الحقيقة المرة ،هي أن المشكل ليس في الاستبداد ،والطغيان المشكلة في الخنوع ، وقابلية الجموع للعبودية ، لأن هذه الجماهير هي من تصنع أزمتها، فمهما حدث فلن ينتفض الجسد ، الميت ، لأنه أصبح جثة هامدة ، فكما يقول المثل لا يضر ميتا إيلام .
لقد حاول الكاتب والمفكر الفرنسي إيتان دو لا بويسي” عام 1576م. تقصي”أسباب خضوع الناس لجهة أو سلطة لاتملك من القوة إلا ما منحتها لها الجماهير ”، وانتهى في كتابه العبودية المختارة ، إلى نتيجة مفادها أن “موافقة المُسترقّين وليست قوة الطاغية: هي التي تؤسس للطغيان. بل إن قبول الشعوب باسترقاقها المتأتي من رغبتها، ومن أنانيتها، ومن طمعها: هو الذي يتيح لواحد، تعضده شبكة رقيق ذات تسلسل هرمي ومتضامنة، هي من توطد حكم الفرد المطلق برضا الجميع.
حقيقةً، لا يختلف مضمون ما كتبه “إيتان دو لا بويسي” عن جوهر ما كُتبته حنة أرندت في “التوتاليتارية”: والشمولية من توصيفات، ومن أسباب، ومن نتائج، ومن جذور وثمار.
وحين نقرأ بعض الأفكار والعبارات في هذا الكتاب، نحسب أنفسنا نطالع كتاب “الكواكبي”، بدءًا من تشخيصه لمرض الاستبداد وطبائعه، وانتهاءً بالدواء الذي اجترحه لمناهضة الاستعباد؛ ومن هنا تأتي راهنية ما جاء في الكتابين مع اختلافهما زمانًا ومكانًا
لأن ركائز الاستبداد والمستبدين والمستبَد بهم هي ذاتها، نفسها.
“العبودية المُختارة”، هي: مرافعة ضد الإستكانة. والخنوع والخضوع الاختياري فإيتان دو لابويسي ينتهي أن : العادة والاعتياد أكثر من الخوف، هو الذي يفسّر استمرار الشعب المستعبَد في احتمال وطأة الاستعباد والحكومات المستبدة، ثم يأتي الدين متمثلا في تحالف الكنيسة مع السلطة القائمة، ثم تأتي الخرافة، المؤسسة على الجهل كعوامل للخضوع.
وحول “سر كل استبداد” يقول الكاتب: أن ذلك يكمن في إشراك فئة قليلة من المستعبَدين في اضطهاد بقيتهم.
وما انتهى إليه إيتان دولابويسي هو نفس ما توصل اليه الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، لأن الفترة التي عاش فيها كلاهما تتميز بسيطرة الطغيان، وقابلية الشعوب للعبودية الطوعية .
إن من طبيعة الدولة السيطرة واحتكار القوة، والنفوذ، فهي لا تعطي الحقوق وتقر القوانين تلقائيا وعن طواعية لفائدة الطبقات الدنيا ، ما لم تتعرض للضغط والتدافع والصراع ، فتلك سنة الله في الأرض قال الله تعالى :(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)صدق الله العظيم.
إن القوي لا يجد نفسه مضطرا لأن يعطي ما يملكه ويسطير عليه ، للضعيف ،لمجرد المشاعر والخواطر، والعواطف الإنسانية، والاحساس بالرحمة ما لم يكن هناك تدافع، بين النقيض ونقيضه.. وما دامت الجماهير تستلد الآلام وتقبل عن طواعية الأوضاع المزرية ، وتستطيع مواكبة العيش رغم كل الإكراهات فليس هناك ضرورة ، أن تعطي الدولة ،حقوقا. أكثر لمواطنين غير موجودين على أرض الواقع ، إلا على المستوى الافتراضي ،، ويحق لكل حكومة في العالم ، أن لا تشرع أي قوانين لا شعبية ما دام الشعب لا يفرز ممثليه الحقيقين عن فكر وحرية واختيار ،وهي في هذا الواقع لا تراعي إلا مصالح الطبقة المتنفذة ، وفقط، أما الشعب النائم ،فلا عزاء ،له ، لأنه لا يتوفر على ميكانيزمات الوعي بالأزمة ، ولا يستطيع التضحية من أجل الحرية ، فما نيل المطالب بالتمني ، ولكن تؤخذ الدنيا غلابا كما قال أمير الشعراء شوقي.
وما دام أن الحياة تستمر في مجتمع الفقر بشكل عادي رغم تفاقم الأزمة وغلاء الأسعار ، فهذا دليل على أن الجميع قادر على تدبير الأزمة والعيش ، وهذه حجة يتخذها. ويروج لها. المسيطرون على أن هؤلاء الفقراء هم في الحقيقة أغنياء ، لأنهم يستطيعون ،مواصلة الاستهلاك بشراهة رغم ، الغلاء ويستطيعون التغلب ،عليه،، بدائل رضاهم ، وعدم احتجاجهم ، ولو بالمعارضة السلمية التي أتاحتها. جميع القوانين والدساتير .
