Share
  • Link copied

السيد محمد علي الحسيني يعقد مقارنة بين الـ 29 لوثيقة مكة ووثيقة المدينة المنورة لفحص التطور الحاصل للمجتمعات الإنسانية في مؤلف جديد

صدر عن دار الحكمة – لندن كتاب من تأليف السيد الدكتور محمد علي الحسيني، بعنوان “معالم القيم الإنسانية في وثيقة مکة الحضارية”.

ويتضمن الكتاب ستة فصول، وهو بمثابة استقراء فکري وشرح وتعليق على المبادئ الـ 29 لوثيقة مكة المكرمة التي صدرت عن ألف ومائتين ونيف من كبار مفتي وعلماء الأمة الإسلامية، لتكون استمرارا وتزمينا لوثيقة المدينة المنورة بمراعاة التطور الحاصل في المجتمعات الإنسانية، والتعريف بها بأسلوب شفاف وشرحها على ضوء العقل والنقل، وتبيان أهميتها وقيمتها الإنسانية والحضارية التي تعود بالنفع على البشرية قاطبة.

وأوضح السيد الحسيني ان “الصدى والتفاعل العالمي والعملي لوثيقة مكة المكرمة والاهتمام الكبير بها من النخب الفكرية والعلمية وصناع الرأي، استدعى منا الإقدام على تأليف هذا الكتاب ليكون سبيلا لإنارة كل المضامين التي جاءت بها بنود الوثيقة ليعم النفع ويكون المجتمع الإسلامي والإنساني على بصيرة”بالعودة الاستقرائية الإيجابية للتاريخ العربي ـ الإسلامي والسعي لاستنطاق الأحداث والتطورات المشرقة التي جرت خلاله من أجل الاستفادة منها، من خلال عملية إعادة صياغة عقلانية ومنطقية تأخذ بعين الاعتبار مسألة الأصالة الفکرية التاريخية والرٶى الإنسانية فيها من جانب، وکذلك مسألة العصر الحالي الذي نعيشه الذي يحفل بالکثير من المتغيرات الاستثنائية من جانب آخر.

هذه العودة الاستقرائية الإيجابية للتاريخ العربي ـ الإسلامي، يرى صاحب الكتاب، تحظى بأهمية خاصة، وإن ضرورتها ملحّة في خضمّ ما يشهده العالمان العربي والإسلامي من حملات ومساعٍ أکثر من مشبوهة، ليس للقيام بقراءات في غير محلّها فحسب، بل مشوّهة ومحرّفة قد التبست عليها الحقائق الأصلية وذهبت بعيداً وراء أحداث ونصوص، فيها الکثير من التأويلات دون أن تقوم بعرض کلّ ذلك على المصادر الثلاثة الرئيسة في التشريع، أي الکتاب والسنة النبوية والعقل.

ويرى السيد الدكتور محمد علي الحسيني، صاحب كتاب “معالم القيم الإنسانية في وثيقة مکة الحضارية” أن ما جرى خلال العقدين المنصرمين بشکل خاص في العالمين العربي والإسلامي من مساعٍ غير حميدة من أطراف وجهات ضالّة مضلّة قامت بالعمل من أجل إظهار الدين الإسلامي کدين انعزالي يرفض التعايش السلمي، ويرفض الآخر، ولا يؤمن بالتقدم والتطور، بل يؤمن بالقسوة والعنف والإرهاب من أجل تحقيق أهدافه، کانت ولا زالت ذات تأثيرات سلبية على المجتمعات العربية والإسلامية، حيث يمکن القول بأن الحقيقة قد اختلطت والتبست على کثيرين فصاروا يخلطون بين الأمور دون أن ينتبهوا ويعوا ذلك.

ورجع السبب كله، حسب المؤلف، إلى ما سماه بـ”العودة السلبية الانتقائية لعقول حکمت على نفسها بالانغلاق حتى قبل أن تقوم بعملية العودة”.

ويذهب إلى أن ما أسماها بـ “العودة السلبية الانتقائية” تُشکل أکبر خطر وتهديد على المجتمعات، لذلك يصنّف دارسو علم الاجتماع الجهل إلى نوعين، الجهل الأصغر والجهل الأكبر.

