كلما عادت وتيرة الصراع بين الكيان الصهيوني وحركة المقاومة الفلسطينية للإرتفاع، وإلا وعادت قوات الاحتلال الصهيوني في الأراضي المباركة لارتكاب أبشع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ضاربة عرض الحائط كل منظومة القانون الدولي الإنساني التي تضع القيود والضوابط اللازمة لسير العمليات القتالية بين أطراف الصراع، بهدف التخفيف ما أمكن من حدة تداعياتها الكارثية على غير المشاركين فيها بشكل مباشر، كالمدنيين والنساء والأطفال والصحفيين ورجال الدين وغيرهم، هذا إضافة إلى الأعيان المدنية من مدارس وجامعات ومستشفيات ودور عبادة وما إلى ذلك.
فالقانون الدولي الإنساني بالقواعد والضوابط التي يفرضها، يشكل الضمانة الأساسية لخوض الحرب بشرف، فكل طرف من أطراف النزاع يقاتل ويدافع عن قضيته حتى النهاية، بكل مروءة وشرف، من دون أن تتعدى آثار الأعمال القتالية إلى الفئات الأخرى غير المشاركة في القتال المباشر.
وهذه القواعد والنظم السامية المنظمة للحرب كحقيقة واقعية في العلاقات الدولية لا يمكن القضاء عليها، هي نتاج أعراف وشرائع ضاربة في أعماق التاريخ ساهمت في بنائها وتدوينها وتطويرها كل الشعوب والأمم والحضارات الإنسانية، إلا أن الكيان الصهيوني بما يرتكبه من جرائم وانتهاكات سافرة، يشكل استثناءً شنيعا ونشازا من هذا الإجماع الإنساني.
فإلى حدود كتابة هذه الأسطر وصلت حصيلة العدوان الصهيوني على قطاع غزة، والتي تبقى حصيلة متجددة لاستمرار العدوان، إلى ما يفوق المائة شهيد بينهم عشرات الأطفال والنساء ومئات المصابين حسب معطيات وزارة الصحة الفلسطينية، جراء القصف الوحشي للمناطق الآهلة بالسكان المدنيين والأعيان المدنية.
وفي هذا السياق، فإن استهداف المناطق المدنية وقتل النساء والأطفال يشكل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تترتب عليها المتابعة الجنائية الدولية، بحسب كل من اتفاقيات جنيف الأربع والبرتوكولين الإضافيين الملحقين بها ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، لو كان هناك نظام الدولي قائم على العدالة بدل ازدواجية المعايير.
فطبقا للمادة الثامنة والأربعين من البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيف الأربع لعام 1977، تعمل أطراف النزاع على التمييز بين السكان المدنيين والمقاتلين وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، ومن ثم توجه عملياتها ضد الأهداف العسكرية دون غيرها، وذلك من أجل تأمين احترام وحماية السكان المدنيين والأعيان المدنية، وطبقا للفقرة الثالثة من المادة التاسعة والأربعين يُحضر القيام بأي عملية حربية في البر أو في البحر أو في الجو قد تصيب السكان المدنيين أو الأفراد المدنيين أو الأعيان المدنية على البر.
وإضافة إلى هذا أكدت المادة 51 من ذات البروتوكول بواضح العبارة وصريحها، على أنه لا يجوز أن يكون السكان المدنيون بوصفهم هذا وكذا الأشخاص المدنيون محلا للهجوم، وتحظر أعمال العنف أو التهديد به الرامية أساساً إلى بث الذعر بين السكان المدنيين، كما شددت على حضر الهجمات العشوائية التي لا تكون موجهة إلى هدف عسكري محدد، أو تلك التي تستخدم طريقة أو وسيلة للقتال لا يمكن أن توجه إلى هدف عسكري محدد، أو تلك التي تستخدم طريقة أو وسيلة للقتال لا يمكن حصر آثارها من شأنها أن تصيب الأهداف العسكرية والأشخاص المدنيين أو الأعيان المدنية دون تمييز، هذا إضافة إلى حضر الهجمات مفرطة الضرر والهجمات الإنتقامية.
وهنا فإن تركيز الكيان الصهيوني على القصف العشوائي لقطاع غزة الذي يضم مناطق آهلة بالسكان المدنيين والأعيان المدنية ولا يمكن التمييز فيه بين الأهداف العسكرية وغيرها بسهولة، يشكل انتهاكا جسيما لكل هذه القواعد ولمجمل القواعد الأخرى الناظمة لسير العمليات القتالية.
