Share
  • Link copied

العفو من وجهة نظر فلسفية

 ماذا يعني العفو؟

إنه يعني التسامح الذي يصبح  فيه الضحية قادرا على نسيان الاعتداء الذي طاله من طرف المعتدي، قبل أن ينال هذا الأخير، العقاب الذي يستحقه، على  الجرم الذي اقترفته يداه،  وبعد أن يعبر عن الندم والتوبة بشكل يجعل منه شخصا آخر غير ذلك الذي كان.

إن السؤال عن معنى العفو يجد مشروعيته في حل معضلة بلوغ الألم إلى ذروته، بشكل متبادل بين الضحية والمجرم، فكلا طرفي القضية يكونان في قمة الإحساس بالألم، الذي أحدثته الجريمة في  الجاني، نتيجة  سيطرة الشر  على نفسيته وصراعه  ومقاومته ليقظة الضمير باعتبار الحالة الأصلية للفطرة البشرية كما أكد على ذلك الروائي الروسي العظيم فيودو دوستويفسكي في رائعته الجريمة والعقاب.

أو  من خلال ما يحدثه تحقيق العدالة وإيقاع العقاب أو الثأر. وما ينتج عن ذلك من  انفعال حزين يؤدي إلى الكراهية. لأنه لا يمكن مطلقا أن يؤدي العقاب حتما إلى محو  الجريمة. بل إن الذي يستطيع العفو يمتلك زمام المبادرة بعد أن كانت في البدء في يد الجاني، وبالتالي فإنه يلبى في هذه الحالة، الحاجة النفسية للضحية،

ورغبته في التخلص من الكراهية والحقد وإرادة  الانتقام، ويحقق له الامتلاء الأخلاقي  الهادف إلى محو الآثار السلبية المترتبة عن الاعتداء، ولهذا يكون الصفح محاولة  التغلب على فظاعة وبشاعة الشر. الكامن في النفس البشرية.

لكن هل يجب أن يقابل هذا الصفح والغفران ندم المجرم من خلال التكفير عن الذنب وطلب العفو ؟

يذهب الفيلسوف الفرنسي  جاك دريدا في كتابه ( الصفح هو ما لا يقبل الصفح والتقادم) الصادر عن منشورات المتوسط ؛ إلى أن العفو لا يكون عفوا خالصا إلا حين يكون صفحا عاما، لا يقبل الصفح.  لأن الصفح لا يخدم هدفا معينا ومتى كان له غاية فهو ليس صفحا.  لأنه لا يمكن التمييز بين الثقافة المدنية والدينية إلا بالصفح عن المذنب وإدانة الإساءة  أما الفيلسوف الفرنسي بول ريكور  رائد التيار التأويلي وفلسفة الهرمنيوطيقا، فيدعو إلى نوع من النسيان الذي يهدف إلى جعل  بناء ذاكرة سعيدة ممكنا. وهو موقف أكثر أخلاقية ومعقولية من مقولة الصفح من أجل الصفح. لأن هذا يؤدي بالضرورة إلى شرخ وجرح لا يلتئم. ويفقد العفو غائيته كآلية لتحقيق التسامح، ويصبح نتيجة لذلك بدون أية قيمة أخلاقية، لأن المجرم في هذه الحالة يمكن أن يكرر فعل الاعتداء.  كلما  تم الصفح عنه، بدون تحقيق المصالحة والعدالة. وهذا لا يمكن تحققه إلا بمحو آثار الجريمة.

وحتى لا يتولد في نفس الضحية ألما مضاعفا. إن العفو نتيجة لذلك يعني أن يهب الضحية أو المجتمع أو من  يمثله في شخص رئيس الدولة أو الحاكم للجاني إمكانية التصالح مع ذاته والرجوع إلى إنسانيته المفقودة، بأعمال الشر التي اقترفها المؤدية إلى خرق الطبيعة والفطر البشرية، التي فطر الله الناس عليها، ذلك أن الإنسان يولد على الفطرة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، أي أن الإنسان  يولد بريئا من أفعال الشر . ويبلغ العفو مداه حين يكون الضحية ممتلكا لسلطة العقاب والبطش ويتخلى عنها، بطواعية واختيار.

وخير مثال على هذا  الموقف ما قام به الرسول ص حينما دخل مكة عام الفتح وقال لأهلها ممن حاربوه وعذبوه، اذهبوا فأنتم الطلقاء، وكان بإمكانه البطش بهم. وإنزال العقاب عليهم ونتيجة لذلك  أمكن تحقيق المصالحة وتأسيس الأمة باعتبارها قامت على مبدأ نسيان الإساءة . مما ولد في نفوس القريشيين معاني الرحمة والتضامن. فانبعث الإيمان متدفقا في قلوبهم. بعد أن ملأه الكفر والحقد والثأر.

ولهذا فالصفح يؤدي بالضرورة إلى القضاء على الضغينة والشر، ويجعل المجرم صالحا والعدو وليا حميما. لكن العفو لا يؤدي نتيجته المرجوة أمام التعنث والإصرار،  لأنه في هذه الحالة سيؤدي إلى  ألم مضاعف للضحية، وإحساس بالظلم والخوف. لانتشاء الجاني بإفلاته من العقاب.

ولهذا فإنه يكون اللازم إقرار آلية أخلاقية وقانونية بحيث لا ينال العفو إلا من يستحقه ممن  عبر عن استعداده في  الاندماج في المجتمع. وعبر عن ندمه وتوبته وإقراره  بجرائمه وطلب الصفح والغفران. وعبر عن ذلك بأفعال وأعمال الخير، كتحصيل علمي، أو مهني أو سلوكى، يسجل في صحيفته، بكل أمانة.  تشفع له في رفع طلب العفو  إلى رئيس الدولة أو الحاكم أومن يملك السيادة ويعطيه القانون والدستور الحق في ذلك.

أما ان يفلت المجرم من عقابه ويخرج للإساءة من جديد، فإن العفو يكون في هذه الحالة  قد حقق عكس الهدف المنشود. ثم إن الأولى بالعفو من غيرهم  ممن يوصفون  في القانون الجنائي بمرتكبي الجريمة السياسية ممن ارتكبوا الجريمة أملا في تحقيق  أهداف نبيلة.. كرغبتهم في تحقيق الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية ، لأنهم وإن أخطأوا الطريق، إلا أنهم لم يقصدوا  أن يحققوا الأذى  للأفراد والمجتمع، وكانت مخالفتهم للقانون مخالفة عرضية وليست جوهرية.

ثم إن العفو في هذه الحالة يحقق أهدافه المنشودة  في رأب الصدع ولم الشمل وتحقيق المصالحة، خاصة في وقت الأزمات والكوارث، لأن كل أطياف المجتمع تنسى الأحقاد والضغائن وتنهض متضامنة من أجل مواجهة الأخطار من أجل الوطن والمواطن. 

وفي النهاية يمكن القول مع المفكرة (حنة آرندت) إن الصفح لفظ متلازم مع العقاب فلا يمكن الصفح قبل تحقيق العدالة وإدانة الجاني وقبل إنفاذ العقوبة.

*محام بهيئة القنيطرة

Share
  • Link copied
المقال التالي