رغم قلة الدراسات والكتابات حول الكذب السياسي بحقول العلوم الاجتماعية (العلاقات الدولية والعلوم السياسية) مقارنة بمعالجة الفلسفة السياسية للموضوع عبر تخصيصها حيزا مهما للكذب منذ أفلاطون وأريسطو مرورا بمكيافيلي ووصولا إلى جاك دريدا، فإن هناك بعض الاستثناءات المتعلقة بالمحاولات الجادة في حقل التنظير بالعلاقات الدولية، التي قدم روادها إسهامات قيمة في موضوع الكذب بالسياسة الدولية، لعل أهمها هي مساهمة النظرية الواقعية بحقل العلاقات الدولية، خاصة الواقعية الجديدة (البنيوية/ الهيكلية)..
وتنطلق هذه النظرية في مقاربتها للسياسة الدولية من عدة افتراضات شبيهة بالقوانين العلمية المعمول بها في العلوم الطبيعية، خصوصا أن الواقعية الجديدة تصنف ضمن ما يعرف بالنظريات الوضعية (الواقعية الجديدة؛ الليبرالية المؤسساتية الجديدة..)، أي النظريات التي تأثرت بالفلسفة الوضعية بعد النقاش السلوكي التقليدي في ستينات القرن الماضي، بما في ذلك، التحولات التي حدثت في الحقل خلال السبعينات عبر التسليم بأن العلم واحد (العلوم الاجتماعية والطبيعية) والحقول المعرفية متعددة، كما اتسم أيضا بتخلص حقل العلاقات الدولية من الغائية أو التفكير المجرد، ناهيك عن المحاولات الجادة بغية الاستجابة للانتقادات السلوكية المتعلقة بمنهجية دراسة ظواهر السياسة الدولية (إتباع خطوات المنهج العلمي)..
على إثر ذلك، صاغ رواد الواقعية الجديدة (نموذج والتز وغيلبن وميرشايمر) افتراضات لنظريتهم على شكل قوانين موضوعية تطبق على تفسير ظواهر السياسة الدولية، ومن أهم هذه الافتراضات ذات الصلة بالكذب، هناك افتراض (والتز وميرشايمر) أن الدول لا تثق في بعضها البعض، إذ لا يمكن التأكد من نيات بعضها البعض، وسبب ذلك هي أن الدول تكذب في السياسة الدولية ولا تقول الحقيقة، وأن هذا الكذب يصعب معرفته لأنه من الأمور التي لا يمكن رصدها أو معرفتها عن طريق الحواس (التحكم في ظواهر السياسة الدولية من الخارج)، كما أن النوايا هي الأخرى يصعب معرفتها، فقد تكون نيات الدول شريرة في بعض الأحيان وغير شريرة في أحيان أخرى، هذا الافتراض يعني بأن عالم السياسة الدولية متسم بانعدام اليقين وبأنه نظام غير دقيق..
جون ميرشايمر والكذب في السياسة الدولية
على غرار تطويره للافتراض الواقعي البنيوي المتعلق بالنوايا، حيث يؤكد جون ميرشايمر بأنه لا سبيل لأن تثبت الدول من أن الدول الأخرى تحمل نوايا عدائية نحوها، فإن أهم المساهمات في حقل العلاقات الدولية حول الكذب هي التي قدمها جون ميرشايمر عبر كتابه “لماذا يكذب القادة والزعماء؟ (حقيقة الكذب في السياسة الدولية) Why Leaders Lie.. The Truth about Lying and International Politics” الصادر سنة 2013، وهو الكتاب الذي لا يمكن فصله عن نظريته المتمثلة في الواقعية الهجومية، باعتبارها من بين أبرز النظريات الواقعية في الوقت الراهن (الاتجاهات الواقعية الجديدة)..