 أمّا الجهل الأصغر فهو جهل الأميين، وأمّا الجهل الأكبر فهو جهل المتعلّمين، وإن البعض ممّن يظهرون أنفسهم کعلماء أو ضليعين بالأمور والمسائل الشرعية، يتّصفون بعقلية منطوية ومنغلقة على نفسها ترفض الآخر من البداية وتؤمن بمسار ونهج معيّن وتسعى في عودتها للتاريخ العربي ـ الإسلامي من أجل إيجاد ما يمنحها مصداقيةً لترتكز عليها في غيّها، وليس من أجل البحث عن الحقيقة والحق. وهؤلاء من دون شك هم جهلاء وإن ظنّوا أنفسهم عقلاء ومنطقيين لکونهم يرفضون التجرد من ميولهم وأهوائهم التي تحجّر عقولهم، هؤلاء يسترسلون بكلّ ما تمليه عليهم ألسنتهم دون إدراك وفهم منطقي حقيقي لما يقولون، فهم يتهجّمون، ويهاجمون من يخالفهم ويختلف معهم في مجرد رأي، لأن رؤيتهم للأمور تضيق شيئاً فشيئاً، هؤلاء وغيرهم ما هم إلّا وقود الجهل الأكبر لأن أوطانهم توسّمت فيهم أن يكونوا أدوات للتنوير، لكنهم تحوّلوا بسبب ضعف مستوياتهم إلى أدوات هدم.

من هنا، يريى المؤلف أن العودة الاستقرائية الإيجابية للتاريخ العربي ـ الإسلامي والعمل على استنطاق الأحداث والتطورات المشرقة التي جرت خلاله والسعي من أجل الاستفادة منها، فهي التي نراها ونؤمن بها، لأنها تعتبر الامتداد الصحيح والمنطقي لهذا التاريخ، وإن إعلان وثيقة مکة المكرمة کان بمثابة عملية تفعيل العودة التي نؤکّد عليها ونراها الأصح من کلّ النواحي، لأنها تجسّد عملية استخلاص شفّافة لجوهر المبادئ والقيم والأفکار الإنسانية المشرقة، ويمکن اعتبارها نقلة حضارية نوعية حيث دعا ويدعو إليها ديننا الإسلامي.

 إن وثيقة مکة المكرمة ليست وليدة طروحات واجتهادات أو استنباطات فکرية من هنا وهناك، بل هي محاکاة عصرية لوثيقة المدينة المنورة التي عقدها النبي الأکرم “صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم” قبل أربعة عشر قرناً مع المکونات المختلفة في أديانها وثقافاتها وأعراقها، وکانت بحقّ وثيقة دستورية يشار إليها بالبنان في مجالات التعايش السلمي وتحقيق السلم والتعاون والتعاضد بين مکونات المجتمع الإنساني، إذ إن الإسلام وکما بيّنت وثيقة المدينة المنورة، قد أثبت بأنه قد راعى على الدوام ومنذ البداية الحقوق المدنية والأمور والقضايا المتعلقة بالتعايش السلمي.

لقد كان توقيت إعلان وثيقة مکة المكرمة، حسب المئلف، بمثابة إعلان للمضامين والمبادئ والأسس الإنسانية الحضارية التي دعا ويدعو الإسلام إليها، ودحض من خلالها الأسس والمبادئ المشبوهة والمنحرفة والضالّة للتيارات والجماعات الذين يسيرون على طريق أصحاب العقول المتحجّرة والمنغلقة على نفسها والرافضة للآخر، خصوصاً وأنها- أي “وثيقة مکة المكرمة”- قد صدرت بإجماع وموافقة ألف ومئتين ونيّف من کبار المفتين وعلماء الأمة الإسلامية، وهي بذلك قد وضعت حدّاً للمتلاعبين والمتاجرين والمحرّفين والمستخدمين للدين الإسلامي کستار وغطاء من أجل تحقيق أهداف وغايات لا علاقة لها بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد.

ويرى أن وثيقة مکة المكرمة من خلال الأسس والمبادئ الـ 29 التي أعلنتها، لم تقم بوضع حدّ لأصحاب العقول المتحجّرة من المتطرّفين الذين يقومون بطريقة وأخرى لجعل النصوص الشرعية من الکتاب والسنة مطابقة لأفکارهم وتوجّهاتهم المنحرفة الضالّة فحسب، بل وضعت حدّاً لتصوير الدين الإسلامي کدين مخالف للعلم والتقدم والتطور والحضارة، وهنا من المفيد جدّاً التذکير بحادثة مهمة جدّاً من تاريخنا العربي الإسلامي الذي يؤکّد على البعد الإنساني ـ الحضاري العلمي للدين الإسلامي والمبادئ والأفکار النبيلة التي يدعو إليها، إذ إن نهضة أوروبا قد بدأت يوم وصلتهم أفکار ابن رشد عقب سقوط الأندلس وحرق کتبه، وإن أول قاعدة حوّلت الإسبان والأوروبيين صوب النور، مقولة ابن رشد التي حسمت العلاقة مع الدين: الله لا يمكن أن يعطينا عقولاً، ثم يعطينا شرائع مخالفة له. أمّا القاعدة الثانية، فهي مقولته التي حسمت التجارة بالأديان: التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل، فإن أردت التحكّم بجاهل، ما عليك إلّا أن تغلّف كلّ باطل بغلاف ديني.

الدكتور محمد علي الحسيني، عالم دين من المملكة العربية السعودية

Share
  • Link copied
المقال التالي