شارك المقال
  • تم النسخ

الفردانية بداية النهاية.. بداية انقراض المجتمع الإنساني على يد “الأنـا”

عالم وردي جميل لا ينقصه أي من الاحتياجات والمأمولات التي توفر رغد الحياة، والكثير الكثير من  العناية ب”الأنا”، وكل ما سوى ذلك “لا يهم” !

إن هذا الاتجاه، حول سعي الإنساني وجهوده من مسار البحث عن الحلول الجماعية، للإغراق في تحسيس الطريق المؤدية لنجاة الفرد فقط، في صورة نقيضة تماماً لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَراحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكى منْهُ عضوٌ تداعى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والحُمّى”[1]، فهل يعبر الشعور الجمعي اليوم عن حالة من التراحم، أم أنه منشغل في علاج الحُمّى ؟

عاشت المجتمعات الإنسانية تجمعاً واتحاداً في الفكر والمسعى، صانعةً “أقطاباً” متنوعة في انتماءاتها ، وأهدافها الكبرى، وهذا كله قبل أن تذوب تلك الشمعة وتلمز “الفردانية” بضوء ساطع بات يتسلل للفكر الإنساني منذ نعومة أظفاره، عازفاً عن المشاركة في الأهداف الجمعية، ومتقوقعاً “بشراسة” على التطوير الذاتي، والنهوض بالمهارة الذاتية، والكسب الشخصي، والمهارات الفردية، والجري وراء غاية السعادة، وارتشاف ملامحها من خلال هطول ثقافي جديد لا يأبه إلا بحدود الذات الإنسانية، دون الالتفات لحقيقة وجود غيرها. وربما الذي ساعد في تضخم الفردانية في الأوساط العربية دون غيرها وعلى غير المعتاد، أن ذلك مثل رد فعل غير مباشر على الظروف السياسية المتقلبة التي عاشتها المنطقة، و”التقلصات” الاقتصادية، بالإضافة لحالة من الإحباط المتعلق بالوضع المعيشي، وتنامي معدلات الهجرة التي لطالما ارتبطت في ذلك الوقت بتحقيق نجاح فردي غير مسبوق، والارتقاء بالوضع المعيشي، والمكانة الاجتماعية، والتقدير والاحترام في ذلك الوسط.

إن الانغماس في “لذة النزعة الفردانية” حتى الثمل، سيؤول بلا شك لتضاعف المظاهر الاجتماعية والانعكاسات الاقتصادية المؤلمة والقاسية، منتجةً مزيداً من الفقر والتشرد والجوع، كما ستعمل على محق “الطبقة الوسطى” في المجتمعات بصورة لا يمكن أن تتشابه إلا وعصر الإقطاع! وعلى مستوى التكوين المجتمعي، فلن تكتفي هذه النزعة الموحشة إلا بتمزيق جسد الأسرة، وإلغاء ملامح الترابط القبلي والأسري الذي كان أحد المواثيق الغليظة في المجتمعات، سيما أن “الفردانية” تضرب كل أساسات التكافل والتعاون والتضامن الإنساني، مما يعني مضاعفة التحديات وازدياد الأعباء على الحكومة، وتراجع مظاهر الرفاه والعيش السوي داخل المجتمع.

وفي حين يخيل لأحدنا أن مثل هذه الظواهر والاتجاهات الفكرية وترجماتها السلوكية تقتصر على فئة محددة وبالتالي فهي ذات أثر محدود، تهرول اليوم ملامحها بكيفية لا تؤثر على تكوين هذا الكوكب الاجتماعي الذي أفرز نماذج “مترهلة”، ومفككة فحسب،  بل تمتد لكبرى التحديات التي تتناطح والعقول القاطنة على هذا الكوكب، والتي يعد خطر التدهور البيئي أحدها، فالفردانية مغرقة بالاستهلاك اللامسؤول، والفائض عن الاستهلاك الضروري أو اللازم، إذ ارتفع استهلاك الطاقة عالميًا بنحو 5.8% خلال العام الماضي (2021)، ليتجاوز مستويات ما قبل وباء كورونا بحسب التقارير، مع أن كوكبنا الأرضي خلال تلك الجائحة صدح بأعلى نداءاته، مؤكداً على ضرورة التناغم والتراص الإنساني في الحد من كل التحديات والطوارئ.

وبما أن الفردانية متعلقة بالفرد، فهل يمكن الدفاع عنها كحرية خاصة به؟ وكيف يمكن الإصغاء لأي من الترهات التي تقول بعدم ضرر الفردانية، أو اعتبارها تحت بند “الحريات” وهي لها ما لها من الأثر على الأمن الروحي والفكري والصحي والغذائي لكافة موجودات العالم، ففي الإمعان لتفاصيل نسب الهدر المتعلق فقط في الطعام لعام 2019، يجد تقرير الأمم المتحدة الدراس ل: “مؤشر نفايات الأغذية لبرنامج الأمم المتحدة 2021” أن 17 بالمائة من إجمالي الإنتاج الغذائي العالمي مصيره الاتلاف والهدر، مع أن ملايين البشر في ذلك الوقت كانوا يتطلعون بشوق لمضغ “حفنة أرز”!

نجحت السياسات الحديثة، والرسالة الإعلامية “المكثفة”، في تشكيل صورة ثقافية متوارثة بين الأجيال، تطمح على الدوام لتحقيق فردانيتها بمنئ عن العالم وضجيجه، فقد رسخت صور الشباب الساعي لتحقيق ذاته، أحاطته بمادة إعلامية وإعلانية دسمة تقوم على تمجيد الفرد وإعطائه دور البطولة باختلافه عن الكل، في الغاية والهدف وأسلوب الحياة، ممثلين نماذج “مخالفة” للنظام العام وهذه أحد الأسباب “الخطيرة” التي يمكن وضعها في قائمة دوافع التطرف والإرهاب التي تبنى على “رفض العالم” والواقع من حول المتطرف، ومحاولة فرض فردانيته بأي أسلوب يرتئيه! 

إن النزعة “الفردانية اللئيمة”، هي بداية النهاية لكل مستقبل خطط له الإنسان، وفتق بالٍ في مظلة الإنسانية، ولا بد من نزعه بدل رتقه، ونسج مظلة واسعة متينة من المشتركات الإنسانية وتعزيزها بكل ما أوتي الإنسان من قوة، سيما الثوابت التي رسخها الإسلام والمتجلية في صور التعاون والتراحم والإغاثة والتشاور وإعادة “حق العلماء” والفقهاء المسلوب من تفعيل لدورهم الحي في تقويم، ونقد السلوك المجتمعي، وإرشاده للبدايات المجدية، التي تنقذ أبنائنا من التطرف والتفسير الفردي للنص الشرعي، من خلال جسر ثابت من الثقافة الرصينة والفهم المتزن والنظرة المعتدلة. إلى جانب سن السياسات والقوانين الحيوية التي تنقل أفراد المجتمعات من عزلة الفردانية لبرحة الجمعية الرؤوم.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلم


[1]  الألباني (ت ١٤٢٠)، صحيح الجامع ٥٨٤٩ • صحيح • أخرجه البخاري (٦٠١١)، ومسلم (٢٥٨٦) واللفظ له • شرح رواية أخرى

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي