“إن المثقف عبر عملية المعارضة والروح النقدية يمكن أن يزيل النفاق، ويكشف الزيف ويهيء الأرض للتغيير“
*شيلي واليا كاتب أفغاني وأستاذ الأدب الإنجليزي
“الإنسان الذي له المؤهلات الثقافية ويحافظ على كفاءته الفكرية وقدرته التحليلية وتماسكه الأخلاقي على الرغم من السجن والمنفى والاضطهاد هو مثقف يستحق الاحترام”.
*عزمي بشارة مفكر فلسطيني عن كتابه المثقف والثورة
يعتبر كتاب الرسالة الثانية من الإسلام، أحد الكتب التي كانت سببا رئيسيا للحكم على مؤلفها بالإعدام، وصاحب هذا الكتاب هو المفكر والسياسي السوداني محمود محمد طه المزداد في مدينة رفاعة، وسط السودان، عام 1909، وهو من أبناء قبيلة الركابية، وبالتحديد من فرع الركابية البليلاب المنتسبين إلى الشيخ المتصوف حسن ود بليل، أحد كبار متصوفة السودان.
السياسة والدين مرة أخرى
يعتبر الرجل مؤسس الحزب الجمهوري، أدخلته أفكاره الدينية “الجريئة والغريبة” وأراؤه السياسية السجن مرات متعددة ، إلى أن قضت المحكمة الابتدائية برئاسة القاضي المهلاوي بالردة والإعدام رفقة كل من عبد اللطيف عمر حسب الله وتاج الدين عبد الرزاق حسين وخالد بابكر حمزة ومحمد سالم بالعشر، بعد استتابتهم خلال تلاثة أيام من تاريخ النطق بالحكم نهائيا وقد أيد الحكم استئنافيا برئاسة القاضي المكاشفي، وكان ذلك في عهد نظام جعفر نميري وفعلا تم إعدام محمود طه، في 18 يناير 1985. بعد رفضه كل المحاولات التي دعته للتراجع عن أفكاره في حين تراجع رفاقه بعد وفاته، وقد جاءت توبتهم ورجوعهم عن أفكارهم بعد جلسة مع عدد من العلماء أنذاك وجاء ت صيغة التوبة حسب ما ورد في تسجيلات الفيديو المنشورة باليوتيوب كما يلي:
(بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين أنا المسمى عبد اللطيف عمر حسب الله المحكوم على بالإعدام للردة عن الإسلام أعلن توبتي لله العلي الكبير، والرجوع عن كل أفكاري وأرائي التي أخذتها عن الكافر المرتد محمود محمد طه الذي اخرجني عن ملة الإسلام حتى أماته الله شنقا في سجن كوبر في 26زبيع الثاني 1405 هجرية والحمد لله الذي أنعم على بالعودة لدين الله، وأن محمدا رسول الله وأتبرأ من كل ما كان عليه محمود طه من عقائد فاسدة ومخالفة للإسلام).
في حين أصر محمود محمد طه على مواقفه وأفكاره وقد وقف مقاطعا القاضي خلال محاكمه قائلا: (أعلنت رأيي في قوانين سبتمبر 1983 من انها مخالفة للشريعة والإسلام، أكثر من ذلك فإنها شوهت الشريعة وشوهت الإسلام ونفرت عنه، يضاف إلى ذلك أنها وضعت واستغلت لإرهاب الشعب وسوقه إلى الإستكانة عن طريق إذلاله ثم إنها هددت وحدة البلاد، هذا من حيث التنظير وأما من حيث التطبيق فإن القضاة الذين يتولون المحاكمة غير مؤهلين فنيا، وضعفوا أخلاقي عن أن يمتنعوا عن أن يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية، تستعملهم لإضاعة الحقوق وإذلال الشعب وتشويه الإسلام وإهانة الفكر والمفكرين وإذلال المعارضين السياسين، ومن أجل ذلك فإنني لست مستعدا للتعاون مع أي محكمة تنكرت لحرمة القضاء المستقل..) من تسجيلات المحاكمة في سبتمبر 1983م.
