Share
  • Link copied

الكاتب العمومي.. مهنة تواصل التطوّر في المغرب حسب حاجة الناس إليها

ما أن تلج المدينة القديمة للرباط من مدخل باب الأحد (أحد الأبواب التاريخية بالرباط العاصمة) حتى تتوالى على مسامعك طقطقة تشتد وتخبو وتتناغم لتخبر العالم أن هاهنا كتّابا عموميين من تاريخ قديم، يجرّون وراءهم خبرة سنين، ويشكلون بإصرارهم لوحة تراثية حبلى بالتاريخ والحنين.

اعتاد الكُتّاب العموميون -سواء القدامى منهم أو المعاصرون على الإنصات للناس وصياغة الكلام والشكوى في النواحي القضائية أو الإدارية أو حتى كتابة رسالة ودية لجهات معنية. وفي الجزيرة نت غيرنا معهم الأدوار، وجعلناهم يحكون شكواهم وحكاياتهم.

أنامل تصون التاريخ

يرتبط باب الأحد بوجود الكاتب العمومي منذ القدم، لكونه مدخل سوق، ومدخل المدينة، وكان فيه كُتّاب ونُسّاخ قبل استعمال الآلة الكاتبة، وبعد دخول الطباعة المغرب في منتصف القرن 18، ومع تطور الكتابة انبرى 30 كاتبا عموميا لتقديم خدمة لرواد العاصمة الذين يأتون من كل صوب ويحتاجون خدمات إدارية، خاصة مع وجود مقر وزارتي العدل والخارجية ومقر البريد، وانتهى القرن بوجود 12 منهم حصلوا على رخص لاستغلال الفضاء العام من السلطة المحلية.

في البدء كانوا يعملون عند مدخل باب الأحد بين دفتي السور ولسنوات كثيرة قبل أن يتحول المكان إلى معرض للصور، وينزاح الكُتاب نحو ممر بين المحلات التجارية.

وبعد أعمال الترميم والصيانة، عاد بعض الكتاب العموميين -وعددهم لا يتجاوز 8- للاشتغال على آلات طباعة بالية. ينصتون للزبائن ويتحدثون عبر حركات طباعة تلقائية، ويتحدون الحواسيب والإنترنت وما جادت به التكنولوجيا، ويعيدون صوت دقات الحروف المعدنية في سيمفونية طالما أتحفت هذا الفضاء، غير مبالين بآلة كتابة أصبحت في جيب الزبائن.

وجوه كُتِب على ملامحها تاريخ مهنة ومسار إنسان، تختزن بين طيات جبينها حكايات أجيال، تكاد تتشابه قسماتها من فرط تشابه ترقب عيونها وروتين حركات أناملها بانسياب.

معاشي وعيشي

بثقة العارف المتمرن، حدثنا محمد المجذوب الذي يشتغل كاتبا عموميا منذ أكثر من 30 عاما، وتتلمذ على يد رائد من الرواد القدامى، ليخلفه في مكان اشتغاله بعد وفاته ويكمل المسيرة. يقول للجزيرة نت “هنا عيشي ومن هذه الآلة معاشي ومعاش عائلتي”.

يحدثنا محمد ويداه لا تكفان عن الكتابة كأن أنامله تعرف ما تفعل وحدها، يجلس أمامه شاب في العشرينيات جاء من الدار البيضاء لمعالجة قضية بوزارة العدل، ويتابع معه قضيته، ويجيب عن أسئلتنا، ويوضح لنا كيف تشتغل الآلة وما مكوناتها وكيف يصحح إن أخطأ، ويفتخر بأنه لا تستعصي عليه شكوى، ولا يُعيقه ملف مهما تعقد مسار إعداده.

بابتسامة ساخرة تذكر معنا محمد ما أسماها “الأيام الزينة” (الأيام الجميلة)، وعبر عن حبه لآلته المهترئة التي لا يكاد يجد لها شريط تحبير، ويصلحها بنفسه إن هي تعطلت. تقاضى محمد 60 درهما من الزبون، ودلّه على المكان الذي يجب أن يقصده لوضع طلبه، وما هي إلا دقائق ونحن ما زلنا بالمكان، عاد الشاب بعد أن أنجز جزءا من مقصده، ليتابع إجراء آخر.

الخبرة هي الأساس

يعتقد محمد جازما أن “جوهر الكتابة هو المهم ولو كتب بخط اليد”. وتطورت مهنة الكاتب العمومي من القلم اليدوي والدواة، إلى قلم الحبر، لآلة الطباعة، ثم الحواسيب التي غيّرت آلياتها واحتفظت بخبرة ممارسيها.

على عكس محمد وباقي الكتاب بباب الأحد، غيّر عبد القادر البورقادي عدة العمل واحتفظ بالمكان والمكانة، الوحيد الذي يستعمل الحاسوب من بين 8 كتاب منذ سنة 2013، بعد أن تمرس على الآلة الكاتبة سنوات. عصامي التكوين، أسعفه مستواه الثقافي والمعرفي في استيعاب المهنة، حسب قوله، ويشعر بالفخر لما راكمه من خبرة في الطباعة. حكى لنا كيف كان عليه أن يجد لنفسه أول الأمر مزود كهرباء، فاستعان ببطارية شحن ومُحول، قبل أن يتمكن من توفير تغذية الكهرباء من جيرانه بأحد المحلات.

ويرى عبد القادر أن الكاتب العمومي اجتمع فيه ما تفرق في غيره، فهو كاتب ومحرر وطبيب نفسي، واستشاري قانوني واستشاري إداري، وموجه، حسب قوله.

مهنة بنشاط متنوع

يمارس الكاتب العمومي مهنة وساطة، تجده عارفا بالمصطلحات القانونية والصيغ الإدارية من أجل النفاذ نحو المسؤول، مهنة تغذيها البيروقراطية الإدارية والأُمية بأنواعها الدراسية والمعرفية، ويحتاجها الناس من أجل اختصار مسافات ردهات المحاكم والإدارات.

يقول عبد السلام بن سعيد الكاتب العام للهيئة الوطنية للكتاب العموميين -في حديث مع الجزيرة نت- إن الكتاب العموميين أصناف متعددة لا يمارسون نشاطا واحدا، منهم من يشتغل في قضايا التقاضي والشكايات ومسطرة الإنذارات والأحوال الشخصية لقربه من المحاكم، وهناك من يشتغل في خدمات عقارية، وهناك في خدمات القنصليات، وفئة أخرى وُجدت تاريخيا أمام البريد، حيث كانت تقدم خدمة كتابة الرسائل والتواصل.

وأوضح ابن سعيد أن المحيط هو الذي يفرض طبيعة الخدمات، والطلب يحدد التخصصات، والكاتب العمومي يطور خبرته حسب حاجة الناس إليه.

ويصل عدد الكتاب المحليين إلى 34 ألفا و680، يتوزعون في كل المغرب، وتعرف المهنة ولوج أجيال جديدة بمستويات تعليمية مرتفعة، ولديها علاقات مع التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي والحواسيب.

ويقول عبد السلام بن سعيد إن المهنة غير مؤطرة بقانون، بل برخص استغلال ملك عام أو رخص فتح محل، أي تأطير في إطار الرسوم الجبائية للجماعات، ويؤكد أن مؤشر قياس الخبرة تحدده الممارسة والثقة.

وشهد تأطير مهنة الكتاب العموميين نقاشا بالبرلمان وتجاذبا مع وزارة العدل حول تحرير العقود، وما تزال الهيئة الوطنية تترافع من أجل تنظيم المهنة وتنظيم واجباتها وحقوقها ومجالات اشتغالها.

تطلع لواقع أفضل

المشهد من باب الأحد بالرباط يشبه مشاهد أخرى بكل من فاس وطنجة ووجدة، كتاب الآلات القديمة العاملون على الرصيف بقوا من زمن قديم، يتدافعون مع كتاب عموميين عصريين ويقتسمون معهم الصفة. في حين يتقاسم كتاب باب الأحد بالرباط صعوبة ظروف الاشتغال، المتمثلة أساسا في الاشتغال في العراء، تحت حر الشمس وبرد الشتاء، وفضول المارة.

من بينهم كاتب تبدو عليه علامات الكبر أكثر من غيره، ظل يرمقنا بعد أن رفض الحديث معنا، ولسان حاله يقول نريد من يسمع شكوانا ويغير واقع حالنا، أما الكتابة عنا فنحن الكتاب، وها هو واقعنا يمتد في الزمان.. تتغير الظروف من حولنا ونبقى طي النسيان، يشهد علينا المجال، ويختزن السور التاريخي تاريخنا داخله، فقد نفذت أصوات آلاتنا بين صخوره وانتمت للمكان، أُعطِيت لنا موهبة الصبر والانتظار راضين بالممكن متطلعين لواقع أفضل.

عن الجزيرة

Share
  • Link copied
المقال التالي