عنون المقال كما توصلت به جريدة بناصا هو :
الخلافة الراشدة: مطلوبة وممكنة في كل زمان ومكان.. قراءة جديدة في حديث الخلافة والملك
إليكم المقال كاملا:
هذه المقالة تتضمن مراجعة ونظرا جديدا في التفسير السائد للحديث النبوي الشريف حول الخلافة والملك. وهو الحديث الذي خرَّجه الإمام أحمد في مسنده، كما خرجه محدِّثون آخرون في مصنفاتهم..
والحديث يخبر عن أطوار سياسية ستمر بالمسلمين مع حكامهم؛ من عهد النبوة، تعقبها خلافة راشدة على منهاج النبوة، إلى مُلك عاضٍّ، فملكٍ جبري، فعودة إلى خلافة على منهاج النبوة..
وقبل التطرق إلى مضامين هذا الحديث وما فيه من أطوار وتقلبات، وما نجم عن تفسيرها من تصورات وتوقعات.. أُورد أولا نصَّ الحديث، كما هو في المسند الأحمدي.
روى الإمام أحمد رحمه الله، بسنده إلى حذيفة رضي الله عنه قال:
“قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها. ثم تكون مُلكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت.
قال حبيب[1]: فلما قام عمر بن عبد العزيز [أي: لما أصبح خليفة]، وكان يزيد بنُ النعمان بنِ بشير في صحابته، فكتبت إليه بهذا الحديث أُذكِّره إياه، فقلت له: إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين – يعني عمر – بعد الملك العاض والجبرية. فأَدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز، فسُرَّ به وأعجبه”.
غير أن الاعتقاد السائد قديما، وإلى الآن، هو أن هذا الحديث النبوي قد حكم على التاريخ الإسلامي كلِّه – باستثناء فترة النبوة والخلافة الراشدة – بأنه سيكون تحت سيف الملك العاض والملك الجبري، إلى أن تعود الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، في آخر الزمان..
قال الشيخ مُلَّا علي القاري: “والمراد بها: زمنُ عيسى عليه الصلاة والسلام، والمهدي رحمه الله”[2].
وقال عبد الحق البخاري الدِّهلوي: “قولُه: (ثم تكون خلافةٌ على منهاج النبوة): الظاهر أن المراد به زمنُ عيسى والمهدي”[3].
ومن المعاصرين يقول سعيد حوى رحمه الله: “وفي الحديث إشارة إلى الخلافة الراشدة في آخر الزمان، والتي تكون بعد الملك الجبري، كما نصت على ذلك نصوص منها: روى أحمد عن حذيفة رضي الله عنه…”[4].
ملاحظات على هذا الفهم للحديث
الملاحظة الأولى: أنه فهم لا دليل عليه، وإنما هو مجرد تخمين وتوهم.. ويستند بعضهم على ربط هذا الحديث ودمجه مع أحاديث وروايات أخرى، منها ما يصح ومنها ما لا يصح. وما يصح منها لا دلالة له في مسألتنا.. فالحديث – بمختلف رواياته – مسقل بموضوعه، وهو ذكر أطوار مختلفة للحكم وأصناف الحكام.. وقد جاء في آخِـر الحديث: “ثم تكون خلافةٌ على منهاج النبوة، ثم سكت”. أي: سكت النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذكره عودة الخلافة على منهاج النبوة. ولم يقل بعدها: ثم تقوم الساعة، أو ثم ينزل عيسى بن مريم.. أو نحو ذلك من أشراط الساعة..
الملاحظة الثانية: أن هذا الفهم قد أحدث لدى المسلين إحباطا عميقا ويأسا مزمنا، من قيام حكم رشيد وحكام راشدين، إلا في “آخر الزمان”. وحتى العلماء ودعاة الإصلاح خفضوا سقف مطالبهم ومراميهم وتوقعاتهم الإصلاحية السياسية، ووقفوا بعيدا عما جاء به الشرع الحنيف، وجسدته السنة النبوية وسنة الخلفاء الراشدين، على أساس أن ذلك النموذج قد مضى وقته الأول، ولم يحِنْ بعدُ وقته الثاني. وسادت مقولة (كما تكونون يولَّى عليكم)، وأنَّ فساد الحكام والولاة “ليس لنقص فيهم فقط، بل لنقص في الراعي والرعية جميعا”[5]، كما يقول ابن تيمية.
الملاحظة الثالثة: أن نص الحديث قد جاء مشفوعا بتفسير زمني له، هو أقرب للصواب وأولى بالاعتماد.. وهو أن بعضا من علماء التابعين فهموا من الحديث أن العهد الأموي نفسَه قد تجسَّد فيه الملك العاض، والملك الجبري، ثم العودة إلى الخلافة على منهاج النبوة.. لتبدأ بعد ذلك دورة تاريخية أخرى.. وهو الفهم الذي لم يعترض عليه الخليفة عمر بن عبد العزيز، بل “سُرَّ به وأعجبه”.
والعلماء مجمعون – أو شبهُ مجمعين – على أن عمر بن عبد العزيز خليفة راشد، وأنه خامس الخلفاء الراشدين. قال ابن رجب: “ونص كثير من الأئمة على أن عمر بن عبد العزيز خليفة راشد أيضا… وكان محمد بن سيرين يُسأل أحيانا عن شيء من الأشربة فيقول: نهى عنه إمامُ هدى، عمرُ بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه”[6].
