كانت الممثلة المغربية ثريا جبران، التي توفيت هذا الأسبوع تردد أنها مدينة بشهرتها للتلفزيون. صحيح أنها عملت في المسرح وفي السينما، وأدت أدوارا مختلفة أبهرت الجمهور، ولكن عموم الناس لم يتعرّفوا عليها سوى عن طريق الشاشة الصغيرة، سواء عندما كانت تتولى تقديم سهرات فنية، أو تشارك في وصلات إعلانية، أو عندما كانت تمثل في مسلسلات وأفلام تلفزيونية.
لقد كانت مقتنعة بأن التمثيل فرصة لتجسيد عشقها لأبي الفنون، ولإبراز موهبتها التي صقلت عن طريق الاحتكاك برواد هذا الفن في المغرب. غير أن المسألة تبقى نخبوية ومحدودة في الزمان والمكان، ومقتصرة على جمهور نوعي يحضر عروضها المسرحية. أما حين تريد توسيع دائرة التواصل وترسيخ الصورة في أذهان الناس، فكان الحل هو التلفزيون الذي يحظى بنسبة مشاهدة عالية. ولو أنها لم تسلم، أحيانا، من «نيران صديقة» خلال مرحلة معينة من مسارها الفني، جراء بعض الكتابات الصحافية التي انتقدت مشاركتها في تقديم سهرات فنية، لكنها كانت تردد أنها فنانة محترفة ومتفرغة للعمل الفني، وأن فرص العمل في المسرح والدراما التلفزيونية قليلة، ولا يمكن أن ترفض عروضا تحقق لها التواصل مع الجمهور والشهرة والعائد المادي كذلك.
يتذكر المواطن المغربي فقرتها الإعلانية المتعلقة بالتوعية بالحوادث المرورية، التي تردد فيها العبارة الشهيرة «ناري جابها فراسو» (دلالة على تعرّض شخص ما لإصابة جسدية). كما يتذكر أدوارها الكوميدية في عدة أعمال تلفزيونية. ويروي الإعلامي الصديق بن زينة واقعة حدثت لها حينما تقلدت منصب وزيرة الثقافة في الحكومة المغربية، ففي ثاني اجتماع رسمي للحكومة، دخلت ثريا جبران في سجال مع خالد الناصري وزير الإعلام والناطق الرسمي باسم الحكومة. هذا الأخير اقترح إيقاف بثّ مسلسل «المعنى عليك يا المغمض عينيك» الذي كانت تبثه القناة الثانية «دوزيم» على أساس أنّ الأدوار الهزلية التي تؤديها جبران، بطلة المسلسل، قد تؤثر في صورتها وزيرةً، وقد يتضرّر منها الأداء الحكومي. هذا الاقتراح رفضته جبران، معتبرةً أنّ نظرة الوزير إلى فن التمثيل شديدة السطحية، وأن سلسلتها الفكاهية عمل إبداعي ينبع من هموم المجتمع. قبل أن تضيف أن عملها يمكن أن يساعد أفراد الحكومة في النزول من أبراجهم العاجية، والاقتراب من نبض الشارع.
دائمًا، في سياق علاقة ثريا جبران بالتلفزيون، يستحضر المتتبعون قصة غريبة ومؤلمة وقعت لها أواسط التسعينيات؛ فبينما كانت تتأهب للمشاركة في برنامج حواري مباشر على القناة الثانية، تعرّضت للاختطاف من طرف مجهولين قاموا بحلق شعرها. وبقيت نتائج التحقيق في الواقعة غامضة، وإن أشارت بعض التأويلات إلى استياء أطراف متشددة من مشاركة فنانة مناضلة وعصامية وذات شخصية قوية في برنامج تلفزيوني كان يحمل عنوان «رجل الساعة».
لا ننسى، أيضا، أن التلفزيون عمل على توثيق جل المسرحيات التي شاركت فيها ثريا، ضمن فرقتها «مسرح اليوم» وسيظل هذا الأرشيف مسجلا في الذاكرة، لا سيما بعدما توقفت هذه الفرقة عن العمل المسرحي إثر استوزار الفنانة المذكورة أواخر 2007 ثم إصابتها بأزمة صحية حادة ألزمتها الفراش ومغادرة الوزارة.
التلفزيون والإنترنت
على غرار الممثلة الراحلة ثريا جبران، يؤمن جل الفنانين المغاربة أن التلفزيون أداة مهمة وضرورية بالنسبة لهم، من أجل توسيع قاعدة المعجَبين والمتابعين والمساهمة في ترسيخ النجومية واستدامتها. لذلك، يشاركون في البرامج الفنية وفي السهرات التلفزيونية والأفلام والمسلسلات التي تحافظ على الخيط الرابط بينهم وبين جمهورهم.
