مشاهد الفقر والعوز وعدم الاستقرار الذي تعاني منه المنطقة العربية إذا رجعت إليها بلدا تلو الآخر ستخرج لا محالة بنتيجة مفادها أن هذا التراجع صناعة محلية بحتة أفرزتها نظم سلطوية فتخلفت هذه المجتمعات داخليا من النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية كما ورثت تخلفا خارجيا جعلها لا تتعايش مع الجغرافيا والتاريخ و لا حتى المصالح المتبادلة مع جيرانها اللذين يدورون بدورهم فى ذات فلك (السلطوية) الدول العربية والقواسم المشتركة :
اذا قمنا بمراجعة سريعة لكل دولة عربية على حدا سواء فى المشرق أو المغرب العربي ستجد أن هذا المصطلح يكاد يكون ماركة مسجلة فى جميع هذه البلدان بدون استثناء يذكر، فهذه الدول منذ ستينيات القرن الماضي وخاصة فى الدول الجمهورية تأرجحت نظمها السياسية ما بين عسكرية وشبه عسكرية وطوال هذه السنوات التى قاربت نصف قرن من الزمان ظل الخطاب السياسي فى هذه البلدان يجتر نفسه فى تراجيديا عبثية وكأن الزمان متوقف بالرغم من المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى العالم الا حالة الركود والسكون ظلت هى سيدة الموقف فى هذه البلدان سواء على المستوى الداخلى أو الخارجي.
على المستوى الداخلى:
تكريس سلطة الزعيم والرئيس الذي ستضيع البلاد بدون وجوده على رأس السلطة ومن ثم تم شخصنة السلطة فى هذه البلدان فنجد ( زعماء) استمروا أربعين أو ثلاثين سنة سواء فى المشرق أو المغرب العربي وفى دول تكتب على عملتها جمهورية !!!
ايضا من الناحية السياسية خلقت أحزابا وهمية دورها الأساسي هو ضمان استمرارية الزعيم الخالد و( جوقته) من السياسويين المنتفعين وبالتالي كان المشهد السياسي يستلزم وجود هذا الكومبارس المساند من أجل إخراج عالمي يجعل من المشهد شبيها بما هو سائد فى البلدان المتقدمة، أي وجود حكومة ومعارضة، ولكن الواقع كان مرا وعلقما على هذه المجتمعات حيث أدى الى تدمير الحياة السياسية فى هذه البلدان و قمع فيها المناضلون الحقيقون الذين انتقدوا هذا العبث الذي أورث هذه البلدان تخلفا هيكليا برعاية الراعي الرسمي للدولة !!!!!!!
الانتلجنسيا والسلطة:
وهنا سبب آخر أنعش هذا التخلف داخليا من الناحية السياسية، ويتجسد بشكل مباشر فى فئة الصفوة أو النخبة التى نشطت فى هذه البلدان حيث كانت معظمها خصما على المجتمع وعلى التطور والتحول الديموقراطي، فهذه النخب لعبت دور المبرر والمساند لاستمرارية هذه النظم وكلا من موقعه سواء كان سياسيا ينتمي لحزب معارض نظريا ومواليا من الناحية العملية، أو اقتصاديا استفاد من تسهيلات النظام التى أنعشت خزائنه، فربط مصيره بهذا النظام وبالتالي أصبح مصيره مرتبطا به عضويا، ولعل أكثر الداعمين للتخلف فى هذه البلدان من فئة المثقفين زمرة من الإعلاميين الذين ظلوا لسنوات طويلة حتى قبل بداية (السماوات المفتوحة) يكرسون أقلامهم وصحفهم وفكرهم للدفاع عن نظم مغلقة تدعى الانفتاح فزيفوا الحقائق وكانوا بعيدين تماما من دور ذلك المثقف الذي يحمل آمال شعبه ووطنه ويتصدى لكل من تسول له نفسه العبث بمقدرات أمته. كانت هذه النخب وبالا على أوطانها حيث بررت وزيفت وخدعت وكرست هذا التخلف وأدت دورها فى هذا التجريف المجتمعى حتى أصبحت معلومة ومعروفة للجميع .
إحباط الفرد وإنعكاسه على المجتمع:
أدى هذا الواقع المزيف الى عزوف الأفراد عن الفعل السياسي ومن ثم المشاركة السياسية التى تخلق واقعا صحيا فى أي مجتمع ينحو تجاه التنافسية الحقة التى تنعكس إيجابا على تطور ونماء هذا المجتمع فى شتى الصعد السياسية والاقتصادية والاقتصادية والثقافية، وبالتالي أدت هذه السلطوية الى خلق حالة من الجمود على مستوى فعالية الأفراد ومن ثم انعكاسه على كل المجتمع، الذي أصبح يلعب دور المتفرج على من يكتب سيناريو مصيره وإخراجه بصورة عمقت من انفصال العلاقة ما بين من هم فى سدة الحكم وبين هذا المجتمع المغلوب على أمره .
على المستوى الخارجي:
هذه السلطوية التى أثرت على نهضة هذه البلدان داخليا امتد أثرها الى خارج حدود الدول، فقراءة بسيطة لطبيعة العلاقات الدولية بين الجيران العرب مع بعضهم البعض تلهمك الى مدى تأثير هذه السلطوية فى إيجاد أرضية مشتركة من التعاون فيما بينها ، فبالرغم من جميع الامكانات المتاحة لخلق هذا التعاون بين دول يجمعها ماض مشترك وارث حضارى مختلط ولغة واحدة إلا أن واقع العلاقة بين هذه الدول مع بعضها البعض ولاسيما التى توجد حدود طبيعية فيما بينها كانت دائما ما تخضع لتوترات وإغلاق كامل أو شبه كامل لهذه الحدود بينها تحت دعاوي كثيرة إلا أن معظمها ينحصر فى تقويض النظام السياسي هنا أو هناك أو دعم المعارضة فى هذا البلد أو ذاك. واستمر هذا الحال فى هذه البلدان لسنوات عديدة لم تستفد فيها من بعضها البعض، حيث أن غياب المصلحة المشتركة، وإلى وقتنا الراهن مازالت العلاقات البينية بين هذه الدول السلطوية تراوح مكانها وحتى إذا حدث أي تقارب فهو شكلي ولا يؤدي إلى أي تعاون حقيقي تستفيد منه هذه الدول والمجتمع!!.
عدم الاستفادة من الدروس التى شهدها وما يزال يشاهدها الجميع حكاما ومحكومين بسب شخصنة السلطة والتى أدت الى دمار دول بأكملها وتهجير شعوبها وتفتيت اللحمة الوطنية بها لم يكن وليد صدفة أو نتيجة كيد المتأمرين الداخلين والخارجيين كما كانت الآلة الاعلامية لهذه البلدان تصورها لعشرات السنين، إنما كان سببه الرئيسي فى تصورى هو هذه السلطوية القائمة على مبدأ “لا أريكم الا ما أرى” ومن ثم تجريف الحياة السياسية وصنع هذا التخلف فى شتى الميادين سواء على مستوى التعليم والصحة والاقتصاد …الخ وبالتالى فالخروج من هذه الدائرة التى طال أمدها لايكون الا بالبعد عن هذه السلطوية !!!
- باحث فى العلوم الدستورية والسياسية _ كاليفورنيا.
تعليقات الزوار ( 0 )