وشهادة هؤلاء العلماء بأن عمر بنَ عبد العزيز كان خليفة راشدا على منهاج النبوة، هي شهادة ضمنية منهم بأن الأطوار المذكورة في حديث حذيفة قد أكملت حلقاتها بتوليه الخلافة سنة تسع وتسعين (99) للهجرة، ولم تنتظر لا آخر الزمان، ولا مَهديَّهُ المنتظر. بل لم تنتظر حتى دخول القرن الثاني للهجرة!
الخلفاء الراشدون: هل هم بأعيانهم، أو بأزمانهم، أو بأوصافهم؟
عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت لها الأعين ووجلت منها القلوب. قلنا – أو قالوا – يا رسول الله كأنَّ هذه موعظةُ مودِّع فأوصنا. قال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا؛ فإنه من يعش منكم يرى بعدي اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وإن كل بدعة ضلالة).
لا شك أن الخلفاء، إنما يُـعَدُّون راشدين بصفاتهم وأفعالهم، وليس بأعيانهم ولا بأزمانهم. وصفة “الراشدين” هي أُولى تلك الصفات وأُمُّها، ثم صفة “المهديين”.
قال ابن رجب: “وإنَّما وصف الخلفاء بالراشدين؛ لأنَّهم عرفوا الحقَّ وقَضَوا به، فالراشدُ ضدُّ الغاوي، والغاوي مَنْ عَرَفَ الحقَّ وعمل بخلافه.
وفي رواية: (المهديين)، يعني: أنَّ الله يهديهم للحقِّ، ولا يُضِلُّهم عنه.
فالأقسام ثلاثة: راشدٌ، وغاوٍ، وضالٌّ.
فالراشد عرف الحقَّ واتَّبعه،
والغاوي: عرفه ولم يتَّبعه،
والضالُّ: لم يعرفه بالكليَّة.
فكلُّ راشدٍ فهو مهتد، وكل مهتدٍ هدايةً تامَّةً فهو راشد؛ لأنَّ الهدايةَ إنَّما تتمُّ بمعرفة الحقِّ والعمل به أيضاً”[7].
وصفات الرشاد والاهتداء والسداد، ليست درجة واحدة، يتساوى فيها الراشدون المهديون، بل هي صبغة عامة مستقرة، ثم يتفاوت أصحابها في تفاصيلها ومقاديرها. فالخلفاء الربعة متفاوتون في صفات الرشد والاهتداء. وكذلك الصحابة عموما؛ يشتركون في شرف الصُّحبة وفضلها، ولكنهم في ذلك طبقاتٌ ومراتبُ ودرجات. وقد نُقل عن الإمامين مالك وأحمد رضي الله عنهما أن: مَن صحبَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سنة أو شهرا أو يوما، أو رآه مؤمنا به، فهو من أصحابه، له من الصحبة بقدر ذلك.
وعليه، فالصحابة منهم صحابة النظرة الواحدة، وصحابة يوم أو أيام، وصحابة مرات متعددة، ومنهم صحابة سنين طويلة أو قليلة. وكلهم صحابة..
وحتى الرسل المصطفَوْن، صلاة الله وسلامه عليهم ، قال عنهم المولى عز وجل: {تِلكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ} [البقرة: 253]، وقال: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55].
وإذا كان الخلفاء الراشدون المهديون الأربعة هم المثل الأعلى من غير الأنبياء، فمما لا شك فيه أن مرتبة عمر بن عبد العزيز، هو دون مرتبة الأربعة، ومع ذلك فقد استحق أن يكون في عداد الخلفاء الراشدين.
وعلى هذا، فإذا وجدنا من حكام المسلمين – بغض النظر عن ألقابهم – من كان يتحرى منهاج النبوة في السياسة والحكم، ويقتفي نهج الخلفاء الراشدين، وكان في عموم صبغته وسيرته راشدا مهتديا مستقيما، فلا بد أن نَعُدَّه خليفة راشدا، ولو قَصُرت درجتُه عن تجسيد منهاج النبوة وبلوغِ مراتب الخلفاء الأربعة، ولا حتى مرتبة عمر بن عبد العزيز. والقاعدة أن: ما قارب الشيءَ يُعطَى حكمَه.
فإذا أخذنا بهذا النظر، ورجعنا نتصفح تاريخنا بطوله وعرضه، فسنجد أن خلفاءنا الراشدين ليسوا فقط أربعة أو خمسة، بل هم إلى الأربعين أو الخمسين أقرب.. وسنجد أن تاريخنا ليس كله مُلكا عضوضا وملكا جبرية، بل سنجده يتقلب – على نحو ما جاء في الحديث – بين رشد، وعضٍّ، وجبر..
ما أقصد الوصول إليه هو أن باب الحكم الرشيد والحكام الراشدين، ليس مغلقا في وجه المسلمين، بحيث ليس لهم سوى انتظار آخر الزمان، بل يمكنهم – ويجب عليهم – أن يسْعَوا دوما إلى تولية الراشدين، واستبعاد الفاسدين، وتنحية المستبدين.
وكل هذا ممكن ومتاح – بأسبابه وسننه – في كل زمان ومكان..
وبالله تعالى التوفيق وهو يتولى الصالحين.
[1] هو حبيب بن سالم (التابعي)، مولى النعمان بن بشير وكاتبُه
[2] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح8/ 3376
[3] لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (8/ 578)
[4] الأساس في السنة وفقهها 2/ 960
[5] مجموع الفتاوى لابن تيمية، 35/ 20
[6] جامع العلوم والحكم ص: 264
[7] جامع العلوم والحكَم 23
تعليقات الزوار ( 0 )