صدر عن دار الأمان (يناير 2022) كتاب العلماء وضريبة الترتيب الحسني، من تأليف الباحث في التاريخ خالد طحطح، وهو يضم قسمين اثنين: الأول عنونه بالدراسة وهو في أربع فصول، والقسم الثاني خصصه لتخريج أهم نص نوازلي في الترتيب وهو مخطوط عناية الاستعانة في حكم التوظيف والمعونة لصاحبه علي بن محمد السوسي السملالي (ت 1311هـ/ 1893م).
ارتبطت ضريبة الترتيب بالإصلاحات التي أراد السُّلطان الحسن الأول تطبيقها في المجال الجبائي لإخراج المغرب من أزمته المالية، ولكي تُصْبِحَ الضريبة التي أُقرت في مؤتمر مدريد مشروعة كان لابد أن تمر عبر عباءة السلطة الدينية التي تتمثل في العلماء؛ فهؤلاء يُعْهَدُ إليهم إصدار الحُكم بعد قياس الأمور بِمِنْظَارِ الشَّرع.
ولما أراد السُّلطان تنزيل ضريبة الترتيب تصاعدت حِدّة الفتاوى المعارضة لِتوجُّهه، وهذه تُمثل أوّل مواجهة حقيقية بين السلطة الدينية ومؤسسة المخزن في تاريخ المغرب حسب الباحث خالد طحطح، ولذا يُمكن اعتبار سنة 1881م منعطفا حقيقيا في تغيُّر المواقف واحتداد الصراع بين السُّلطتين السِّيَّاسِيَّة والعلميَّة في مغرب ما قبل الاستعمار.
إن تباين الرؤى ساهم في توتُّر العلاقة بين السُّلطة والعُلماء في موضوع المَعونة والتَّرتيب، وهي توتُّرات نادرا ما حصلت بنفس الحِدَّة في السّابق، كما خلق فرض الترتيب انشقاقا واضحا بين فئات المجتمع، ففي الوقت الذي رفض فيه الشرفاء وقادة الزوايا القبول بالضريبة الجديدة استحسنتها العامة في بعض المناطق؛ فإلى أيِّ حَدٍّ ساهم الخلاف حول ضريبة الترتيب في بداية القطيعة بين السلطتين الدينية والسياسية؟ ولماذا انقسمت مواقف العلماء اتجاه الجبايات الجديدة؟ وكيف تعامل السلطان مع المُعارضة المتصلِّبة للعُلماء من ضريبة التَّرتيب؟
تقوم فكرة الكتاب على تِبيان مواقف العُلماء المتضاربة بشأن ضريبة التَّرتيب، وذلك من خلال استثمار عدد من المصادر الدفينة، وعبرها يمكن ملامسة بعض الأسباب المعيقة للإصلاح بالمغرب. وقد اعتمد الباحث خالد طحطح منهج الميكروسطوريا الذي يستند على النبش في التفاصيل وتأويل الإشارات الدقيقة.
لم تنشأ المكوس مع الدّولة العلويّة؛ فهي من أقدم الضَّرائب التي عرفتها البلاد المسلمة، إذ كانت مُطبَّقة قبل القرن الثّاني عشر الميلادي، ثم توقَّف العمل بها خلال بعض العهود إلى أن حَصْحَصَتْ من جديد في القرن الثّامن عشر واستفحل أمرها خلال القرن التّاسع عشر واستَحْكَم، وهي ضريبة لجأت إليها الدول في فترات الأزمات؛ فكلّما اتسعت نفقات الدّولة كُلَّما اتَّجه السَّلاطين إلى البحث عن مصادر جديدة لملء بيت المال؛ فيكون الّلجوء إلى فرض ضرائب غير شرعيَّة والرَّفع من قيمتها من أهم الإجراءات الاستثنائية التي يستمِرُّ العمل بها لفترات طويلة.
ونظرا لما كانت تُسبِّبه المكوس من خلافات، فإن المخزن العلوي كان يلجأ إلى استصدار فتاوى بخصوص مدى شرعيَّة هذه الضَّريبة كُلَّما إنتوى إقرارها، وهو ما تم خلال عهد السلطان محمد بن عبد الرحمان الذي افتدى مدينة تطوان بمبلغ مالي باهض.
لم يَسْعَ الحسن الأول لأخذ رأي العلماء في موضوع التّرتيب حين عزم على فرضه، وأبدى تردُّدا كبيرا في ذلك، لكنَّه لم يستطع الثّبات على موقفه، إذ كان من الصّعب عليه مُخالفة التّقليد المتعارف عليه، من ضرورة استشارة العلماء كلما تعلّق الأمر بقضيّة مُستحدثة ذات علاقة بالجانب الدِّيني، غير أنه قرَّر في النِّهاية تأخير استشارتهم في شأن هذه الضَّريبة الجديدة التي أزْمَعَ على إقرارها إلى ما بعد الاتِّفاق مع الأوربيين -الذين كانوا يتملَّصون من أداء الضّرائب الشّرعية باعتبارهم غير مسلمين- لإدراكه مُسبقا أن قرارهم سيكون الرَّفض؛ فأراد أن يضعهم أمام الأمر الواقع. وبالفعل طلب السُّلطان الحسن، بعد الاتِّفاق مع الأوربيين على بنود التّرتيب، رَأْيَ عُلماء فاس فيها، غير أنه لم يستطع الحصول على أي جواب منهم؛ فقد التزم الجميع لغة الصَّمت، وهو ما أوقع السّلطان في حرج كبير أمام جميع مكونات المجتمع. والجواب الوحيد الذي كتبه علي بن محمد السوسي السملالي بالموافقة يعبر عن عزلة المخزن وعجزه أمام معارضة صمّاء.
وبالرغم من ارتباط وضعية العُلماء المادِّيَّة بالسُّلطان، فإنه يحصل أحيانا وقوع صِدامٍ بينهما كلَّما تعلَّق الأمر بما يراه العلماء تغييرا للأحكام التي توجد فيها نصوص ثابتة؛ فواجبهم آنذاك يفرض عليهم مُناهضة السُّلطة دون الطَّعن في شرعيَّتها، كما هو موقف العلماء الذين عبَّروا عن رفض التّرتيب، باعتبارها ضريبة غير شرعيَّة في الشِّق المتعلِّق بمكوس الأبواب.
إنَّ الالتباس الذي وقع بين المكوس والمعونة ساهم في خلق حَالة الخلاف بشأنها كُلَّما لجأت الدولة إلى إبْرام توظيفات جديدة. وقد حظيت هذه المسألة بجملة من الكتابات المؤيدة والمعارضة، وبقدر ما نتوفَّر على إجابات مستفيضة بشأنها على إثر استفتاء السلطان محمد الرابع العلماء لدفع غرامة الصلح مع الإسبان، نجد صمتا لافتا للنظر من قبل الذين استفتاهم السُّلطان الحسن في عهده بخصوص المعونة، بالرَّغم من ربْطِها بعملية إسْتِتْمام إصلاح الجيش الذي بدأه سلفه؛ فقد أنْبَأَ علي السّملالي في مُسْتَهلِّ كتابه النَّوازلي عناية الاستعانة، وهوموضوع التخريج والدراسة ،والذي انتهى من تأليفه صاحبه سنة 1299هـ/1882م، أنَّ السُّلطان المولى الحسن، وهو يُتابع محاولة تحديث الجيش، استَوْضَحَ علماء فاس عن الحُكم الشَّرعي في توظيف المعونة لنفقات التّنظيم الجديد للجيش؛ فأَبْلَمَ الجميع إلا عالما واحدا هو الفقيه محمد بن عبد الواحد بن سودة، الذي أجاب بأنَّ السُّلطان بحوزتِه الكُتب التي تتضَمَّن الأجوبة.
أنتجت قضيَّة المكوس في القرن 19 كتابات عديدة توزَّعت بين كُتَّاب ساندوا وجهة نظر المخزن، وآخرين تصدَّوا لهذا الموقف الرَّسمي. ورغم أن الكتابة المُعارضة تضيق دائرتها ضمن النُّصوص التي وصلتنا، فإننا مع ذلك نتلمَّس معالمها من خلال الكتابات المُؤيدة لوجهة نظر السُّلطان الحسن، حيث نجد السّملالي يتصدَّى للكُتَّاب الذين رفضوا فرض المكس الذي دعا السُّلطان إلى أخذه من الرَّعية، ونعتهم بعلماء السوء. بل إنه تقدَّم باقتراح قاس يدلُّ على نوع من العنف اتّجاه الرّأي المخالف، وهو “إزالة دماغ من فسد مزاجه ولم تنفع فيه المداواة، إذ هو دواء من لا دواء له”. وهذا يعني فيما يعنيه أن قرار فرض المعونة أو المكوس بأنواعها المختلفة في عهد السّلطان الحسن لم يكن أمرا يسيرا، إذ كان من الصَّعب تجاوز صخرة المعارضة القويَّة لفئة العلماء.
إن مراجعة دقيقة لعدد من الكتابات بشأن مواقف العلماء من التّرتيب تجعلنا نُعيد النَّظر في عدد من الأحكام التي أقَرَّتْ فكرة معارضة جميع العلماء، بدون استثناء، لهذه الضّريبة. ذلك أن تعميم هذا الحكم مردُّه إلى عدم الاطلاع على أجوبة الفقهاء المُسانِدة لهذه الضَّريبة والاقتصار فقط على إيراد أسماء المُعارضين ومن أطرقوا صَمْتاً. ولذلك فالجزم بأنَّ العُلماء كانوا جميعا ضِدَّ التَّرتيب الحسني أمر لا يثبت أمام المعطيات الجديدة التي وقف عليها صاحب الكتاب الباحث خالد طحطح في هذه الدِّراسة التي تحمل عنوان العلماء وضريبة الترتيب الحسني.