كل الدول والحكومات في العالم تتيح لشعوبها ، الحق في الاحتجاج والتظاهر ، من أجل معرفة الرأي العام والأخذ باتجاهاته ، وإتاحة الفرصة للضغط الشعبي على الحكومات الفاشلة من أجل التعافي واستمرارية الدولة ، بإتاحة وإمكانية التغيير الدائم. الناعم للنخب، الشيء الذي يضخ دائما دماء جديدة في المشهد السياسي ، وهو ما يخلق حالة حيوية دائمة ، تؤدي حتما الى التطور ،والتقدم والرفاهية ،والنمو .
لكن في حالة الشعوب الشرقية عامة، والعربية خاصة لم تتبلور. هذه الروح النضالية ، لديها ، ولذلك ظهرت فيهم الحضارات. التي قبلت وأستساغت حكم الفرد المطلق كالحضارة الأكادية والآشورية ، والبابلية، والفرعونية والأموية والعباسية ، وغيرها ،من الدول ولم يستطع هذا الشرق تاريخيا، في أن يرسي أسس الدولة الديموقراطية ، أو أن يبدع الدولة المدنية العادلة ، فهل المشكل كان ولا يزال مشكلا جينيا ، أو عرقيا ،أو ثقافيا أو دينيا ، يبقى هذا المشكل العويص قائما ، وغير مفهوم فخلال كل التاريخ السياسي الانساني ضل الشرق خاضعا. للاستبداد.، في حين كان الغرب هو مخترح الدولة المدينة ، فأثيتا هي وفقط من استطاعت أن تعطي للأفراد قيمة الاقتراح. والنقاش والاعتراض، فكانت ساحة الأكورا هي ساحة الديموقراطية المباشرة. المؤمنة بالتعدد والاختلاف ، وكانت اليونان هي وفقط من استطاعت في ذلك التاريخ القديم ، أن تعلي من شأن اللوغوس والمنطق وتتجاوز الميثولوجيا ، والأساطير والخرافة في ، وسط ذلك التاريخ الطويل .
السؤال الذي يستعصي على الحل هو كيف السبيل إذن للخروج من هذا المأزق الوجودي القدري، وهذه الجموع تنام في العسل على طول العالم العربي خاصة ؟!!
الحقيقة المرة الثانية أن الطبقة المسحوقة كانت دائما وأبدا وقود وحطب الثورة المضادة حيث استعملتها الطبقة البورجوازية ضد حليفها الموضوعي من الطبقة المتوسطة التي غالبا هي من تخرج للاحتجاج ليس دفاعا. عن نفسها ولكن على الأوضاع المزرية التي تعيشها الطبقة الكادحة ، ودفاعا عن الديموقراطية والحرية ، لكن المسحوقين غالبا ما كانوا يعضون أيادي المناضلين وينقلبون عليهم ، ويقدمونهم قرابين ،لأسيادهم ، تملقا وخوفا والدلائل في التاريخ. على هذه المآلات كثيرة. منها ما وقع في انقلاب الشعب على نفسه واختياره وإرادته في موقعة الجمل بميدان التحرير ،في مصر ، وخروج الشعب الجائع المقهور ضد أول رئيس كانت لهم الفرصة في انتخابه ديمقراطيا ، فاعدم. هذا الشعب إرادته تأييدا وتفويضا لجلاده التاريخي وللانقلاب العسكري الديكتاتوري.
ولذلك فغالبا ما تجد الإنتلينجسيا نفسها في وضعية الإحباط واليأس والانهزامية من خنوع الفقراء مما يؤدي بالمناضلين إلى الانتكاس النفسي وبدل الارتماء في المجهول والجحيم إعلان موت السياسة ومحاولة اقتناص الفرص والعيش بسلام، وطمأنينة وهدوء ودون كلفة أفقدت الكثيرين منهم حياتهم ومستقبلهم ما دام أنه ليس هناك أمل في تحقيق الدولة المدنية الديموقراطية لشعب مسلوب الإرادة، والعقل لا يحسن الاختيار ويبيع أصواته بثمن بخس وينسى في كل محطة انتخابية جديدة ما تعرض له من قمع فيعيد نفس الأخطاء الى ما لا نهاية دون أن يستخلص الدروس لأن ذاكرته ذاكرة العصافير.
ولأنه دائما مستعد لقبول الأمر الواقع، بالنظر إلى التخلف والجهل، وهذه نتائج موضوعية بالنسبة للمجتمعات التي أصبح روادها، وزعماؤها والمؤثرون فيها من الأميين البسطاء، الذين ينشرون التفاهة والفضائح والأسرار العائلية بدون أدنى أخلاقيات أو أهداف، في حين تخلت هذه المجتمعات عن مفكريها وعلمائها، وأهملت العلم والمعرفة والبحث العلمي، ففاقد الشيء لا يعطيه، ولذلك فقد تظافرت عوامل تاريخية وتقنية عرقية ودينية وثقافية وجينية في صنع إنسان العبودية والاستعباد.
تعليقات الزوار ( 0 )