إن المتابع للسياسة الخارجية للإدارة المركزية قد يظن أنها مازالت برئاسة دونالد ترامب الذي وقف العالم بأكمله مندهش لقراراته ومواقفه غير المتوازنة والمتسرعة وأن جو بايدن الرئيس الحالي، ليس ذلك المعارض الديمقراطي الشرس لسياسة ترامب والذي كان له قصب السبق في انتقاد هذا الأخير وذلك في التسرع والعشوائية والازدواجية وعدم التوازن في القرارات، خصوصا تلك المرتبطة بسياسة الولايات المتحدة الخارجية.
إلا أن ما يميز مرحلة بايدن، ومباشرة فور تسلمه السلطة، هو مواجهة غير عادية مع كل من الصين وروسيا، خصوصا في الملفات المشتركة أو الملفات التي تتأثر أو تؤثر فيها الدول الكبرى الثلاث خصوصا استراتيجية إعادة لم شمل حلف الناتو الذي يحمل أكثر من رسالة استهدافا لروسيا، وخصوصا ان هناك حراكا سياسيا في دول الاتحاد الأوروبي أو في الدول الأوروبية التابعة لحلف الشمال الأطلسي لإعادة احياء الاشتباك مع روسيا في موضوع تدخلها في شرق أوكرانيا أو في إعادة نبش موضوع الدخول الروسي إلى شبه جزيرة القرم.
إضافة إلى السماح بنشر قدرات صاروخية ونووية أمريكية على سواحل كل من السويد والنرويج وفي مياهها الإقليمية، وكذا الاهتمام الأمريكي والاوروبي لروسيا في موضوع عدم احترام حقوق الانسان وقمع المعارضين وتحديدا في قضية المعارض الروسي(ناقالني) واتهام موسكو بتسميمه، وفرض عقوبات أمريكية على مسؤولين روس مرتبطين بالقضية، كل هذا يؤشر بمستقبل حار من الاشتباك الروسي مع الناتو مع الاتحاد الأوروبي في وقت غير بعيد وعودة الحرب الباردة في انتظار إشعالها.
فما هي خلفية التعامل مع الروس؟
وما هي العوامل المؤدية لذلك؟
وما هي خطة احتواء روسيا وتحجيم دورها عالميا؟
وهل يمكن لأمريكا أن تعيش تحديات كبيرة للتراجع عن دور الريادة؟
2 ـ عوامل التحامل الأمريكي على روسيا
لقد أوصى (هنري كيسنجر) داهية السياسة الخارجية الأمريكية (جو بايدن) بأن لا يسمح بأي تقارب صيني روسي، وحثه على أن يعمل على ما في وسعه للتفرقة بين الصين وروسيا.
ويعزى ذلك إلى محاولة تكوين كتلة دولية جديدة تضم إيران والصين وكوريا الشمالية لتشكل قوة عسكرية نووية ضخمة وتملكها ترسانة طائرات وصواريخ قوية جدا. فهذا التصعيد من قبل الولايات المتحدة الأمريكية مرده الضغط على روسيا للجلوس على طاولة المباحثات والمفاوضات مع أمريكا لمحاولة ابعادها عن الصين كما فعلت في 70و80، وعزلها عن الكتلة وإلحاق ضربات بها. اعتقادا من أمريكا بأن روسيا هي الحلقة الضعيفة في هاته الكتلة من خلال التضيق وفرض العقوبات، وكذلك خلق أزمات دبلوماسية في المنطقة، ومثال ذلك جمهورية التشيك طردت دبلوماسي روسيا. ومحاولة خلق أعداء مع أوروبا الجديدة (الشرقية) تجاه روسيا.