ويعرف جون ميرشايمر الكذب بأنه “عندما يدلي شخص ما، بقول أو تصريح، وهو يعرف أو يتوقع مسبقا أنه زائف، وذلك على أمل أن يظن الآخرون أنه صحيح، فالأكذوبة هي عمل إيجابي مصمم كي يخدع الجمهور”، حيث ينطلق في تعريفه من المستوى الأول (الفرد) لينتقل بهذا التعريف للمستوى الثاني (الدولة)، ثم المستوى الثالث (النظام الدولي)، كما يجيب على مجموعة من الإشكالات التي يطرحها في ثنايا كتابه، من بينها لماذا يكذب القادة والزعماء؟ متى تكذب الدول على بعضها البعض؟ لماذا يمارس القادة والزعماء سياسة التخويف والترهيب؟ وغيرها من الأسئلة، ناهيك على انه يقدم أنواع وأصناف الكذب في السياسة الدولية ومنها: الكذب ما بين الدول التي تتعدد أشكالها؛ التخويف والترهيب؛ التكتم الاستراتيجي؛ صناعة الأساطير القومية؛ الأكاذيب الليبرالية؛ التكتم الحقير؛ الامبريالية الاجتماعية..
كما يقارب جون ميرشايمر في هذا الكتاب موضوع الكذب بالاستعانة بالسجل التاريخي لكذب الدول على بعضها البعض أو على شعوبها، حيث يفتتحه بأكاذيب الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس بوش التي بررت بها الحرب على العراق، وكانت من بين هذه الأكاذيب أن “صدام حسين” يمتلك أسلحة الدمار الشامل وبأن له صلة بتنظيم القاعدة، ناهيك على انه يقدم مجموعة من الأمثلة لأكاذيب الدول والتي في الغالب تكون لغاية تبرير سياسات وحشد الدعم لها أو التكتم على سياسات قد تضر بمصالح البلد؛ على سبيل المثال، كذبت إدارة كينيدي أثناء أزمة الصواريخ الكوبية مع الاتحاد السوفياتي، فقد وقعت صفقة سرية مع السوفيات تقضي بان تسحب الولايات المتحدة لصواريخ جوبيتر ذات الرؤوس النووية من تركيا على أساس أن يسحب الاتحاد السوفياتي صواريخه من كوبا، لكنها نفت للرأي العام أن تكون قد وقعت هذه الاتفاقية، واشترطت على السوفيات عدم الإعلان للرأي العام عن هذه الصفقة..
وبصرف النظر عن ما يطرحه جون ميرشايمر من أفكار في كتابه، خاصة انتقاداته لأكاذيب الإدارات الأمريكية المتعاقبة وأثارها على السياسات التي تكون في الغالب مبنية على طموحات غير واقعية، فإن ما يطرحه في هذا الكتاب هو بحق محاولة لمقاربة موضوع غاية في الأهمية والمتعلق بالكذب في السياسة الدولية، سواء كذب الدول بعضها على بعض أثناء السلم أو في حالة الأزمات، أو كذب القادة والزعماء على شعوبهم لتبرير سياسات خارجية معينة، حيث يقودنا ذلك للحديث على الأزمة المغربية الجزائرية خلال الشهور الأخيرة، التي تعرف تصعيدا جزائريا تجاه المغرب، بما في ذلك إطلاق سلسلة من الأكاذيب الموجهة ضد المغرب.
أكاذيب النظام الجزائري
إن المتتبع للأزمة في العلاقات المغربية الجزائرية سيتضح له بأن النظام الجزائري يطلق سلسلة من الأكاذيب، الغاية منها التسويق لصورة بأن المغرب دولة عدوة وتهدد الأمن الداخلي الجزائري، ورغم أن المبالغة في هذه الأكاذيب يثير العديد من التساؤلات، إلا أنه من الواضح بأنها موجهة للداخل الجزائري وللخارج أيضا، وسنعرض هنا ثلاثة أكاذيب أطلقتها القيادة الجزائرية خلال الشهور الأخيرة:
- الأكذوبة الأولى: كذب قادة الجزائر في 18 غشت حينما تم اتهام المغرب بالمسؤولية عن إشعال الحرائق بمنطقة القبائل وتيزي وزو، فقالت أجهزتها الأمنية بأنها ألقت القبض على عناصر بمنظمات إرهابية (رشاد الإسلامية؛ والماك)، وبأن هذه المنظمات لها صلة بالمغرب، في إشارة إلى “الماك” (الحركة من أجل استقلال منطقة القبائل)؛ والواضح بأن هذه الأكذوبة كانت مكشوفة، حيث أنها تزامنت مع فترة كانت تشهد فيها العديد من الدول حرائق بالغابات، ومنها دول أوربية.
