شارك المقال
  • تم النسخ

الصديقي يكتب.. المغرب بين قيود البنية الإقليمية وفرص النظام الدولي

تعتبر البيئتان الدولية والإقليمية محددين أساسيين للسياسة الخارجية للدول. على المستوى الإقليمي، يُعد النظام الإقليمي الفرعي (regional subsystem) إطارًا مناسبًا لفهم وتفسير كيف تتفاعل الدول خارجيا. تسمى أنظمة فرعية لأنها جزء من أنظمة إقليمية أوسع، أو أنها مرتبطة بأنظمة فرعية أخرى، لكنها ليست بالضرورة تابعة لها… فمثلا النظام الخليجي مرتبط ومتداخل مع أنظمة فرعية أخرى في منطقة الشرق الأوسط، وهو أيضا جزء من النظام الإقليمي العربي، والأمر ذاته يسري على النظام الإقليمي المغاربي.

لم يكن للأنظمة الإقليمية تأثير في ظل الحرب الباردة، وأيضا في المرحلة التي تلتها والتي اتسمت بالأحادية القطبية، لأن الثنائية القطبية والأحادية القطبية لم تسمحا لهذه الأنظمة الإقليمية الفرعية بإفراز تفاعلات بين-إقليمية مستقلة نظرا لارتباطها بالنظام الدولي القائم. لكن تعدد الأقطاب الذي ظهر خلال السنوات الأخيرة سمح لهذه الأنظمة الإقليمية بتأكيد تميزها أكثر، وإبراز خصوصياتها عن النظام الدولي.

يتأرجح المغرب بين تأثير نظامين إقليميين فرعيين وهما: النظام المغاربي والنظام غرب البحر الأبيض المتوسط. المنطقة المغاربية والغرب المتوسطي يشكلان نظامين إقليميين فرعين مترابطين وغير منفصلين عن بعضهما البعض بشكل تام، ولا توجد بينهما دولة عازلة. بل هما متداخلان، ولكن يتميز كل واحد منهما ببنية ووحدات وتفاعلات خاصة. يمكن النظر إلى المغرب على أنه نقطة الوصل بين هذين النظامين الإقليميين الفرعيين.

يتشكل النظام المغاربي من دول متساوية الوزن نسبياً، ولا توجد دولة كبيرة يمكن أن تفرض نفسها كقوة مهيمنة إقليميا، أو على الأقل كدولة محورية. ويشكل التنافس على النفوذ، والسعي للحفاظ على الوضع القائم، والأراضي المتنازع عليها، والإرث الاستعماري الثقيل المحددات الرئيسية للنظام المغاربي وللسياسات الخارجية لدول المنطقة.

ويعتمد النظام الإقليمي الفرعي للمنطقة المغاربية بشكل رئيسي على العلاقات المغربية الجزائرية التي تميزت بالتنافس على الزعامة والنفوذ الإقليميين خلال العقود الأولى من الاستقلال. لكن بعد حرب الرمال في سنة 1963 سعت الدولتان -وخاصة المغرب- إلى الحفاظ على وضعهما في النظامين الإقليمي والدولي. ويعد نزاع الصحراء المغربية أحد أبرز مظاهر طبيعة النظام المغاربي، لأنه يشكل في الواقع انعكاسا لطبيعة هذا النظام الإقليمي السائد، وليست سببا لأزمة العلاقة بين المغرب والجزائر.

ولعل وضع المغرب الإقليمي غير المريح هو الذي يفسر إلى حد ما قبوله العرض الأمريكي باستئناف علاقاته مع إسرائيل خلال الأسابيع الأخيرة من حكم دونالد ترامب. فلو كان المغرب آمنا ومعافى في جواره الإقليمي لما كان هناك أي داع للتطبيع مع إسرائيل. هذا تفسير لسلوك دولة، وليس تبريرا له.

