شهدت المدرسة العليا للتكنولوجيا، التابعة لجامعة الحسن الثاني في مدينة الدار البيضاء ، واقعة أثارت جدلاً واسعاً خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي، حين امتنع عميد كلية العلوم بن مسيك، عن تسليم جائزة لطالبة ترتدي “الكوفية” الفلسطينية في حفل مخصص لتسليم جوائز تفوق بعض طلبة هذه المدرسة العليا المتفوقين.
الفضاء الجامعي بين الأدلجة والتسييس
عكست الجامعة المغربية منذ نشأتها كل الصراعات التي كانت تعتمل بها الساحة السياسية بالمملكة. وهكذا انتقلت العدوى السياسية إلى رحاب الجامعة وانتشرت في مختلف دواليبها الإدارية والعلمية والتأطيرية لافتقاد المؤسسات الجامعية لمختلف الحصانات التي تمكن من تدعيم استقلاليتها الفكرية والتنظيمية. فقد رضخت الجامعة المغربية منذ نشأتها لوصاية الإدارة لا من حيث تسييرها أو من حيث تمويلها. وهكذا فإن السلطة في شخص وزير التعليم العالي أو الوزير الوصي هي التي تقوم بتعيين أو عزل رؤساء الجامعات والمدارس العليا الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة في كل ما يتعلق بالتسيير الإداري والعلمي للجامعة والتصرف في ميزانيتها. ولا يعتبرون مسؤولين بشكل مباشر إلا أمام السلطة التي بإمكانها وحدها عزلهم أو نقلهم أو إقالتهم. في حين أن عمداء الكليات ينتقون عادة من بين ثلاثة مرشحين من أساتذة التعليم العالي. وتتم المصادقة على تعيين أحدهم بمجلس الحكومة.في حين تحول الفضاء الجامعي، خاصة خلال ستينيات وسبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، إلى مجال لتنافس الأحزاب في منح التزكيات للأساتذة الراغبين في ولوج هذه الكليات أو العمل على إقصائهم، مما حول العديد من الشعب داخل هذه الكليات إلى فروع حزبية تتصارع فيما بينها وفق منطق التحالفات والتموقعات وخلايا لنشر الأدبيات الإيديولوجية لكل حزب. كما استغلت المنابر الجامعية لتكريس السلفيات اليسارية والسلفيات الأصولية لتنضاف إليها النزعات الانفصالية والقبلية التي شهدتها مؤخرا بعض الكليات، سواء بفاس أو الرشيدية أو مراكش أو أكادير، والتي وجدت تربتها الخصبة في عقلية طلبة ينحدرون من مناطق قروية أو صحراوية وجبلية تتميز بالتعصب بمختلف أشكاله. ولعل تاريخ الصراع السياسي والنضالي الذي تجره الجامعة وراءها هو الذي يفسر هذه الزوبعة الإعلامية التي أثارتها واقعة تتويج طالبة ارتأت دونا عن زملائها وزميلاتها أن تتشح بكوفية فلسطينية في ظرفية سياسية خاصة تميزت بخروج المئات من المسيرات بعدة مدن مغربية للتنديد بعملية التقتيل والابادة التي يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي بقطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023. في وقت استأنفت فيه الدولة المغربية . علاقاتها الخارجية مع إسرائيل بعد إبرام اتفاقية ابراهام . من هنا يمكن فهم كيف استغل فرقاء سياسيون هذه الواقعة لانتقاد موقف عميد كلية العلوم بالدارالبيضاء : فقد انبرى المصطفى الرميد وزير العدل في حكومة بن كيران ووزير الدولة السابق المكلف بحقوق الإنسان في حكومة العثماني الموقع على اتفاقية ابراهام ، والقيادي السابق في حزب العدالة والتنمية، ليستنكر في تدوينة على صفحته بموقع “فايسبوك” بأنه “إذا صح أن عميدا بكلية مغربية رفض توشيح طالبة لأنها تحمل الكوفية الفلسطينية، فهو جبان لا يستحق العمادة، ومتجرد من الإنسانية لايستحق الاحترام.. “. من جانبه وصف خالد الصمدي أحد أعضاء حزب العدالة والتنمية، وكاتب الدولة في التعليم العالي السابق ما وقع بـ”الحدث الخطير والغير مسبوق”، بل اعتبره محرج للمغرب بلدا ومؤسسات. حيث كتب بهذا الشأن ما يلي : ” ما حدث يذكرني برفض الإدارة تسليم شهادة التخرج للمرحومة سمية بن خلدون من مدرسة للمهندسين بدعوى أنها تلبس الحجاب، وهو في نظر إدارة المؤسسة آنذاك شعار سياسي، حتى رفعت دعوى قضائية في الموضوع فحصلت على شهادتها بقوة القانون الذي رد الامور إلى نصابها في هذه المؤسسة وغيرها إلى اليوم. وليصبح هذا الحكم القضائي سندا لكل من يمكن أن تتعرض لهذا الحيف والظلم في أي مؤسسة من المؤسسات العامة أو الخاصة، جعل الله ذلك في ميزان حسناتها، ولتصبح المهندسة سمية فيما بعد وزيرة منتدبة مكلفة بالتعليم العالي بلباسها الذي اختارته يوم أن كانت طالبة وسبحان مبدل الأحوال.” وزاد الصمدي قائلا: “وتحت نفس الشعار وبنفس العلة وفي ظل الإبادة التي تمارس على رؤوس الاشهاد اليوم في حق شعب أعزل محاصر، يرفض عميد كلية توشيح طالبة مغربية في حفل تخرج في مؤسسة جامعية مغربية وهي تتضامن بطريقتها الخاصة مع بلد كما فعل الطلبة في جامعات العالم بحمل الشال الابيض والاسود على كتفها، مقتنعة أن فعلها منسجم تماما مع سياسة بلدها الذي يرأس أمير المؤمنين فيه لجنة القدس، ويصدر بلاغات تضامنية عن وزارة الخارجية مع الشعب وصموده ويدين الانتهاكات الجسيمة التي يرتكبها الكيان، بما فيها هدم جامعات مغربية في القطاع وقتل آلاف الاساتذة الباحثين بدم بارد.” وتساءل كاتب الدولة السابق المكلف بالتعليم العالي والبحث العلمي، ” فهل يرفض العميد بسلوكه الغريب هذا سلوك الطالبة أم سياسة بلد برمته؟ وما هي الرسالة المعاكسة التي يريد أن يبعثها ولمن؟” . في حين أصدر مكتب الفرع المحلي للنقابة الوطنية للتعليم العالي بيانا عبر فيه عن “استنكاره الشديد لسلوك عميد كلية العلوم ابن امسيك”، معلنا تضامنه اللامشروط مع الطالبة المتفوقة التي تعرضت للاستفزاز من قبله. وشدد البلاغ على أن حمل الكوفية الفلسطينية يعتبر مفخرة للطالبة ولذويها تنضاف إلى تفوقها الدراسي، داعيا إلى “اتخاذ موقف حازم تجاه هذا السلوك الشاذ من قبل عميد كلية العلوم“. وفي نفس السياق عبر مكتب الطلبة بالمدرسة ذاتها، في بيان تم تداوله على نطاق واسع، عن استنكاره لهذه الواقعة معتبرا أن الأمر ينطوي على “إهانة للقيم الأكاديمية والإنسانية التي تقوم عليها المؤسسات التعليمية.
لكن مختلف هذه المواقف والتدوينات تثير تساؤلا عريضا وهو ألا يفتح ارتداء الرموز الدينية والسياسية في المناسبات العلمية والأكاديمية الباب مشرعا أمام “أدلجة” الفضاء الجامعي ويفتح المجال أمام أطراف أخرى لاستغلال هذا الفضاء لتمرير مواقفها والترويج لأطروحاتها بما فيها تلك التي تتعارض مع الوحدة الترابية للمغرب. “فالاعتراف بحق هذه الطالبة في التعبير عن موقفها يفترض بهذا المعنى وبهذا المنطق الذي تبناها المدافعون عن هذا الحق، ليس فقط الاعتراف أيضا للعميد بحقه في رفض تسليم الجائزة للطالبة المتشحة بالكوفية؛ بل وأيضا لجميع الأطراف بما فيها الأطراف الانفصالية بحقها في استغلال الفضاءات العلمية والجامعية من أجل ضرب الوحدة الترابية للمغرب ، وكذا للأطراف المناصرة للمثلية إلى غير ذلك من التمظهرات الأيديولوجية بكل أشكالها وأطيافها المحلية والأجنبية.
الحرم الجامعي بين الاستقلالية والفراغ التشريعي
من المعروف أن فترة الستينيات والسبعينيات تميزت باضطرابات طلابية مهمة انعكست من خلال الإضرابات والاعتصامات الطلابية. ورغم بعض التدخلات الأمنية التي كانت تنتهك من وقت لآخر الحرم الجامعي، فقد كان عدم التدخل هو السلوك الأمني السائد في هذه الفترة. لكن مع بداية فترة ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، تزايدت تدخلات قوى الأمن وسجلت اصطدامات بين قوات التدخل السريع والمتظاهرين من الطلبة داخل الحرم الجامعي. ولعل تكاثر هذه الظاهرة يرجع بالأساس إلى الاصطدامات العنيفة والدامية التي عرفتها بعض الكليات (خاصة كليتي الحقوق بفاس ووجدة) بين التيارات الأصولية واليسارية الراديكالية داخل الجامعات والحرص على ردعها واحتوائها.بالاضافة إلى ذلك تميزت هذه الفترة العصيبة من تاريخ الجامعة بالمغرب بضعف استقلالية الطاقم المسير للجامعات ومختلف المدارس العليا. وقد أدى تكاثر هذه الظاهرة واستمرارها إلى انعدام المناخ الفكري الملائم داخل الجامعات وتقطع النشاط الجامعي نتيجة الإضرابات ومقاطعة الطلبة للدراسة لانعدام الشعور بالأمان لدى الطالب والتخوف من أن يكون ضحية أي انتهاك لحرمة الجامعة.
وبالتالي، فأي استقلالية للجامعة ومدارسها العليا لابد أن تقوم على أسس فكرية وتنظيمية:
* فالأسس الفكرية تتمثل في تكريس الحق في حرية الرأي والتعبير كما هو منصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كحق كوني وغير قابلة للتجزيء، و حق الشخص ، بما فيه الطالب في اعتناق الآراء دونما قيد أو تضييق . فالجامعة تبقى فضاء مفتوحا على جميع الأفكار؛ ومجالا لتطارح التصورات والمواقف بشكل موضوعي وعلمي يحترم مختلف الآراء ويفسح المجال للنقاش الرصين والعقلاني وليس لدغدغة العواطف وتمرير المواقف السياسية والايديولوجية. وبالتالي ، فموضوع واقعة الطالبة السالفة الذكر هي مناسبة لمناقشة أفكار علمية والاحتفاء بالمتفوقين أكاديميا، وليست مناسبة لارتداء القبعات السياسية أو لتمرير خطابات ومواقف معينة ضد السياسة الخارجية للدولة وضد مواقف بعض مكونات المجتمع المدني التي لها الحق هي الأخرى إذا ما فتحنا هذا الباب من أجل استغلال مثل هذه المناسبات لتمرير مواقف وارتداء رموز تناهض هذه الخطابات.
* الأسس التنظيمية تقوم بالأساس على ضرورة تقعيد استقلالية الجامعة بإطار تشريعي وقانوني واضح ومحدد. ولعل الفراغ التشريعي بهذا الصدد هو ما سمح بحدوث هذه الواقعة التي تحولت إلى جدل سياسي واجتماعي. فالجامعات والمؤسسات التعليمية في المغرب ما زالت تؤطرها قوانين داخلية لا تتضمن أي مقتضى أو نص قانوني يمنع الطلبة من ارتداء نوعية خاصة من اللباس أو الاتشاح برموز دينية أو سياسية معينة. لذا ،فإن عميد المؤسسة الجامعية المعني بهذه الواقعة ليس من حقه أن يفرض أو يمنع أي طالب أو طالبة من ارتداء الكوفية أو أي لباس آخر لا تمنعه القوانين الداخلية للمؤسسات الجامعية .فارتداء “الكوفية” لا تمنعه الوزارة الوصية ولا قوانين المؤسسة التي احتضنت الحفل موضوع النقاش. ولعل هذا ما جعل البعض يعتبر تصرف هذا العميد اجتهادا فرديا لا يجد له أي سند قانوني في القوانين الداخلية للجامعات والمدارس العليا بالمملكة التي لا تحظر ذلك، خاصة أن الأمر يتعلق بفضاء عمومي مفتوح. في حين استنكر البعض الآخر مصادرة حق المسؤول الجامعي في التعبير عن مواقف وقناعاته الشخصية إسوة بالطالبة، حيث يمكن أنه اعتبر الكوفية ترمز إلى صراع عسكري في الشرق الأوسط لا علاقة للجامعة المغربية به، باعتبارها وسطا منفتحا على هموم محيطه السيوسيو-ثقافي .وبالتالي ، فقد آن الأوان لبلورة إطار تشريعي يحدد ضوابط خاصة تتعلق باللباس المسموح بارتدائه داخل الحرم الجامعي سواء من طرف الطلبة أو الأساتذة أو الطاقم الإداري يحترم حرمة الفضاء الجامعي سواء الفكرية والعلمية وخصوصيته التنظيمية كفضاء مفتوح وحر ومتعدد.
تعليقات الزوار ( 0 )