وتعتبر قوانين سبتمبر1983م التي رفضها محمود طه وشكلت الذريعة الأولى للمحاكمة، هي قوانين أصدرها الرئيس السوداني الأسبق جعفر محمد نميري، والتي قام بموجبها بإعلان تطبيق الشريعة الإسلا مية في الحدود بقطع يد السارق ورجم الزاني المحصن وغيرها من الجنايات والجرائم .
وبموحب هذه القوانين نصب نميري نفسه إماما على المسلمين. ولقد ساعده في صياغة هذه القوانين وتنفيذها مجموعة من الإسلاميين على رأسهم الدكتور حسن الترابي(زعيم جبهة الميثاق سابقا/ورئيس الجبهة الإسلامية القومية لا حقا) لكن هذه المحاكمة ستتحول من محاكمة سياسية إلى محاكمة عقدية فكرية، لما جاء كتابه الأساسي الرسالة الثانية من الإسلام.
وتثمثل الفكرة الثوريه التي دعا إليها محمود محمد طه في كتابه رسالة الإسلام الثانية في تقسيمه الدين الإسلامي إلى مستويين : المستوى الأول أسماه بالإسلام المكي، وتمثله السور المكية في المستوى الكريم وعددها 86 سورة نزلت على الرسول محمد بين عامي 610 و622، والمستوى الثاني الذي أسماه الإسلام المدني وتمثله السور المدنية في القرآن وعددها 28 سورة نزلت على الرسول بين عامي 622 و632.
ويعتبر أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو رسول الرسالتين معا، وأنه فصل الرسالة الأولى للمجتمع القرن السابع وأجمل الرسالة الثانية إلى حين وقتها المعلوم، واعتبر أن الرسول له مقامات متعددة منها مقام الرسول ومقام النبوة ومقام الولي، وأن الإنسان الكامل يصل إلى قمة الكمال المثمتل في الحقيقة المحمدية، وفي قاعدة الكمال عموم الخلق، باعتبارهم يتصفون بصفات الله من كونه مريدا وعالما وقادرا، سميعا بصيرا، لكن صفات الله في حد الكمال وصفات الخلق في جانب النقص من الكمال، وأن هدف الإسلام هو البلوغ بالإنسان الي الكمالات الإلهية مصداقا لقوله تعالى :(ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) صدق الله العظيم.
ويؤمن طه بأن الإسلام الحقيقي المرسل للعالمين هو الإسلام المكي الموجه للإنسانية جمعاء وهو بذلك يعتبر أصل الدين العقائدي التوحيدي الداعي لعبادة الله الواحد الأحد، والمليء بآيات الرحمة والتسامح وهو الرسالة الأولى للإسلام.
في حين أن الإسلام المدني أو إسلام المدينة هو الإسلام التاريخي المعبر عن عصر القرن السادس، ومخصوص لتلك الفترة من الزمان وهو إجابة زمنية للأسئلة الصادرة عن أهل ذلك الزمان وحلولا لما ثار أمامهم من وقائع وصعوبات ومشاكل، والإسلام المدني في رأيه هو فرع في الدين نزل على الرسول ليحكم من خلاله في الزمن الذي كان يعيش فيه، وانتهى هذا الإسلام بانتهاء عصر الرسول ومن بعده الصحابة والتابعين وتابعيهم، وما تلاهم من عصور.
المثقف والعسكر
يقول محمود محد طه في الرسالة الثانية من الإسلام، من كتاب نحو مشروع مستقبلي للإسلام الصفحة 93:(…فإنه من الخطأ الشائع أن يظن إنسان أن الشريعة الإسلامية في القرن السابع تصلح بكل تفاصيلها للتطبيق في القرن العشرين، ذلك بأن اختلاف مستوى مجتمع القرن السابع عن مستوى مجتمع القرن العشرين أمر لا يقبل المقارنة، ولا يحتاج العارف ليفصل فيه تفصيلا..) ثم يقول :(إنه لحق أن النبوة قد ختمت ولكنه ليس حقا أن الرسالة قد ختمت… الخ) ويقول كذلك :(إن الدين لا يتطور، يتطور الإنسان في فهمه له… لابد من تطوير الشريعة لمواجهة تحديات العصر ومطالب الإنسان) صفحة 79 من كتاب محمود طه والمثقفين قراءة في المواقف وتزوير التاريخ لعبد الله الفكي.