على مستوى غرب المتوسط، تتحدد العلاقات الإسبانية المغربية بالإرث التاريخي والخلافات الإقليمية طويلة الأمد، لاسيما ما يتعلق بوضع سبتة ومليلية وباقي الجزر المتوسطية التي لا تزال تحتلها إسبانيا، وإشكالية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين على ضفتي المتوسط والأطلسي، بالإضافة إلى بعض المصالح الاقتصادية المتناقضة… وأظهرت أزمة جزيرة ”ليلى“ في عام 2002 وهذه الأزمة السياسية الأخيرة (2021) مدى هشاشة العلاقات بين إسبانيا والمغرب وقابليتها السريعة للتأثر بأبسط الأحداث رغم ما يجمعهما من مصالح اقتصادية وأمنية كبيرة.

يضع الإسبان المغرب دوما على رأس أولويات استراتيجياتهم الأمنية، فمشاكلهم التاريخية والمعقدة مع المغرب لا تقارن مثلا بمشكلة جبل طارق مع البريطانيين. كما أن مصالحهم الاقتصادية والجيواستراتيجية تفرض أيضا على الإسبان جعل المغرب على رأس الأولويات. وتشكل قضية الصحراء ملفا ثقيلا في علاقات البلدين. ورغم الإعلان المتكرر للحكومات الإسبانية عن تأييدها لإيجاد حل سلمي للقضية تحت رعاية الأمم المتحدة، فإنه ليس من مصلحة إسبانيا أن تحل قضية الصحراء لصالح المغرب لأن من شأن ذلك أن يعزز موقعه إقليميا ودوليا، وسيعتمد استراتيجة لاسترجاع سبتة ومليلة وباقي الجزر المغربية المتوسطية المحتلة ولو على الأمد البعيد.

إذن فالتحدي الأكبر الذي يعيق المغرب من الانطلاق للعب دور مؤثر في المجال الدولي أو القاري هو الإعاقة التي يعاني منها إقليميا: قضية الصحراء، وعلاقته مع الجزائر، وعلاقاته مع إسبانيا. المغرب مقيد إقليميا، وعليه أن يتحرر من هذه القيود.

وفي الوقت الذي تقيد فيه البنية الإقليمية هامش مناورة السياسة الخارجية المغربية، فإن النظام الدولي الحالي المتميز بتعدد الأقطاب يسمح لها بحرية أوسع في التحرك ورد الفعل. ويمكن مقارنة حالة المغرب في حدود معينة مع التجربة التركية. لم يعد مفروضا على المغرب أن يستند إلى حد كبير لحماية مصالحه الاستراتيجية على الغرب فقط، لأن النظام الدولي الحالي متعدد الأقطاب يسمح للمغرب باتباع استراتيجية مستقلة عن حلفائه الغربيين التقليديين. لذلك يفترض أن يكون للمغرب دور متزايد في المنطقة في السنوات القادمة، خاصة مع ضعف الاتحاد الأوروبي والتراجع الواضح للنفوذ الفرنسي في المنطقة المغاربية.

إن تحرر المغرب من المشاكل والمعيقات الإقليمية سيسمح له دون شك بلعب دور أكبر وأوسع في العالم وفي جواره الإقليمي والقاري. لكن أغلب هذه المشاكل مستعصية، وقد تحتاج إلى وقت طويل لحلها، مثل قضية الصحراء، وسبتة ومليلية… لذلك فإن التعايش مع هذ المشاكل وإدارتها دون أن تضر بالأهداف الكبرى للسياسة الخارجية المغربية هو الحل الأنسب في هذه المرحلة. لا شك أن اتفاقيات الشراكة والتبادل الحر التي أبرمها المغرب مع مجموعة من الدول، وتوجهه الجديد نحو إفريقيا جنوب الصحراء، وتنويعه للشركاء الاقتصاديين قد يخفف إلى حد ما من هذا القيد.

خلاصة القول إن الهدف المركزي للسياسة الخارجية للمغرب هو الحفاظ على موقعه الحالي دوليا وإقليميا لأطول فترة ممكنة، مع العمل على تعزيز هذا الموقع بتأن وحذر وتدرج. ولعل تقوية تعاون المغرب مع الدول الصاعدة التي تواجهه تحديات مشابهة ستساعده على حماية مصالحه الوطنية. لا يعني هذا بالضرورة استبدال الحلفاء التقليديين، بل توسيع خياراته الاستراتيجية.

  • أستاذ العلاقات الدولية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله
شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي