“منظومة الفساد أكبر من الدولة”، كلمة علل بها رئيس وزراء لبنان استقالة حكومته يوم 10 غشت 2020 بعد 6 أيام من انفجار بيروت غير المسبوق في حجمه وخسائره في الأرواح والممتلكات، وتدميره لما تبقى من هيبة الدولة اللبنانية أمام اللبنانيين والعالم.
تجنب رئيس الوزراء اللبناني المستقيل تسمية أو تحميل أي أحد مسؤولية ما حدث، سواء باعتباره شخصا ذاتيا أو بصفته الاعتبارية، بل اكتفى بوصف الفساد بأنه “”منظومة متجذرة في كل مفاصل الدولة”، بل أنه تحاشى السير على نهج الرئيس المصري الجنرال عبد الفتاح السيسي الذي اختصر ظاهرة الفساد في مصر بجماعة الإخوان المسلمين بصفة أساسية بإعلان الحرب الشاملة ضدها؛ في الوقت الذي يسيطر فيه الجيش المصري على أكثر من 60% من مصادر معيشة المصريين والاقتصاد المصري المنتج، وسيطرته في الوقت نفسه على مفاصل الإدارة المصرية كما هو معروف، كما تجنب كذلك تطبيق منهجية الحكم السعودي والإماراتي، المسيطر على ثروة البلاد دون منازع، والتصرف فيها دون حسيب أو رقيب؛ لكنهما وجدا في تهمة الرئيس السيسي للإسلاميين غير السلفيين الوهابيين بالفساد والإرهاب متنفسا لهما لمواجهة خصومهما السياسيين، وتهربا في الوقت نفسه من تحملهما مسؤولية تبذير أموال مجتمعات خليجية، واستعمالها في الفساد والإفساد ما دامت سلطة المحاسبة غائبة أو مغيبة.
من أهداف عدم مواجهة الفساد إلا لغايات سياسوية
واكتفى آخرون بالتوقف عند طرح أسئلة استنكارية على إهدار ثروة الوطن، وحرمان السواد الأعظم من المواطنين أو الرعايا منها، والاعتراف بوجود الفساد، دون الاقتراب إلى تفعيل قوانين المحاسبة التي تنص عليها الدساتير السارية في دولهم والقوانين التي يقال إن العمل يجري وفقها.
ولجأ البعض الأخر إلى معاقبة بعض الشخوص الذين وُجِّهت إليهم وسائل إعلام معينة تهم الفساد والإفساد. وقد يكون ذلك مجرد حديث عن قمة جبل الجليد، الذي تبقى دواخله واغواره عصية عن إدراك كنهها، لأن الهدف الأساسي من ذلك العقاب بمثابة تعبير عن تصفية حسابات سلطوية وسياسوية بين القوّى المتصارعة على النفوذ والسلطة والريع.
ويبدو، من جانب آخر، أن الهدف الأساس لإعلان تقديم المفسدين إلى العدلة يرمي إلى إخماد احتجاجات الشارع العام ضد الفساد والمفسدين بالتحايل عليهم، ونشر المغالطات بين صفوفهم، ودفع القضاء إلى إصدار أحكام قاسية ضد المحتجين ضد الفساد والإفساد، بدعوى أن الاحتجاجات تهدد وحدة الدولة الوطنية التي ضحى من أجلها الوطنيون، وكأن المحتجين ليسوا وطنيين. والإيحاء بأن المشاركين في الاحتجاجات يشكلون خطرا على سلامة التراب الوطني، وأنهم يخدمون أجندات أجنبية، أي أنهم خونة للوطن والوطنية؛ وتوظيف ذلك كشعار ذهبي واضح جدا في غموضه لتبرير مقولة “مصلحة الوطن فوق كل شيء”
هل أسباب سكوت الشعوب على الفساد مقنعة؟
لماذا أضحت فكرة الوطنية أو القومية، وشعار مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، بمثابة حصان طروادة للفاسدين، ومطية لاستغفال الناس الطيبين بشعارات يمكن إدراجها في خانة “كلمة حق أُريد بها باطل”؛ فهل أمست الشعوب مضطرة إلى أن تسكت عن الفساد في بلدانها لكون الاحتجاج على الفساد يصطدم بمشاعر وشعارات قداسة الوطن وترابه، التي يختفي وراءها الذين يعيثون في الأوطان فسادا، أم أنها مضطرة للسكوت تجنبا للزج بالمحتجين في غياهب السجون؟
صحيح، هناك دول لا تبالغ، إن قليلا وإن كثيرا، في معاقبة المحتجين في الشارع العام، خوفا من انعكاساتها على المستقبل السياسي للحاكمين. غير أن هناك دولا أخرى تصدر محاكمها أحكاما قاسية عليهم، لأن الجهات التي تتستر على الفساد وتحمي الفاسدين والمفسدين لديها بنك من التهم الجاهزة لتلصقها إلصاقا بكل من يحاول الاقتراب من أسوارها أو النبش في دفاترها.
وأمام هذا الواقع ضَعُفَ أمل البحث عن حلول حقيقية لتجاوز الفساد بمحاسبة الفاسدين؛ لأن أغلب أنظمة الدولة الوطنية تعايشت مع الفساد، وعاقبت من يفضح المفسدين، واكتفت تكرار رفع الشعارات نفسها التي سبق رفعها منذ عقود، وترسيخها في عقول الناس خاصتهم وعامتهم. الأمر الذي جعل الكثير من الناس يعتادون على التعامل مع الفساد بجميع أنواعه ومراتبه.
تأكد بالتجربة أن الدول الوطنية لم تستطع تحقيق طموحات الشعوب في العدالة والكرامة وانتصار ثقافة مجتمع القانون على ثقافة المحسوبية، أو ثقافة الامتيازات الممنوحة والريع؛ فما هو الطريق الذي يمكن أن يساعدنا على النهوض من عثراتنا، وهل الانتقال من مرحلة الدولة الوطنية إلى مرحلة دولة المواطَنة هو الحل؟
بين الدولة الوطنية ودولة المُواطَنة
يتذكر الكثير من أبناء جيلي أن قيام الدول الوطنية كان يعني من بين ما يعني تحقيق المُواطَنة Citoyenneté، لكن تبين لنا لاحقا أن مصطلح الوطنية (Patriotisme) يعكس أساسا الشعور بالانتساب إلى جماعة إنسانية لها مقوماتها الخاصة بها، ومصالح مشتركة لأعضائها، وتستوطن قطعة جغرافية معينة، لها حدود معترف بها، ولها قيم وتقاليد ثقافية خاصة بها. وتتجسد تلك الوطنية في دفع الضرر عنها والتضحية من أجل حمايتها من كل مكروه. وهذا ما قام به المواطنون Les Patriotes في زمن تعرض فيه وطنهم لخطر خارجي. لكن للوطنية في بعض فهومها الحديثة ارتباط قوي بـ”القومية” (Nationalism)، التي يمكن تلخيص تعريفها في اعتماد أو تبني أمة ما نظام سياسي واجتماعي واقتصادي يحافظ على مصالح تلك الأمة، وعلى الهوية التي تعكس الخصائص المشتركة لها، المكونة بصفة أساسية في العرق، والثقافة، واللغة، والدين، والأهداف السياسية المرتبطة بمفاهيم تقرير المصير.
احتمالات نجاح المواطَنة فيما أخفقت فيه الدولة الوطنية
إن الذي يتابع الوئام الذي تتمتع به الدول التي تحترم حقوق مواطَنة مواطنيها وتستمع إلى احتجاجات ساكنتها بصفتهم مواطنين حقيقيين وليسوا خونة للوطن ووحدته الترابية تجب معاقبتهم بأقسى العقوبات السجنية والمعنوية، يتمنى أن يرى دولته الوطنية يسودها ما يسود تلك الدول. والأمر لا علاقة له بأي معجزة وإنما بدولة المؤسسات ، ودولة التزام القانون الذي يعلو ولا يعلى عليه.
والكل يعرف اليوم أن ما تتمتع به دول في العالم من وئام وتناغم هو نتيجة لمنهجية القضاء على الفساد والمفسدين والظلم وسياسة الارتشاء؛ وكم تتمنى ساكنة أنظمة دول وطنية تعاني من الظلم السياسي، والفساد الإداري والمالي والاقتصادي والرشوة، والتخلف الاجتماعي والثقافي غير المبرر، أن تقتدي تلك الأنظمة بها. لكن يجب التنويه بأن ما وصلت إليه الدول التي يرتجى الاقتداء بها لم يأت من فراغ، وإنما بعد أن تجاوزت أنظمتها المقتضيات النصية لقوانين دولها إلى ترسيمها في ممارسات مؤسساتها وإداراتها وجميع أجهزتها ممارسة فعلية على أرض واقع مواطنيها، وليس مجرد حبر على ورق، وشعارات أكل عليها الدهر وشرب و…
أما أهم دلالات المواطَنة فتنعكس حسب رأيي في:
ـ الدمقراطية كنظام سياسي يحترم إرادة الناخبين في اختيار حكامهم بواسطة انتخابات غير متحكم فيها.
ـ تحقيق الأمن الاقتصادي والاجتماعي والنفسي للمواطنين، أي الأمان لكل الناس، بتحقيق الدولة حماية ساكنتها في معاشهم وصحتهم وتعليمهم، وقضاء ما يخوله لهم القانون دون ما حاجة إلى رشوة أو محسوبية من أي نوع كانت.
ـ الشعور بالاطمئنان على ثروة الوطن وأمواله وممتلكاته، ومساواة المواطنين في الحقوق والواجبات وفي تحقيق تكافؤ الفرص في وطنهم.
ـ إلغاء كل أنواع التمييز بين المواطنين بناء على العرق أو الدين أو اللغة أو الجهة الجغرافية.
ـ لا سلطة إلا سلطة القانون الذي يعلو ولا يعلى عليه. ولا دولة إلا دولة المؤسسات الفعلية.
حين يتحقق تطبيق المواطنة الفعلية في أي دولة من الدول فإن الفساد لن يصبح ” منظومة متجذرة في كل مفاصل الدولة”. وحينئذ تتحول الدولة الوطنية إلى دولة المواطَنة كذلك، ولن نكون بحاجة إلى ترديد عبارة “دولة الحق والقانون”؛ لأن تحقيقها في الواقع سيستغني عن تكرار ترديدها الذي يمكن أن يكون مجرد تعويض لفظي عن غيابها في واقع حياة الناس.
*مفكر مغربي مقيم في كندا
تعليقات الزوار ( 0 )