- الأكذوبة الثانية: كذبت أجهزة الشرطة الجزائرية بتاريخ 13 أكتوبر، وقالت بأنها ألقت القبض على عناصر “بمنظمات إرهابية” كانت تخطط للقيام بأعمال تخريب داخل البلاد، بتواطؤ أطراف داخلية وبدعم من دولة من شمال إفريقيا، في إشارة إلى المغرب، فهي ثاني أكذوبة تأتي مباشرة بعد الحرائق، إذ أنها ذات صلة بالأولى، والمفارقة أن “التنظيمات الإرهابية” – التي يتهمها النظام الجزائري – يوجد مقراتها بكل من باريس (الماك) ولندن (الرشاد الإسلامي) وليس المغرب، بل أن الجزائر تحتضن تنظيم انفصالي مسلح أكثر خطورة من التنظيمات السالفة الذكر، إذ يهدد السلم والأمن بالمنطقة، حيث توظفه كورقة للاستهداف الوحدة الترابية للمغرب.
- الأكذوبة الثالثة: وجهت القيادة الجزائرية في 1 نونبر 2021 اتهامات كاذبة إلى الجيش المغربي مفادها بأنه هاجم شاحنات عسكرية على الحدود مع موريتانيا بسلاح الجو، حيث قالت بأن هذا الهجوم أدى إلى مقتل ثلاثة جزائريين، كما نقل إعلامها صور لشاحنات تحترق، بينما نفت السلطات الموريتانية لأي إطلاق للنار على حدودها مفندة للادعاءات الجزائرية، وقد اختارت الجزائر هذا اليوم لإطلاق أكذوبتها بالنظر لرمزيته عند الشعب الجزائري، حيث يوافق تاريخ ذكرى اندلاع الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي.
والواضح بأن اختيار توقيت إطلاق هذه الأكذوبة محبوك بعناية بغية اللعب على المشاعر القومية للجزائريين، وإعطاء الانطباع بأن هناك خطرا يحدق بالدولة الجزائرية، هذا الخطر له صلة بالأساطير القومية، حيث يكون لها الوقع على الشعب، إذ نشير في هذا الصدد لجون ميرشايمر، الذي يقول بأن “الأساطير القومية تؤدي بالدول إلى أن تتصرف بحماقة في بعض الأحيان؛ وبالفعل، يقال إن هذه الأنواع من الأساطير تكون سببا من أسباب دفع الدول كي تتصرف بشكل عدواني تجاه جيرانها، ورفض إيجاد حلول للصراعات التي يمكن أن يكون إيجاد تسوية سلمية لها بدلا من ذلك أمرا ممكنا”؛ وينجلي هذا بشكل واضح في تفاعل الجزائر مع المبادرات المغربية التي تجابهها بالرفض.
لماذا يكذب قادة الجزائر؟
إن الإجابة على هذا السؤال لا يمكن فصلها عن التوجس الجزائري من المغرب، حيث أضحى المغرب لاعبا إقليميا مهما، وفاعلا أساسيا في العديد من الملفات، كما كسب ثقة العديد من الشركاء الدوليين، وهو وضع تنظر إليه الجزائر بنوع من الانزعاج، وتقرأه على أنه منافسة مغربية لمكانتها التي تتراجع وهبتها التي تتآكل، سواء بالمحيط الإقليمي (النظام الإقليمي الفرعي لغرب المتوسط 5+5) أو بالقارة الإفريقية، خاصة وأن الجزائر راهنت لعقود على عزل المغرب عن محيطه، إما عبر اللعب بملف البوليساريو بغية تقييد تحركاته أو من خلال حشد الدعم ضده بجواره الإقليمي أو عبر محاصرته بإفريقيا من خلال التحالف الثلاثي (الجزائر – نيجيريا – جنوب إفريقيا) الذي كان موجها ضد المغرب.
بيد أن هذا ليس هو الهدف وفقط من إطلاق سلسلة من الأكاذيب في هذه المرحلة الموسوعة بأزمة في العلاقات المغربية الجزائرية، إذ كما هو معلوم فإن الكذب في أوقات الأزمات يكون أكثر من الكذب في اللحظات العادية، والغاية منه هو كسب ميزة إستراتيجية إما بشأن ملف تفاوضي أو لصلة بميزان القوى، فالواضح بأن هناك دوافع أخرى وراء هذه الأكاذيب، خصوصا من خلال التسويق على أن الجزائر تتعرض لمؤامرات محبوكة من طرف المغرب وأيضا إسرائيل، حيث لم يأتي اعتباطا ربط المغرب بإسرائيل، فهي كذبة مدروسة غايتها إعطاء الانطباع بأن الجزائر تهددها أخطار خارجية على الحدود، وذلك بغية شرعنة سياسة معينة وأن تحظى تلك السياسة بدعم الجمهور أو على الأقل أن لا تلقى معارضة داخلية لها.
