شارك المقال
  • تم النسخ

القاضي عبد الرزاق الجباري يُصدر كتابا ضخما حول نسب وأخبار آل الجباري

صدر مؤخرا ضمن منشورات “جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بمدينة القصر الكبير” كتاب ضخم (بلغت صفحاته 576 صفحة) وُسم بـ: “إتحافُ الأماجِد بذكر نسب وأخبار آل الجباري والسيد الوالد”، لمؤلفه القاضي بمحكمة القنيطرة الأستاذ عبد الرزاق الجباري، وهو كاتب عام لـ “نادي قضاة المغرب” معروف بكتاباته في المجال القانوني والقضائي. ويندرج هذا الإصدار فيما يصطلح على تسميته بـ “علم الأنساب والتراجم”.

وقد خصصه مؤلفه للبحث في تاريخ العائلة “الجبارية” بمدينة القصر الكبير، وهي من الأسر القصرية العريقة والكبيرة بشمال المغرب، ذات المكانة المجتمعية المرموقة نظرا لما عرف عن أعلامها وأعيانها من تعاطيهم لـ: العلم، والتدريس، والفتوى، والعدالة، والقضاء، والحسبة، والخطابة، والتوقيت، وكذا التصوف والإمامة.

ومما يتميز به هذا الكتاب، هو أسلوبه الواضح الصالح للجميع، والخالي من التراكيب المعقدة، ومن الإطناب والزيادة، حيث اتسمت طريقة كتابته بالجمع بين عدة مناهج، فاعتمد مؤلفه على عدة مراجع تاريخية وفقهية، فضلا عن جملة من الوثائق والرسائل المخطوطة في أغلبها، الشيء الذي جعلنا غير قادرين على الإحاطة بكل حيثياته وجوانبه في هذه الصفحات المحدودة.

وقد أعلن المؤلف أن أسباب وسياق تأليفه لهذا الكتاب، إذ عبر عن ذلك بكونه جاء تلبية لرغبة أحد أسلافه العلامة العارف بالله السيد عبد السلام بن الخضر الجباري، الذي كتب مؤلفا مختصرا حول نسب آل الجباري بالقصر الكبير وتمنى إكماله، ورغم إكمال هذا الكتاب من طرف ابنه الأستاذ المؤرخ النسابة سيدي الخضر بن عبد السلام الجباري الذي غلب على كتابه الإجمال والاختصار، فقد آثر المؤلف استكماله من جديد بصورة أوسع، قائلا: “فقد اخترنا استكمال ما بُدئ في هذا المضمار”.

ويتضمن الكتاب ثلاثة فصول أشار إليها المؤلف، وهي: الفصل الأول: تحقيق النسبة الشريفة لأولاد الجباري بالقصر الكبير. الفصل الثاني: تراجم بعض أعلام الأسرة الجبارية بالقصر الكبير. الفصل الثالث: السيد الوالد الشيخ أحمد الجباري، أخباره وبعض مناقبه وآثاره.

أبرز المؤلف في الفصل الأول من كتابه أصول الأسرة وتحقيق نسبها الجباري الشريف بالقصر الكبير، حيث خلص إلى أنها من ذرية المولى إدريس الأزهر عن طريق ابنه سيدنا يحيى، معتمدا في ذلك على نص تاريخي للإمام المؤرخ والنسابة محمد ابن جزي الغرناطي (ت 741هـ)، والموثق لبعض أخبار جدهم الأعلى الولي الصالح الشيخ “جبارة” الذي كان مستقرا بدرعة، حيث ظلت ذرية المولى يحيى بن إدريس بعد أن ولي إمارتها بقرار من أخيه المولى محمد بن إدريس، قبل أن ينتقل إلى سجلماسة ومنها إلى نواحي مدينة سبتة، وبالضبط إلى حيث توجد اليوم قبيلة بني “جبارة” التي سمت باسمه. وهي الخلاصة التي عززها المؤلف بوثائق مخطوطة أخرى، فضلا عما أسفر عنه بحثه الميداني بالقبيلة المشار إليها.

وبحسب المؤلف، فإن أول قادم إلى مدينة القصر الكبير من هذه القبيلة، هو الجد الأكبر للأسرة العلامة الولي الصالح السيد الحسين بن عمران الجباري (ت حوالي 1018 هـ)، إذ رحل إليها للأخذ عن العارف سيدي عبد الرحمن المجذوب، فلازمه فيها وتربى عليه إلى أن غادرها هذا الأخير في تجاه مدينة مكناس، وبقي هو بمدينة القصر الكبير متصدرا لتدريس العلم والفتوى والتسليك الصوفي، حيث كانت مستقرا له ولذريته من بعده. وقد عزز هذا المعطى التاريخي برسالة مخطوطة أرسلها العلامة العارف السيد أبو المحاسن الفاسي لجد الأسرة، تتضمن جملة من التصريحات التي تفيد ذلك.

ومما قام به المؤلف في هذا الفصل، مناقشته للعلامة ابن خجو الحساني الذي أسقط النسب الشريف عن الأسرة الجبارية، وبين تهافته فيما ذهب إليه من ستة عشر وجها معززة بشهادات القضاة والعلماء ونقباء الأشراف الموثقة في رسوم عدلية. كما أشار المؤلف إلى مجموعة من الظهائر السلطانية العلوية الشريفة، والتي تعترف بالنسب الشريف لهذه الأسرة، وتقضي بضرورة احترامهم وتوقيرهم وتعظيمهم وإعفائهم مما يفرض على غيرهم. ومن أبرز هذه الظهائر، ظهير السلطان المولى إسماعيل العلوي، وظهير السلطان المولى سليمان وغيرهما.  

أما الفصل الثاني، فقد تطرق فيه لترجمة اثنين وخمسين علما من أعلام الأسرة الجبارية بالقصر الكبير، مبرزا زهدهم، وعلمهم، وتدريسهم، وكراماتهم، وزواياهم، ونضال بعضهم في الحركة الوطنية، مثبتا رسالة محالة على العلامة السيد عبد السلام الجباري من لدن الأستاذ الزعيم عبد الخالق الطريس حول منع مؤتمر طلبة شمال إفريقيا بفاس.

وممن ترجم لهم في هذا الفصل، جد الأسرة الولي الصالح السيد أحمد الجباري (ت حوالي 1058 هـ) دفين قبيلة أهل سريف، وهو ابن العلامة السيد الحسين الجباري المتقدم، فسلط الضوء على مكانته العلمية، وأوضح سبب هجرته من القصر الكبير إلى القبيلة المذكورة المحدد في تدريس العلم الشريف، قبل أن ينقطع للعبادة في قنة جبل هناك إلى أن توفي ودفن فيه. كما ترجم لابنته الولية الصالحة لالة فاطمة بنت أحمد (ت 1080 هـ)، وبين تجردها وانقطاعها للعبادة وهيامها في الحضرة القدسية. وترجم، أيضا، للعلامة القاضي السيد محمد بن أحمد الجباري، الذي عين بعد عودته من القرويين قاضيا لمدينة القصر الكبير، وبقي على هذه الخطة إلى أن تركها زاهدا فيها، وسافر إلى الشيخ العارف بالله سيدي أحمد التجاني بمدينة فاس، فأخذ عنه طريق التصوف، ولازمه مدة حتى صار من أخص أصحابه وخُلَّصهم، بل أخبر شيخه بأنه من أصحابه العشرة المضمون لهم الفتح الأكبر. وترجم، أيضا، لأخ هذا الأخير العلامة الفقيه السيد عبد الله بن أحمد الجباري (ت 1240 هـ) الذي يعد هو الآخر من علماء القرويين، حيث أبرز ما تولاه من وظائف، منها أنه كان محتسبا وأمينا وقهرامانا للدولة في فترة حكم المولى سليمان العلوي، معتمدا في ذلك على ظهير سلطاني بهذا الخصوص. كما ترجم للعلامة الولي الصالح العارف السيد محمد المفضل الجباري (ت 1303 هـ) الذي كان مدرسا وعدلا ومفتيا وخطيبا بالمدينة، وهو من علماء القرويين، فبين زهده في كل هذه الوظائف والانقطاع إلى العبادة وتسليك المريدين بعدما أخذ طريق التصوف عن العلامة العارف السيد محمد الحراق التطواني، وكان أول مؤسس للطريقة الدرقاوية الحراقية بالقصر الكبير. وقد ترجم، أيضا، للولي الصالح العارف السيد محمد ابن الطاهر الجباري (ت 1382 هـ) الذي كان من كبار علماء القراءات، ومن أبرز وأشهر أولياء المدينة وصلحائها. كما ترجم لأحد كبار علماء القرويين في وقته، وهو العلامة المحقق والولي الشهير السيد عبد السلام بن الخضر الجباري (ت 1402 هـ)، والذي كان إليه -بحسب تعبير المؤلف- المفزع في حل مشكلات مختلف العلوم الشرعية وتحرير معضلاتها، سواء من طرف طلاب العلم أو الفقهاء أو الأساتذة، بل حتى من طرف بعض المؤسسات الرسمية، مبرزا لقبه الذي كان يلقب به، وهو: “عالم المدينة”.

وبحسب المؤلف، فإن أدوار هذه الأسرة لم تقتصر فقط على إقراء العلم والفتوى والعدالة والتسليك، بل تجاوزت ذلك إلى ما هو سياسي محض، إذ بين في ترجمته للعلامة المجاهد السيد أحمد ابن الطاهر الجباري (ت 1386 هـ) الدور الذي لعبه هذا الأخير في مقاومة المستعمر، حيث كشف عن أنه كان من مؤسسي الحركة الوطنية بمدينة فاس إلى جانب صديقه الزعيم الأستاذ علال الفاسي والعلامة المختار السوسي وغيرهما، مؤرخا لحادث تأسيسه رفقة من ذكر جمعية سرية سميت آنئذ بـ: “جمعية القرويين لمقاومة المحتلين”، وكان هذا الحدث بإيعاز وإشراف من شيخه العلامة مولاي محمد بن العربي العلوي.

ولم يقف المؤلف عند هذا الحد من التعريف بهذه الشخصية الوطنية المجاهدة، بل سلط الضوء حتى على مرحلة عودته من القرويين إلى مسقط رأسه، أنشأ علاقات وطيدة مع زعماء الحركة الوطنية بمنطقة الشمال، واستثمر في ذلك ما اكتنزه من تجربة العمل السري بفاس، فساهم في تأسيس حزب الإصلاح الوطني بزعامة الأستاذ عبد الخالق الطريس، وانتُدب لشغل الكتابة العامة لفرعه بمدينة القصر الكبير، وبعد اندماج هذا الحزب مع حزب الاستقلال سنة 1956 انتخب رئيسا لفرع هذا الأخير بالمدينة ذاتها، وكان أول رئيس له بها.

وبعيدا عن المجال السياسي، أوضح المؤلف ما كانت تتميز به هذه الشخصية ضمن محيطها المجتمعي، مبرزا أن صاحبها، وإثر عودته من القرويين، اشتغل في التدريس والعدالة شأنه شأن جل أسلافه، وأسس “المدرسة الأهلية الحسنية” التي كانت بديلا عن مدارس المستعمر حتى لقب عند وطنيي المدينة بـ: “رائد التعليم الحر بها”، واشتغل مديرا لها قبل أن يعين ناظرا للأوقاف بمدينة القصر الكبير، حيث ظل في هذا المنصب لمدة حوالي ثمان سنوات، ثم أعفي منه بقرار من المقيم العام الإسباني آنذاك. وبعد حصول المغرب على الاستقلال أعاده السلطان المغفور له محمد الخامس إلى منصبه في زيارته للمدينة بتاريخ 09 أبريل 1956، وأضاف له بمقتضى ظهير شريف أوقاف مدينتي العرائش وأصيلا وأحوازهما. 

أما الفصل الثالث من الكتاب، فقد أفرده لترجمة والده المرحوم العلامة الولي الصالح السيد أحمد الجباري (ت 1442 هـ)، وهو من كبار فقهاء المدينة ووعاظها ووجهائها وخطبائها، انقطع لخدمة المجتمع القصري عبر مجموعة من الأنشطة العلمية والوعظية والخيرية، متوسعا في أخباره ومناقبه وأخلاقه وآثاره بما في ذلك علاقته بشيوخه من الأسرة الصديقية العالمة، متطرقا إلى جملة من مواقفه وأقواله وآرائه الإصلاحية، فضلا عن ثناء بعض أهل العلم والصلاح عليه. كما أبرز مظاهر مجاهدات نفسه عن طريق ما كان يقوم به من عبادات تطوعية تذكرنا بمجاهدات كبار الأولياء والصالحين، كاشفا عن بعض كرامات المعنوية والحسية التي تدل على علو كعبه في مراتب الولاية والصلاح.

ومن أبرز ما عرج عليه المؤلف بخصوص الإسهامات الميدانية لوالده، مشروع إصلاح وترميم الجامع السعيد بمدينة القصر الكبير، الذي تم بين 2001 و2006. وقد حكى المؤلف بعض ملابسات هذا الإصلاح لأنه كان من جملة المساهمين فيه، وبين أن الملايين التي أنفقت فيه جمعت بفضل الله تعالى وفضل ذلك الرجل الصالح.

وعلى الجملة، فأهمية هذا الكتاب تكمن في استيعابه لتاريخ العائلة الجبارية بالقصر الكبير وأعلامها، معتمدا في ذلك على العديد من الوثائق التي يحتاجها الباحثون وضمَّنَها في ملحق خاص. وهو عمل مكمل لما كتب قبله.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي