك». رفضُ الغناء الفاحش رفض لأي كلام مضر بالمجتمع.
لقد أنكر الرسول (ص) ما سمعه من وصف امرأة لرجل، فمنع الدخول لأن تربيته قرآنية. أما الادعاءات «الأسطورية» فأقاويلها عارية.
تعليقات الزوار ( 0 )