وهو يعتبر أن آيات الجهاد والسبي وملك اليمين والميراث والتمييز بين الرجل والمرأة والحدود.، هي أيات زمنية مرتبطة بأسباب نزولها التاريخية، وأن رسالة الإسلام المكي تستوعب إنسانية القرن العشرين في مراعاة الحقوق وحرية المعقد والفكر والتسامح لقول الله تعالى : (ا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الآية (256) من سورة البقرة وقوله تعالي (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين) صدق الله العظيم.
ويرى محمود محمد طه أن الرسالة الثانية هي الرسالة الأبدية باعتبارها هي الرسالة العالمية الموجهة لكل الناس والصالحة لكل الأزمان لكونها هي الرسالة التي تتضمن دعوة توحيد الألوهية والربوبية وكل آيات الرحمة والتسامح وهي في رأيه جوهر الدين الإسلامي، وهي القابلة للاستمرار، بينما كانت الرسالة الأولى ضرورية في زمانها وهي بنت فترتها، وكانت استجابة موضوعية تاريخية لبناء أمة الإسلام،، حتى يكون الخطاب مقنعا ومفهوما للمتلقين في تلك الفترة وعلى حد مبلغ علمهم وتصوراتهم الفكرية ، أما الرسالة الثانية فهي الضامنة لاستمرارية صوابية الدين وصلاحيته لكل العصور و الأزمان.
هذه الأفكار الجريئة إضافة إلى موقف محمود محمد طه المعارض لسلطة جعفر النميري المستغل للهوس الديني المستشري آنذاك بمساعدة الأدعياء والطامعين في الحكم، والذي تجلى في رفضه القوانين التي أصدرها في سبتمبر 1983، وتجلى رفضه لها عن طريق توزيع منشور تحت عنوان هذا أو الطوفان بواسطة طلبته من أعضاء وانصار الحزب الجمهوري.
المثقف أمام حبل الشنقة
ولأجل ذلك تم القبض عليه بهذه الذريعة، ثم بعد ذلك تم تحويل موضوع هذه المحاكمة من محتوى سياسي معارض معارضة سلمية إلى محاكمة ردة وتكفير حكم عليه في نهايتها بالإعدام، وفي شهادة عيان سجلتها الصحفية الأمريكية جوديت ميلر المراسلة السابقة لصحيفة نيويورك تايمز في الشرق الأوسط، في كتابها الذي أسمته (لله تسعة وتسعون اسما God has ninety nine names) وصفت فيها واقعة تنفيذ الإعدام كما يلي :
“كان صباحا مثاليا بعد سويعات تصبح الخرطوم خانقة، ولكن عند الساعة 6 صباح 18 يناير من عام 1985 م كان الجو صافيا وكانت السماء قد لبست زرقة حمام السباحة…. بعد ساعة خرجت في طريقي إلى سجن كوبر، مساحة سجن كوبر مستطيلة الشكل بحجم ميدان كرة قدم، عندما وصلت برفقة جمال محيي الدين مدير مجلة التايم بمصر، كانت ثلاثة أرباع تلك المساحة ممتلئة بالناس، كنت ألبس جلبابا أبيض فضفاضا وغطاء رأس…. كانت المشنقة في الجانب البعيد من الساحة مرتفعة نوعا ما، غير أنها أقل من ارتفاع جدران السجن المبنى من الحجر الرملي، كان المشهد في كوبر مرحا، لا شيء يشبه الصور المتجهمة التي رأيتها في السجون الأمريكية حيث يحتشد أصدقاء وأقارب المحكوم عليهم بالإعدام…. قبل الزمن