ومهما تكن طبيعة هذه السياسة التي في الغالب ستكون معادية للمغرب، فإن كذب قادة الجزائر يحمل في طياته عدة مخاطر، أولها، هو أنه هو بمثابة استفزاز للمغرب، وإذا ما لم تتعامل السلطات المغربية بثبات وحكمة، فإنها قد تنجر إلى الحرب، إذ يشير ميرشايمر لسجل هذا النوع من الأكاذيب في كتابه، حيث يكون الغاية من إطلاقها هو دفع دولة جارة إلى الحرب لأغراض متعلقة بالسياسة الداخلية للدولة المستفزة؛ ثانيا، يمكن أن يكون للدول هدف أخر من هذه الأكاذيب هو التأثير على سلوك الدولة الأخرى، رغم أنها لا تكون في نيتها إشعال الحرب، بمعنى أخر، قد يكون الهدف هو تحقيق غايات غير تلك المرتبطة بالحرب، وفي السياق الجزائري فالأمر مرتبط بأزمة داخلية وخارجية، إذ تحاول الجزائر التغلب عليها من خلال خلق عدو وهمي.
خاتمة:
على الرغم من أن جون ميرشايمر يقدم العديد من أنواع الأكاذيب، إلا أن أكاذيب قادة الجزائر يمكن إدراجها في أصناف محدودة، منها أنها تندرج ضمن الأساطير القومية، وذلك من خلال رسم صورة أسطورية على الجزائر، وبأن هناك أعداء يتربصون بها عبر الاستعانة بخونة الداخل، إذ أن صنع الأسطورة القومية في العادة يرتبط بالدول الحديثة النشأة، وهذا ما ينطبق على الحالة الجزائرية، حيث يكون هاجس البقاء مشكلا يؤرق الحكام، وبالتالي يرون في جيرانهم بأنهم أشرار، والأخطر أن صناعة الأساطير القومية يؤدي بالدول إلى انتهاج سياسات عدائية تجاه جيرانها؛ ثم أن الغاية من إطلاق هذه الأكاذيب هو استفزاز المغرب لدفعه إلى الحرب، إذ يتزامن ذلك مع تهيئ الرأي العام الجزائري الداخلي لقبول سياسة العداء تجاه الجار الغربي، هذا الأمر واجهه المغرب بحكمة من خلال تجاهله.
إلا أنه لابد من الإشارة إلى أن هذه الأكاذيب لها علاقة أيضا بالعديد من الملفات الإقليمية، ومنها الملف التفاوضي المتعلق بأنبوب الغاز الجزائري، حيث دفعت الجزائر في اتجاه تعميق الأزمة في العلاقات مع المغرب بغية إعادة النظر في اتفاق أنبوب الغاز مع بعض الدول الأوربية ومنها إسبانيا، وقد رفضت تجديد الاتفاق القاضي بمرور أنبوب الغاز على الأراضي المغربية بذريعة الأكاذيب المشار إليها أعلاه، الأمر الذي يكشف عن حجم العداء الجزائري تجاه المغرب؛ ثم أنه لا يمكن إغفال التوجس الجزائري من المغرب بشأن علاقاته مع بعض الدول الغربية، حيث يكون الغرض من هذه الأكاذيب إثارة انتباه دول أخرى ذات صلة بالمغرب، لإعطاء الانطباع بأن هذا الأخير دولة شريرة وليس بتلك الصورة التي يعرفها عنه شركائه، وقد اتضح هذا في تصريح الرئيس الجزائري للمجلة الألمانية “دير شبيغل”، حينما تضمن تصريحه ما يؤكد بأن الجزائر غير راضية على تحسن العلاقات المغربية مع الأوربيين، بما في ذلك، الثقة التي يحظى بها لديهم بالمقارنة مع الجزائر التي لها صورة سلبية..
باحث في سلك الدكتوراه، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس.
تعليقات الزوار ( 0 )