غير أن العوامل التي أدت إلى كراهية الإدارة الأمريكية (الديمقراطيون) لروسيا كراهية شديدة هو مسألة التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية للديمقراطيين وكان السبب في نجاح (ترامب) وسقوط (هيلاري كلينتون)، زيادة على أن الأمن القومي الأمريكي و المصالح الأمريكية أصبحت مهددة من قبل العملاق الروسي كخطر عسكري و الصين كخطر اقتصادي مما دفع بدول أوروبية إلى التحالف ضد روسيا و اعتبارها العدو الملموس لأروبا ،وخطر شديد من خلال محاولات أوربية للتضيق و التصعيد، كإعلان بريطانيا بأنها سترسل فرقتين مقاتلتين إلى البحر الأسود استعدادا لأي ضربة على روسيا حسب الصحيفة البريطانية (the times)، و التصريحات التي أدلت بها كل من فرنسا و ألمانيا، باعتبار روسيا تهديد لأروبا و ضرورة وضع خطوط حمر لها و فرض عقوبات عليها.
كما أن التصعيد يأتي من دول كانت ضمن الإمبراطورية السوفيتية (أوكرانيا – التشيك – بولندا) الذين كانوا حلفاء مع الروس في حلف (وارسوا) وضمها في ما بعد لحلف الناتو.
2 ـ التحديات المستقبلية للولايات المتحدة الأمريكية
إن التطورات الأخيرة التي عرفتها الحدود الروسية وأكرانيا والتحشيد الكبير ضد موسكو يزيد المشهد سخونة على ضفاف البحر الأسود. وكذا محاولة الانقلاب الأخير في بلاروسيا وبفضل الاستراتيجية الروسية التي لن تسمح بتحول بلاروسيا إلى منطقة أمريكية كما وقع مع بولندا.
فروسيا الان دولة قوية استطاعت أن تعيد دورها البارز داخل العالم كقوة عسكرية، بفضل رئيسها بوتين الذي حاول توسيع نفوذ بلاده في مناطق عديدة، مما جعل جغرافية العالم السياسية تتغير عكس سابقيه من الرؤساء (غورباتشوف ويلتسين)
وكل هذا جعل روسيا الاتحادية تحتل موقع الصدارة بوجه جديد في صلب اهتمامات السياسة الأمريكية. مما جعل هذه الأخيرة تعيش تحديات كبيرة تتراجع فيها ونفودها على أكثر من جبهة منها.إعلان بايدن رسميا سحب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان وهو اعتراف ضمني بالهزيمة.
كوريا الشمالية تعلن حالة الطوارئ وتستأنف الصواريخ الباليستية والبرامج النووية وهو ما يشكل تحدي كبير ضد أمريكا.
الصين وقعت اتفاقا لمدة 25 عاما مع إيران للاستثمار في مبلغ يقدر ب 450 مليار دولار.
روسيا لأول مرة ترسل قوة عسكرية لمصاحبة السفن الإيرانية (ناقلات النفط الإيرانية لسوريا) بحمايتها من أي هجمة مباحثة، مما يدل على أن روسيا ترسل رسائل للولايات المتحدة الأمريكية مفادها بأن روسيا الحالية ليست هي روسيا القديمة.
وهكذا فأمريكا أصبحت تتراجع بفضل تعزيز التحالفات أمام العملاق الروسي الصيني الذي يقترب من زعامة العالم وبدلا من التكيف مع بروز قوى عالمية كابحة للتفرد والهيمنة الأمريكية، يستمر في سياسة تتغنى باستثنائية أمريكا التي عفا عليها الزمن ولن يطول الوقت ليكشف بأن الادعاءات بالتفوق والقوة عبر الخطب والتصريحات النارية لن تكون بديلا من اعتماد سياسة واقعية تعترف بالمتغيرات الدولية التي تفرض تفاهمات حقيقية ومساومات ضرورية مع خصوم ومتنافسين دوليين تتنامى قوتهم وتتعزز قدرتهم لصياغة نظام دولي أكثر عدلا ومشاركة.
*باحث في القانون الدولي العام
تعليقات الزوار ( 0 )