المحدد بقليل، قيد محمود محمد طه ويداه مربوطتين خلف ظهره، بدأ لي أقل حجما مما كنت أتوقع، ومن المكان الذي كنت أجلس فيه، وبينما كان الحراس يسرعون به إلى الساحة، بدا لي أصغر من عمره البالغ ستة وسبعين عاما، سار مرفوع الرأس، وألقى نظرة سريعة على الحشد، عندما رآه الحاضرون انتصب كثيرون منهم واقفين على أقدامهم،…. تمكنت فقط من التقاط لمحة خاطفة من وجه محمود طه، قبل أن يضع الحارس الذي قام بالتنفيذ كيسا ملونا على رأسه وجسده، ولن أنسى ما حييت التعبير المرسوم على وجهه، كانت عيونه متحدية، وفمه صارما ، ولم تبدُ عليه أي علامة من علامات الخوف، بدأ الحشد في الهتاف بينما كان مجندان سودانيان يضعان عقدة الحبل علي رقبة محمود طه، ورغم ضجيج الحشد الذي ابتلع أصوات الجنديين، إلا أنه بدأ وكأنهما كانا يصيحان ضده، فجأة تراجع الحراس للوراء ثم سحبت أرضية المنصة، فهوى الجسد في الفراغ …. عند وصولي للمدخل لويت عنقي لألقي نظرة أخيرة على المشنقة، كان الكيس وجسد طه لا يزالان متدليان… لدى كثير من السودانيين الذين هللوا لإعدامه في ذلك اليوم، فإن طه اقترف أسوأ جريمة يمكن أن ترتكب، لقد أدين بتهمة الردة عن الإسلام، وهي تهمة نفاها طه الذي أصر حتى النهاية أنه ليس مهرطقا أو مرتدا عن الإسلام وإنما هو مصلح ديني…).
من كتاب نحو مشروع مستقبلي للإسلام صفحات 34و35 و36.
وقد أجرت نفس الصحفية حوارا مع الرئيس الأسبق للسودان جعفر النميري عقب تنفبذ الإعدام، وسألته لماذا قتلت محمود طه؟ فأجاب أنتم تقولون أنه معتدل لكنه ليس كذلك، ثم قال القرآن يوصي بقتل المرتدين ولا يستطيع الرؤساء والملوك تغيير ذلك،) نفس المرجع السابق.
الستار لم يُسدل بعد
وسواء أصاب أو أخطأ محمود طه فإن ما قاله كان مجرد رأي واجتهاد في الدين، لم يكن يستوجب القسوة والاضطهاد اللذين عومل بهما، وكذلك كان الحكم عليه بعقوبة الإعدام.
لكن يبدو أن السبب الحقيقي لمثل هذه الأحكام ليس هو تحقيق العدالة، ولكنه يكمن في أن الأنظمة الشمولية الديكتاتورية التي تصل للحكم بواسطة العسكر والسلاح تكون مرتابة خائفة من الأفكار، أكثر من خوفها من العوام لأنهم بطبيعتهم خانعين خائفين يسهل انقيادهم باعتبارهم قطيع ، فكان لا بد من إسكات أي صوت معرض وإعطاء المثال والدرس من أجل ردع كل من تسول له نفسه في التفكير أو إبداء الرأي حول السلطة أو الدين ولو كان مجد اجتهاد.فهو لم يدي النبوة، وإنما ادعى الفهم من القرآن أن للإسلام رسالتان وليس رسالة واحدة. واحدة انتهت وأخرى مستمرة .
لقد كانت محاكمة محمود طه محاكمة سياسية متلبسة بلبوس الدين مثل محاكمة الحلاج والسهروردي وغيرهما.
ويبقى ماورد في هذه الرسالة الثانية من أفكار أسئلة مشرعة ، خارجة عن النص، مثيرة للجدل حقا، ومغردة خارج السرب.
*محام بهيئة القنيطرة
تعليقات الزوار ( 0 )