أما فيما يتعلق بالنساء والأطفال فإن القانون الدولي الإنساني وعلاوة على الأحكام العامة المتعلقة بحماية المدنيين، فإنه قد أفرد لهما حماية خاصة، حيث يَحضر في عدد كثير من المقتضيات يضيق المقام على جردها، وبشكل واضح وصريح الإعتداء على النساء والأطفال بمختلف الأشكال، بما في ذلك القتل والتعذيب والمعاملات الحاطة بالكرامة الإنسانية والخادشة للحياء.
وفضلا عن ذلك، فإن استهداف الكيان الصهيوني لقطاع غزة بشكل همجي ووحشي، وباستخدام كل وسائل وطرق الحرب المحظورة، لإيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا الأبرياء وتدمير البنى التحتية المدنية، وخاصة خلال الأيام المباركة الماضية التي كانت تخيم عليها أجواء العيد، بهدف تحقيق الضغط على حركة المقاومة لايقاف عملياتها العسكرية المشروعة ضده باعتباره كيان احتلال يمارس العدوان والإجرام، وبهدف تأليب الرأي العام الفلسطيني ضد حركات المقاومة لإضعاف تأثيرها، يشكل انتهاكا صارخا لمقتضيات الفقرة السادسة من المادة 51 التي تؤكد بالنص على أنه تحظر هجمات الردع ضد السكان المدنيين أو الأشخاص المدنيين، ولمقتضيات الفقرة السابعة التي تنص على أنه لا يجوز التوسل بوجود السكان المدنيين أو الأشخاص المدنيين أو تحركاتهم في حماية نقاط أو مناطق معينة ضد العمليات العسكرية ولاسيما في محاولة درء الهجوم عن الأهداف العسكرية أو تغطية أو إعاقة العمليات العسكرية، فالصهيانة وفي انتهاك سافر للقانون الدولي، يستخدمون السكان المدنيين كذروع بشرية، وهو ما يصرح به الناطق الرسمي باسم قوات الإحتلال الصهيوني علنا، متكئا على ازدواجية معايير النظام الدولي التي تضمن لهم عدم المساءلة، حيث يدعو حركة المقاومة لإيقاف العمليات العسكرية مقابل وقف الهجوم على السكان المدنيين في قطاع غزة، ويروجون في إطار الحرب الإعلامية في شهادة على أنفسهم، على أن كل ما لحق السكان المدنيين وقطاع غزة من دمار هو نتيجة لاستمرارية وفعالية عمليات المقاومة، وواقع الحال أن القانون الدولي يحضر الهجمات الإنتقامية واستخدام المدنيين كذروع بشرية كما سبقت الإشارة.
إن مجمل هذه الإنتهاكات التي يقوم بها الكيان الصهيوني للقانون الدولي الإنساني تشكل من دون شك، جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، تستلزم المتابعة الجنائية الدولية للمسؤولين الصهاينة ولمنفذي هذه العمليات الإجرامية الوحشية، وفق مقتضيات نظام روما الأساسي.
فحسب المادة السابعة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإن أعمال القتل العمد والنقل القسري للسكان الذي يرتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي ويكون موجه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين وعن علم بالهجوم، يشكل جريمة ضد الإنسانية، كما أن الإنتهاكات الجسيمة لاتفاقات جنيف الأربع لعام 1949 تشكل جريمة حرب متى ارتكبت في إطار خطة أو عملية ارتكاب واسعة النطاق، وهو ما يقوم به الكيان الصهيوني من خلال العملية التي أطلق عليها اسم حارس الأسوار.
إنه علاوة على كون مجمل هذه الجرائم والعدوان الممارس على الشعب الفلسطيني الأعزل، يكشف عن إفلاس النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وازدواجية المعايير التي يقوم عليها، فإنه يكشف أيضا أن الكيان الإسرائيلي بجرائمه وأعماله الإرهابية الوحشية وضربه عرض الحائط كل النظم والأعراف والقوانين والشرائع، هو كيان متمرد على الإنسانية ودخيل على حضارتها، وهو بما راكمه من جرائم وانتهاكات ولا زال مستمرا على ذات النهج منذ قيامه، لا يمكن أبدا أن يكون مكونا من مكونات الحضارة الإنسانية في أي يوم من الأيام.
باحث في مختبر الدراسات السياسية والقانون العام، كلية الحقوق بفاس.
تعليقات الزوار ( 0 )