الاستعمار الفرنسي الجديد في أفريقيا وفشل حرب “الإرهاب”
توج قرار الانسحاب الفرنسي من مالي سلسلة من الفشل الذريع للتدخلات الفرنسية في منطقة الساحل والقارة الأفريقية عموماً بذريعة محاربة “الإرهاب”. ويعطي الانسحاب إشارة إضافية على فشل سياسات الرئيس الفرنسي ماكرون النيوكولونيالية، لكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رفض بـ”شكل كامل” الحديث عن “فشل” بلاده في مالي، أثناء مؤتمر صحفي في 17 فبراير 2022، حول الوضع في مالي على هامش مؤتمر أوروبا- أفريقيا المنظم من قبل وكالة التنمية الفرنسية في العاصمة باريس.
في معرض رفضه لوصف التدخل الفرنسي بالفشل، قال ماكرون: “ماذا كان سيحدث في 2013 لو لم تتدخل فرنسا؟ كنا سنشهد بالتأكيد انهياراً للدولة المالية”، مؤكداً أن “جنودنا حققوا نجاحات عديدة”، بما في ذلك القضاء على أمير تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في يونيو 2020. لكن نظرة خاطفة على مسار حرب “الإرهاب” الفرنسية في أفريقيا تؤكد على تنامي الحركات الجهادية المصنفة منظمات إرهابية وتوسع نطاق انتشارها في القارة، كما أن أفريقيا لم تعد بالنسبة لفرنسا إقليماً استعماريّاً سابقاً تحظى فيه باريس بالأولوية والتمكن، بل إن الوضع الأمني في الساحل الأفريقي صار جزءاً من الاستراتيجية الفرنسية في العالم، وكون الصين أول شريك اقتصادي لأفريقيا أصبح عاملاً مؤرقاً للساسة الفرنسيين.
على صعيد محاربة “الإرهاب” كان تنظيم القاعدة يعاني من حالة ضعف في مالي والساحل في 2012، وكان تنظيم “أنصار الدين” التنظيم الأقوى، وهو جماعة محلية لم تكن مرتبطة بالقاعدة، وقد سيطر على مدن” تمبكتو، وكيدال، وغاو” في شمال مالي، معلنا إقامة “إمارة إسلامية”، غير أنها سقطت بتدخل عسكري فرنسي عبر عملية “سرفال”، وعندما تشكلت عملية “برخان” في 2014 وهي قوات فرنسية حلت محل “سرفال”، وأعلنت أن هدفها مكافحة الإرهاب في مالي وبوركينا فاسو وتشاد وموريتانيا والنيجر وقوامها ما بين 3000 و4500 مقاتل.
أدى النهج الفرنسي لمكافحة “الإرهاب” إلى تنامي الحركات الجهادية التي أصبحت أكثر قوة وتبنت نهجاً أشد راديكالية، وباتت منقسمة بين تنظيمي “القاعدة” و”الدولة الإسلامية”. وحسب مايكل شوركين أثارت العمليات العسكرية الفرنسية في منطقة الساحل بأفريقيا العديد من الانتقادات والأسئلة، والتي بدورها تستعيد إرث الجيش الفرنسي من العمليات الاستعمارية ومكافحة “التمرد” منذ القرن التاسع عشر وحتى انتهاء الحرب البادرة. وقد تأسس هذا الإرث على مقاربات تركز على التغلغل داخل المجتمعات، اعتماداً على الإجراءات الاقتصادية والنفسية والسياسية، والتي تهدف إلى تعزيز شرعية النظام السياسي الاستعماري، وليس التركيز فقط على الإجراءات العسكرية.
لذلك، رأى العديد من المحللين أن فرنسا تقترب من أفريقيا من خلال عدسة استعمارية (جديدة)، وليس كما تدعي الحكومة الفرنسية، مجرد الدفاع عن الدول الصديقة من الإرهابيين الإسلاميين. ويؤكد منتقدو التدخلات الفرنسية في أفريقيا على الاستمرارية بين السياسات والممارسات الاستعمارية والاستعمارية الجديدة، ناهيك عن أن النهج الفرنسي تجاه منطقة الساحل مُفرِط في التسلح، بما يحاكي النمط الأمريكي في مكافحة الإرهاب (وهو نمط لم يثبت نجاعته في تجارب عدة)، وكأن “عملية برخان” تتبع مسار الحرب الأمريكية في أفغانستان.
عندما دشنت فرنسا عملية “برخان” في 2014 كانت القاعدة المنظّمة الوحيدة المصنفة إرهابية الموجودة على أراضي منطقة الساحل الأفريقي، وذلك عن طريق جناحها المعروف باسم “القاعدة في المغرب الإسلامي”، وسرعان ما ظهر نهج جهادي شكل طفرة في تاريخ الحركات الجهادية، حيث ظهر تنظيم في الصحراء الكبرى.
نما نفوذ تنظيم الدولة في أفريقيا منذ 2014، وتشكلت ستة فروع أفريقية تابعة لتنظيم الدولة في أفريقيا، بدأت الثلاثة الأولى في عام 2014 في ليبيا والجزائر ومنطقة سيناء في مصر، وبعد ذلك بعام، تشكلت ولاية غرب أفريقيا الإسلامية ولها فروع في حوض بحيرة تشاد والساحل، ثم بايعت جماعة صغيرة في الصومال تنظيم الدولة في 2018، وبعد عام في 2019 تشكلت ولاية “وسط أفريقيا” الإسلامية، في موزمبيق وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وبحلول عام 2019، شهدت 22 دولة أفريقية على الأقل نشاطاً مشتبهاً مرتبطاً بتنظيم الدولة، وهو ما أدى إلى طفرة في العنفِ الجهادي في المنطقة، في ظلِّ امتداد العنف من شمال مالي، إلى وسط الدولة، وشرقاً إلى النيجر، وجنوباً إلى بوركينا فاسو، وصولاً إلى خليج غينيا.
أحد نتائج عملية “برخان” هو توسع تنظيم القاعدة، حيث توحدت حركات جهادية عديدة وأعلنت ولاءها عام 2017. فقد تشكَّلت “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” من تحالف جماعات: “أنصار الدين” و”جبهة تحرير ماسينا” و”تنظيم المرابطون” و”إمارة منطقة الصحراء”. وقد نفذت الجماعة 640 هجوما من 2017 إلى 2020، أي 64 في المائة من العمليات في الساحل والصحراء.
وحسب كولن كلارك فإن هذا التمدد الجغرافي يكشف أن التنظيمات الجهادية في الساحل والصحراء تتمتع بديناميكية وقدرة على الاستقطاب في مجتمعات محلية مدججة بالصراعات القبلية المعقدة، وتلك هي أبرز السمات المعتادة لتنظيم الدولة الذي يبحث دائما عن المساحات التي لا تحكمها حدود طبوغرافية، وحافلة بالعناصر البشرية الناقمة، والبيئة الرخوة التي تتكيف معها وتحولها إلى بؤرة تجنيد ومركز هجومي.
إن الفشل الفرنسي في محاربة الإرهاب في أفريقيا موثق بصورة لا جدال فيها، فحسب التقرير السنوي الأخير حول الإرهاب العالمي الذي تصدره الولايات المتحدة الأمريكية، فقد ارتفع عدد الهجمات الإرهابية، وإجمالي عدد القتلى الناتج عن تلك الهجمات بأكثر من 10 في المائة في عام 2020 مقارنة بعام 2019.
وتعكس هذه الأرقام جزئيا انتشار فروع وشبكات تنظيم الدولة وتنظيم القاعدة، ولا سيما في أفريقيا حيث زادت الجماعات الموالية لتنظيم الدولة من حجم وخطورة هجماتها غربي القارة، وعلى الساحل وحوض بحيرة تشاد وشمال موزمبيق، إذ تضاعف عدد القتلى من جراء الهجمات المرتبطة بتنظيم الدولة في غرب أفريقيا من حوالي 2700 في عام 2017 إلى ما يقرب من 5000 في عام 2020. ويفيد التقرير بأنه في موزمبيق، قُدّر عدد الوفيات بسبب هجمات داعش بنحو 1500 شخص، ويشير التقرير إلى أن القاعدة عززت وجودها في أفريقيا عن طريق “حركة الشباب في القرن الأفريقي” و”جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”.
ووفقا لتقرير مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية في واشنطن، الصادر في أيلول/ سبتمبر الماضي، فإن “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، ولا سيما جبهة تحرير ماسينا -عضوة الجماعة- باتت أكثر التنظيمات نشاطا في منطقة الساحل التي شهدت زيادة في العمليات الإرهابية 33 بالمئة بدايةً من عام 2020، وهو تصعيد قياسي للعنف منذ 2016. وحسب التقرير فإن منطقة الساحل شهدت 1552 نشاطا إرهابيا في 2021، بزيادة 16 ضعفاً مقارنة بعام 2020، نتيجة عمليات “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” الموالية لتنظيم القاعدة. ورفعت أحداث العنف معدل الوفيات الناجمة عن النشاط الإرهابي بنسبة 20 في المائة في 2021 إلى أكثر من 2400 حالة وفاة.
عمل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ تنصيبه على رأس قصر الإليزيه على إيجاد مقاربة للسياسة الخارجية مختلفة مقارنة بسابقيه، بدأت الأمور على نحو إيجابي للغاية. فأين مكمن الخطأ؟ ولماذا تبدو فرنسا الآن غير مرحّب بها شعبيا في أفريقيا؟ يتساءل بول ميلي، رغم أن ماكرون زاد مقدار مساعدات بلاده إلى القارة السمراء؛ وبدأت عملية إعادة الآثار المنهوبة إبان الحروب الاستعمارية. وعزز ماكرون العلاقات مع ما هو أبعد من الحكومات (مع منظمات المجتمع المدني في تلك الدول)، كما أبقى على قوات فرنسية في منطقة الساحل الأفريقي لمكافحة المسلحين الجهاديين. ودعم الرئيس الفرنسي التكتّل الاقتصادي لدول غرب أفريقيا “إيكواس” في محاولاته للدفاع عن سياسة الانتخاب في مواجهة هيمنة العسكريين، كما سافر ماكرون هذا العام إلى رواندا، للإقرار علانية بفشل فرنسا في القيام بمسؤولياتها حيال الإبادة الجماعية التي وقعت عام 1994.
ورغم كل ذلك، تعدّ فرنسا الآن هدفا لسهام مظلوميات أفريقية مريرة، وللانتقادات على نطاق ربما غير مسبوق. فالمقاربة الفرنسية لأفريقيا لا تزال تتعامل مع القارة السمراء بمنظور فوقي واستعماري، ولم تساعد الدول الأفريقية على تبنِّي أنظمة ديمقراطية وبناء مؤسسات حقيقية نزيهة وقادرة على إشراك المواطنين في صنع القرار، بالإضافة إلى وقوفها حجر عثرة أمام تفعيل المؤسسات الأفريقية الداخلية.
إن مبادرات ماكرون في أفريقيا لا تعدو عن كونها مبادرات نيوكولونيالية، فالاستعمار بنية وليست حدثاً عابراً وهو عملية مستمرة. فحسب كريسبو ديالو، استخدمت فرنسا منذ فترة طويلة نهج الهيمنة في تعاملاتها مع مستعمراتها السابقة في القارة الأفريقية. بدأ ذلك مع مؤتمر برازافيل عام 1944، الذي عُقِد دون حضور الأفارقة، رغم أنه كان من المفترض أن يناقش مستقبل ما يسمى بأفريقيا الفرنسية.
منذ ذلك الحين، ظلت فرنسا هي المكان المفضل لمناقشات الإشكاليات والأزمات الأفريقية؛ حول الديمقراطية (لابول، يونيو 1990)، والقضايا الأمنية (قمة باو، يناير 2020)، وتمويل برامج التنمية (قمة باريس حول تمويل الاقتصادات الأفريقية، ماي 2021)، وغيرها. وفي الوقت نفسه فإن معظم قرارات الأمم المتحدة بشأن أفريقيا الناطقة بالفرنسية قد تأثرت أو رعتها فرنسا.
لقد جاءت قمة أفريقيا- فرنسا الجديدة في سياق استعماري واستعماري جديد، وفي وقت يزداد فيه عدد المهاجرين الأفارقة داخل فرنسا، وبالتالي يزداد الالتفات إلى أصواتهم في الانتخابات الفرنسية. كما تأتي القمة في وقت وصلت فيه الآليات التقليدية للحفاظ على الهيمنة الإمبراطورية الفرنسية إلى مداها، فالتدخل العسكري، مثلما حصل في عملية “برخان” في مالي، بات مكلفاً وغير حاسم ولا يحظى بشعبية كافية، كما أن سياسة التحالف مع الحكام المخلصين للمصالح الفرنسية، فسياسات فرنسا تجاه أفريقيا في عهد ماكرون لم تتطور قط لصالح الدول الأفريقية، لكنها -على العكس من ذلك- تواصل زيادة نفوذها الاستعماري الجديد بشكل استراتيجي لمحاربة الانتقادات المتزايدة، وهو الأمر الذي يتضح أكثر عند النظر إلى الاحتجاجات التي تشهدها العديد من من المناطق الفرانكفونية، من احتجاجات الشباب السنغالي والكوت ديفواري إلى الشباب المالي الذي شارك في احتجاجات مالي الأخيرة ضد الوجود العسكري الفرنسي.
خلاصة القول أن الانسحاب الفرنسي من مالي يشير إلى مسار من الفشل في الحرب على “الإرهاب”، وهي تسمية دالة على ذرائع ديمومة الهيمنة الاستعمارية، لكن الانسحاب من مالي لا يعني الخروج من القارة الأفريقية، فالقوات الفرنسية انسحبت فقط من مالي وليس من منطقة الساحل، حيث لا تزال منتشرة في النيجر ولها قواعد في المنطقة وأفريقيا ككل. ومع ذلك فعلامات الفشل الفرنسي ظاهرة، فقد دعا تقرير صادر عن مجموعة الأزمات الدولية إلى “تصحيح المسار” في نهج فرنسا، مشيراً إلى أن العديد من داعميها الدوليين وحتى بعض المسؤولين الفرنسيين “محبطون من نتائج خطط ماكرون إلى حد كبير”، فالمشاعر المعادية لفرنسا في الساحل الأفريقي تتصاعد، وهي إحدى القضايا التي وعد ماكرون بمعالجتها في قمة باو العام الماضي، لكن لم تتحسن على الإطلاق، ذلك أن جميع مبادرات ماكرون في السياق الفرنكوفوني الأفريقي، لا تعدو عن كونها محاولات لإطالة عمر النفوذ الغربي وبالأخص الفرنسي في القارة، وأحد مظاهر الاستعمار الجديد.
… الحرب على الارهاب غطاء للسيطرة على مناجم الذهب