وفي غياب صناعة فنية راسخة وسوق قوي وآليات محترفة للترويج بشكل منتظم، فإن لا المسرحيات وحدها ولا السهرات العمومية ولا الأفلام السينمائية كفيلة بصنع النجومية وبتحقيق دخل قار للفنانين. يبقى التلفزيون، إذن، مدخلا أساسيا لتحقيق ذلك.
اليوم، هناك من يبحث عن مداخل أخرى عبر الإنترنت، من خلال إنشاء قناة افتراضية على «اليوتيوب» اعتقادا منه أنها حل لاكتساح المجال الفني والوصول إلى عريضة واسعة من الجمهور وتحقيق الربح المالي. لكن، إذا كان هذا الأسلوب ناجحا بالنسبة للبعض، فإن ثمة أسئلة تُطرح من قبيل مدى صحة ومصداقية الأرقام التي تُعطى حول نسب التصفح والزيارة الخاصة بالقنوات الافتراضية؛ وقد سبق لمطرب مغربي أن صرح بأن تلك الأرقام تُشترى، فيكون عدد المُعجبين بفنان معين رهينا بحجم المبلغ المالي الذي يدفعه عن طريق الإنترنت.
كما يطرح سؤال عريض حول المستوى الفني لما يُقدَّم عبر القنوات الافتراضية الشخصية، ما دام لا يخضع لمعايير الجودة الإبداعية. والحال أن المرور عبر القنوات التلفزيونية والإذاعية يفترض موافقة لجان مختصة من ذوي الدراية بالمجال الفني. لذلك، لن يكون الإنترنت كفضاء مفتوح على عواهنه بديلاً للتلفزيون كشكل مُؤسَّسي مُقنَّن.
فنانون منسيون
غير أن المرور عبر التلفزيون ليس مُيَسّرًا لكل الفنانين المغاربة بالتساوي المطلوب. ففي المسلسلات والأفلام التلفزيونية يُلاحَظ تكرار الوجوه نفسها، خاصة تلك التي تنتمي إلى محور الرباط/ الدار البيضاء، وأحيانا يُلتَفت إلى بعض فنّاني مراكش. وحتى الممثلين والممثلات المنتمين إلى هذه المدن لا يُعامَلون بمبدأ تكافؤ الفرص بين الجميع من طرف المُخرجين وشركات تنفيذ الإنتاج، إذ يكون التهميش مصير مجموعة من الأسماء، في حين تحتكر أسماء أخرى الشاشة. كما يتم تغييب طاقات فنية أخرى تنتمي إلى المدن (البعيدة) تجسيدا للمَثل القاسي: «بعيد عن العين بعيد عن القلب».
ولا ينتبه الناس عادةً إلى فنانين منسيين إلاّ حين يدركهم الموت، حينئذ فقط تُكتب عنهم المراثي، ويصير الجميع أصدقاءهم، وتُخصّص لهم فقرات في البرامج والنشرات الإخبارية، وتُقام لهم حفلات تكريم وتأبين. لكن، ما حاجة الفنان إلى كل هذه الجعجعة بعد رحيله عن الدنيا؟
ملاحظة أخرى تثيرها طائفة من الممثلين المغاربة؛ يقولون: «يعتقد كثير من الجمهور أننا دائمو الحضور في التلفزيون؛ بينما الأمر يتعلق فقط بالمسلسلات والأفلام التي تُعاد باستمرار، كلما رأى مسؤولو القنوات المغربية حاجة لإعادتها. إننا نعاني من بطالة شبة دائمة. نحن حاضرون في التلفزيون وغائبون عمليا.»
بيد أن الممثلين لا يستفيدون ماديا من إعادة بث الأعمال التي يشاركون فيها، في إطار ما يسمى بـ«الحقوق المجاورة» إلى أن قررت الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون أخيرا تقديم تعويض مباشر للمنتجين المنفذين عن حقوق إعادة البث وتكليفهم بتوزيع حصة خمسين في المائة على أصحاب هذه الحقوق. لكن عددا من النقابات الفنية لم يرقها هذا الإجراء، مؤكدة على عدم قانونيته، وإن كان بمبرر محمود يسعى لمساعدة الفنانين. وأوضحت أنه كان من الأفيد «لبلوغ هذا المقصد الحميد أن يتم عبر المكتب المغربي لحقوق المؤلفين في ما يخص حقوق الملكية الفنية والأدبية، والعمل بالمقابل، لخدمة الفنانين في مجال إنجاز الأعمال الفنية». ولفتت النقابات الفنية الانتباه إلى أنه «بإمكان الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون باعتبارها منتجا، الزيادة في أجور الفنانين الذين يتقاضى أغلبهم أجورا غير مناسبة لطبيعة العمل الذي يقومون به، ومحاربة الاحتكار وتشجيع تكافؤ الفرص والتنافسية». لعل هذه الاقتراحات تجد آذانا مُصغية.
تعليقات الزوار ( 0 )