إن الآراء الفقهية في قضية المكوس تراوحت بين التأييد المشروط حينا والتَّحريم الصَّريح حينا آخر، وقد اتَّسمت سياسة الدَّولة العلَوِيَّة خلال القرن التَّاسع عشر فيما يخص هذه الضريبة تحديدا بالتذبذب، حيث تأرجْحَت بين الوجوب والإلغاء، وذلك تبعا للوضعية المادية للسلطة، وللظروف المحيطة؛ فبعض السلاطين ولاستمالة العلماء إلى صفوفهم، كانوا يلجؤون إلى إلغاء المكوس في بداية ولايتهم. وبعضهم كان يلجأ إلى استصدار فتاوى مؤيدة للمكوس في إطار الاستشارات السلطانية الموجَّهة، وجُلُّها استندت إلى تبريرات فقهية تجاوزت النُّصوص الشَّرعية مستندة إلى المقاصد والمصالح بدلا من اعتماد حرفيَّة النص، والبعض منهم أهمل أخذ رأي العلماء فيها، مقرِّراً الاستمرار في جبايتها.
يُمكن التّمييز إذن بين رأيَيْنِ مُختلفين يعبِّران عن موقفين متضادَّين من التَّرتيب، موقف الرّفض وموقف التّأييد. ولا يمكن بأي حال من الأحوال ربط هذه المواقف بالنِّسبة لهذه الضَّريبة، على الأقل، بذلك الَّتمييز الذي يضعه الباحثون عادة بين رجل السِّياسة أو الفقيه السُّلطاني والفقيه الدِّيني، غير أننا نجد غالبا ارتكاز مواقف الفقيه الدِّيني على التمسُّك الحرفي بالشَّريعة وبالرُّجوع في كثير من الأحكام إلى النَّقل، بينما يرتكز الأديب السُّلطاني على الرُّؤية الواقعيَّة ومستجدَّات العصر.
أبرز خالد طحطح في كتابه مواقف العلماء والكُتاب المساندين للمكوس خلال العهد العلوي وهم : أبو القاسم الزياني، ومحمد بن إبراهيم السباعي والحسين بن عبد الرحمان السوسي السملالي والطاهر بلقاسم بن العباس العناي المراكشي وعلي بن محمد السوسي السملالي، وتوقف عند الحجج التي استندوا عليها في تبريرهم لهذه الضريبة المستحدثة، كما عرض مواقف المعارضين للضريبة وهم محمد أكنسوس وأحمد بن خالد الناصري وإبراهيم التادلي الرباطي ومحمد بن مصطفى المشرفي والطيب بن اليماني بوعشرين.
ويخصص الباحث خالد طحطح القسم الثاني كاملا لتخريج مخطوط عناية الاستعانة في حكم التوظيف والمعونة باعتباره أهم نص نوازلي بالمغرب خلال القرن التاسع عشر في موضوع الجبايات، فهذا الجواب فريد منْ نَوعه، إذ يعبر عن موقف فِقْهِي اسْتِثْنائِي مُسانِد لضريبةٍ شِبْه وَضْعِيَّة تَمَّ سَنُّهَا بعد مؤتمر مدريداعتماداً على معايِّير وأسُس جديدة؛ فقد نظر المؤلف السملالي إلى المصلحة المتعيَّنة عقلا، وأعطاها الأولوية. وقد دَمج على غير العادة في نَصِّ جوابه بين الأساسِ الفِقْهيِّ الأصوليِّ والأساس السِّياسيّ التَّاريخيّ، كما اسْتَوْعَبَ مواضيعَ أخرى تتعلَّقُ أساساً بالسِّيَّاسَةِ المُلوكِيَّةِ ووظفها لتبرير موقف السلطان الحسن الأول.
يُعتبر عناية الاستعانة في حُكم التَّوظيف والمعونة من أهَمِّ الكتب التي أُلِّفت في فقه النَّوازِل بالمغرب خلال القرن 19م، فقد رَبَطَ فيه مُؤَلِّفُهُ نَجَاحَ إصْلاحِ الجيش النِّظامي المُقترح بالمَدَدِ الماليّ، ولذلك وَازَرَ الضَّرائب التي فرضتها السُّلطة باعتبارِها مَعونة، وليْسَتْ أبداً مِنَ المُكوسِ المُحَرَّمَة. كما يعتبر هذا الجواب في جوهره ردّاً مباشرا على العُلماء الذين استنكروا ضرائب الأبواب التي تضمَّنها التّرتيب الحسني لسنة 1881 باعتبارها من المُكوس المُحَرَّمة، وهو مُصنَّفٌ في مُقدِّمة، وثلاثة أبواب، وخاتمة، بما مجموعه واحد وثلاثون فصلا، أخْذاً بعينِ الاعتبار ذيْلَيْنِ إضافِيَيْنِ جاءا تحت اسم البَابَيْن الخامس والسَّادس. ويوحي مضمون البابين، اللّذين هما في الأصل فصلين إضافيين، أنهما تابِعَيْنِ للخاتمة، فأحدهما في سياسة الملك بالإشارة بذكر حِكَمٍ منقولةٍ في سياسة الغزالي حكاية حكاية، والآخر في تنبيه كل مالك بذكر لطائفَ يَقْتَدِي بِهَا كُلُّ وَالٍ سالك.
تعليقات الزوار ( 0 )