مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية والجماعية والجهوية المزمع إجراؤها خلال سنة 2021؛ دخلت الأحزاب المغربية مبكرا طور التسخينات والاستعدادات الانتخابية. وكما جرت العادة تعمد التشكيلات الحزبية للقيام بخطوتين رئيسيتين: الأولى، يتم من خلالها التنسيق والتشاور مع وزارة الداخلية باعتبارها الجهة المشرفة على تنظيم العملية الانتخابية برمتها، ومناقشة مختلف الجوانب التقنية والفنية والمالية والقوانين الانتخابية، والثانية وتكاد تكون أهم ركن في العملية الانتخابية وهي البحث عن موقعها و”نصيبها” في الخريطة السياسية المقبلة وتكييف خطابها ومواقفها ومطالبها بناء على هذا المعطى. هو أمر طبيعي جدا بالنسبة لتنظيمات تروم تنزيل مشروعها وطموحها الديمقراطي والسياسي والانتخابي من خلال مؤسسات الحكم، وعبر مدخل تدبير وتسيير الشأن العام.
يفترض بهذه الاستعدادات أن تجرى وفق فهم سياسي عميق للحظة التاريخية وللسياقات والضرورات والتحديات الوطنية، بمعنى آخر، لا يمكن أن تتم بمعزل عن الحمولات والتفسيرات الديمقراطية للعملية الانتخابية. لذلك يبدو اليوم أن السجال حول القاسم الانتخابي رغم ظاهره التقني والفني والعددي، ديمقراطيا محضا.
تجادل أحزاب من الأغلبية والمعارضة أن احتساب القاسم الانتخابي بناء على عدد المصوتين أو المسجلين في اللوائح الانتخابية “صيغة عادلة” من شأنها فرملة الطموحات المتنامية لحزب العدالة والتنمية الحاكم وفرصه في تصدر الانتخابات المقبلة، على اعتبار أن هذا الحزب يظل المستفيد الأول من قاعدة “أكبر بقية” التي تخوله الفوز بأكثر من مقعد في الدائرة الانتخابية الواحدة. تدافع هذه الأحزاب على موقفها هذا باستدعاء “المنطق الديمقراطي” الذي يفتح الباب أما تعددية ديمقراطية وسياسية تتيح للأحزاب الصغيرة كما للأحزاب الكبيرة التموقع في المشهد السياسي، والمشاركة في تدبير الشأن العام، والخروج من حالة الركود السياسي والجمود التنظيمي.
أما حزب العدالة والتنمية، وبنفس اللغة الديمقراطية يعتبر أن احتساب القاسم الانتخابي بناء على عدد المصوتين أو المسجلين تراجع عن الخيار الديمقراطي ومخالف للدستور، وضرب لإرادة الناخبين وانتهاك لحقهم في الاختيار، ويفتح الباب أمام تراجعات وانتكاسات أخرى.
لا يبدو النقاش في حقيقة الأمر حول قاعدة احتساب القاسم الانتخابي حقيقيا أو جديا، أو تعبيرا عن تدافع من صميم الممارسة الديمقراطية القائمة على مراكمة المكتسبات، والبحث عن أسمى صيغ التعبير عن إرادة الناخبين الحقيقية. وإن كان من إضافة لهذا التجاذب فهو تكريس نزعة التراجعات التي باتت الصفة المميزة للسلوك السياسي والحزبي والديمقراطي، ويحق لنا اليوم التساؤل عن مصير مطالب رفع العتبة، واعتماد التصويت بالبطاقة الوطنية، وإعداد لوائح انتخابية جديدة عوض مراجعة القديمة، وغيرها من المقترحات التي كانت إلى عهد قريب مقترحات “عادية” وقابلة للتفعيل والتنزيل، وأضحت اليوم أحلاما لا تتوافق وطبيعة السياقات الوطنية والدولية كما تدعي ذلك كل الأحزاب المغربية.
غير أنه ومن باب الإنصاف، لا يمكن للأحزاب اليوم أن تطالب بغير هذا الهامش، وأن تناور إلا في هذه المساحة الضيقة وتحت هذا السقف. فأحزاب المعارضة المطالبة بتعديل القاسم الانتخابي مثل الأصالة والمعاصرة وحزب الاستقلال والتقدم والاشتراكية وغيرها من الأحزاب الصغيرة، هي إما منهكة تنظيميا وسياسيا، أو لا تستطيع أن تتنفس وتعيش خارج كراسي التسيير الحكومي، أو أحزاب تعيش على إيقاع مرحلة انتقالية وترغب في تحويل مقاسها السياسي بما يتوافق وطور التحول الجديد، وبالتالي فإن استحضارها للبعد الديمقراطي للاستحقاق الانتخابي غير وارد في حالتها. أما أحزاب الأغلبية المناصرة لهذا التوجه مثل التجمع الوطني للأحرار والاتحاد الدستوري والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، فهي إما أحزاب تعيش مرحلة من التيه السياسي والإيديولوجي وترى في مقاعد البرلمان والحكومة طوق نجاة قد تعيد من خلاله ترتيب التوافقات والاصطفافات والمنافع الداخلية، أو أحزاب تظل نزعتها النضالية متواضعة ورصيدها الديمقراطي ضعيفا، ولا يمكن الرهان عليها أو انتظار انخراطها في أي تدافع ديمقراطي حقيقي وفق خطها وخطابها وسلوكها السياسي الآني.
بالنسبة لحزب العدالة والتنمية الرافض للمقترح الجديد، وإن كان مطلبه بالإبقاء على قاعدة احتساب القاسم الانتخابي كما هي، يبدو دفاعا عن الروح الديمقراطية للعملية الانتخابية، فإن وضعية الحزب وأداؤه السياسي والحكومي يسحب عن هذا الانحياز جديته وأهميته. لم تتخلص قيادة الحزب الحالية بعد من وصمة التخلي عن الأمين العام السابق عبد الإله بن كيران في عز أزمة “البلوكاج” الحكومي، ولا تزال تبعات تدبير تحالفات الحكومة الحالية ترخي بظلالها على وضعه الداخلي، ناهيك عن سؤال الحصيلة الحكومية. وهي كلها مطبات نحتت من رصيد الحزب، ونهشت من مصداقيته، حتى بات دفاعه عن خيار الحفاظ على القاسم الانتخابي كما هو غير ذي معنى. وبعد ولايتين تشريعيتين على رأس الحكومة، يطرح التساؤل حول ما في جعبة الحزب أن يقدمه لولاية تشريعية ثالثة، وما هو الخطاب الذي يمكن أن يبني عليه مشروعه السياسي والانتخابي للمرحلة المقبلة، وما هو سقف طموحاته غير الحفاظ على وضعه وموقعه الحالي، وما دعوات عقد مؤتمر استثنائي وتقليص حجم المشاركة إلا تعبير عن توترات داخلية غير مسبوقة، قد يضاف إليها معالم تحولات مهمة في بنيات الولاء لدى بعض قيادات الحزب.
تثبت وهمية الصفة الديمقراطية للنقاش حول القاسم الانتخابي، أن الانتخابات المقبلة ستجرى بانضباط للدورة الجامدة للاستحقاق في المغرب، والتي يبدو أنها تعمد لمنح دورتين تشريعيتين لكل حزب، كما تؤكد أن المؤسسة الحزبية في المغرب لا تزال غير محصنة ضد الاستهداف والتقزيم والإنهاك، وأن الفاعل الحقيقي والموجه الرئيسي للرهانات السياسية ومهندس خريطتها هو الدولة أولا وأخيرا.
تعليقات الزوار ( 0 )