كنت في هذه الأيام أتصفح بعض الجرائد الرقمية إذا بنظري يقع على خبر وفاة المواطن التونسي (أحمد الحفناوي) صاحب مقولة “هرمنا من أجل هذه اللحطة التاريخية”. في 15 يناير 2011 كان الرجل يتجول في أحد شوارع العاصمة التونسية بعد يوم واحد من رحيل زين العابدين بن علي وزوجته منتكصين على عقبيهما.
في ذلك اليوم المشهود من تاريخ تونس رصدته كاميرات وسائل الإعلام صدفة أنذاك وسألته عن الرسالة التي يريد توجيهها إلى العالم بعد رحيل بن علي ونظامه، فأجاب الحفناوي بقوله:” إنها فرصتكم أيها الشباب التونسي، الآن تستطعون أن تقدموا للإنسان التونسي ما لم نستطيع عليه نحن” ثم قال عبارته الشهيرة “هرمنا.. هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية”.
عادت بي الذاكرة إلى الوراء عند قراءتي لهذه العبارة، رجعت بي إلى زمن الإنتفاضات العربية أو ما يسمى بالربيع العربي. أتذكر الجماهير العربية الذين انتفضوا في وجه المستبدين فأسقطوهم من فوق عروشهم الواحد تلو الآخر دون اللجوء إلى العنف كما كان يحدث في الماضي وهذا إنجاز يجب أن نثمنه ونقدره.
جرب العالم العربي في العقود الماضية العنف في حل مشاكله السياسية فلم يفلح، لأن العنف لا يحل المشاكل بل يزيدها تعقيدا ويحدث قتنة في المجتمع. في انتفاضات الربيع العربي جربت آلية العصيان المدني فأتت أكلها. وهذا تحول كبير في عقل الإنسان العربي المسلم في مواجهة الإستبداد!!
لكن هل يكفي تحقيق هذا الإنجاز التاريخي لبناء دولة ديمقراطية تخلو من الإستبداد والفساد؟!
إن منظري الربيع العربي استطاعوا بعملهم الدؤوب تحميس الجماهير وتعبئتهم للخروج إلى الشارع معتصمين ومنتفضين سلميا في وجه الفساد والإستبداد. رحل بنعلي في تونس ومبارك في مصر. استبشر الجماهير خيرا وتفاءلوا بغد أفضل. أجريت الإنتخبات الحرة واستلم الفائزون زمام الحكم وباشروا عمل تسيير الدولة بروح معالجة المشاكل المتراكمة.
لم يدر العام عن تولي حكام الجدد في مصر حتى أطلت علينا رؤوس أخطبوط الإستبداد من جديد وانقلب على الحكام الشرعيين. قتل من الأبرياء ما لا يحصى وغيب الباقي في غيبات السجون فمنهم من مات تحت التعذيب ومنهم من ينتظر! لم نرى هذه المرة الجماهير تنتفض ضد الإستبداد العسكري حماية للديمقراطية الفتية، بل قطاع كبير من الشعب المصري أيد الإنقلاب نكاية في الحزب الذي فاز في الإنتخابات!
ما حدث في مصر حدث أيضا في تونس لا حقا! أما ليبيا فأغرقت في حلقة العنف والعنف المضاد، هي حلقة شيطانية تأتي على الأخضر واليابس!…
لم تأتي الثورات العربية بالتغيير المنشود الذي انتظره الحفناوي التونسي طوال عمره! لم يحقق الشباب التونسي أمنيته، بل الذي حصل هو العكس، أرجع المستبد عقارب الساعة إلى الوراء!.. حل مؤسسات الدولة وأحدث مكانها مؤسسات تابعة لحزبه تحمي التنوسيين -في زعمه- من الشرذمة التي تتسلل إلى صفوفهم وتفسد عليهم عقولهم وتوجهاتهم.
لم يهب الشعب التونسي لحماية الديمقراطية ومنجزات الثورة لإعتبارات وحسابات إديولوجية ضيقة لا تخدم مصالح البلد. لم يكن الإنسان التونسي في المستوى المطلوب للتصدي لهذا التطاول الصارخ على مؤسسات ومكتسبات الشعب. وهذا يدل على أن الإنسان التونسي خاصة والإنسان العربي عامة لم يفقه معنى الديمقراطية، لم تفعل في نفسه كآلية لضمان التعددية في المجتمع وتأسيس لمناخ يسمح للمجتمع بالتعبير والوجود والنمو المتبادل ووضع مصلحة الشعب وإنجازاته فوق كل اعتبار ومصلحة!
لا يمكن للديمقراطية أن تأتى أكلها فقط بإحداث الثورة وإسقاط المستبد!… لا تتحقق كواقع سياسي إلم تكن شروطها متوفرة في بناء الشخصية وفي العادات والتقاليد القائمة في البلد. وهذه الشروط ليست من وضع الطبيعة، بل هي خلاصة ثقافة معينة جاءت كتتويج لنضال وجهاد الإنسان وتقدير لقيمته: تقديره لنفسه وتقديره للآخرين.
في أوروبا استغرق البناء الديمقراطي قرونا عدة. فمنذ نهاية الإمبراطورية الرومانية بدأ الشعور الديمقراطي ينمو ببطء إلى قيام الثورة الفرنسية التي غيرت وجه الحياة الإجتماعية والسياسية في المجتمعات الأوروبية.
بدأ الشعور الديمقراطي يأتي أكله في الفترة ما بعد الثورة الفرنسية، فترة التصريح بحقوق الإنسان والمواطن. وهذا الشعور الديمقراطي هو تتويج للحركتين المهمتين في تاريخ أوروبا: الإصلاح الديني وحركة النهضة اللتين أحدثتا تطورا في مجال الروح والعقل. بهذا الإرث الروحي المعرفي استطاعت أوروبا أن تعيد الإعتبار للإنسان كمواطن ومسؤول وفاعل في المجتمع بعدما أن كان عبدا مسخرا أينما توجهه لا يأتي بخير!…
فالنضال الطويل الذي قاده المفكرون والفلاسفة الأوربيون كانت نتيجته إعادة للإنسان الأوروبي اعتباره وكرامته. فبعدما كان تابعا للملك أو مولاه، سمي بالمواطن الحر له قدره في المجتمع. يعرف واجباته وحقوقه ويميز بين مصلحته ومصلحة البلد أيهما الأفضل!
فلا يمكن للشعور الديمقراطي أن ينمو في وسط يعاني فيه الإنسان كل ألوان الظلم والقهر والإستعباد والمحسوبية والصراعات المذهبية والحزبية!…
فهذا الوسط يحتاج إلى عملية تصفية. تصفية نفس الإنسان من الفساد حتى يصبح إنسانا بروح جديدة في صورة “المواطن”، أي الإنسان الذي تخلص من رواسب العبودية ومن نزعات الإستعباد التي تكون الصورة السلبية للشعور الديمقراطي.
فالديمقراطية إذن هو مشروع تثقيف في إطار المجتمع، يشمل الجانب النفسي والأخلاقي، والإجتماعي والسياسي. فهو ليس مجرد عملية سياسية أوعملية تسليم سلطات إلى الجماهيرأو إلى شعب يصرح بسيادته نص خاص في الدستور.
فالشعور الديمقراطي حينما يكون روح الشعب مشبعا به ويصير لديه سلوكا وثقافة لا يستطيع جبار ولا مستبد أن يلغيه مهما حاول!
إن البلد الذي أقيم فيه وهو بلد هولندا يتمتع بحياة ديمقراطية ممتازة. وهذه الحياة الديمقراطية لا يحميها النص الدستوري، بل تحميها تقاليد الشعب الهولندي ذاتها وعاداته وأوضاعه النفسية وعرفه الإجتماعي، أي يحميها ما يمكن أن نسميه الروح الهولندية بالذات.
فالديمقراطية ليست في جوهرها عملية تسليم السلطة للشعب، بل هي تكوين شعور ذاتي واجتماعي، يشكل الأساس للديمقراطية قبل أن ينص عليها أي دستور. والدستور ما هو إلا النتيجة الشكلية للمشروع الديمقراطي عندما يصبح واقعا سياسيا توحي به ثقافة الشعب وتقاليده أو بعبارة أخرى المبررات التاريخية التي دلت على وجوده.
فهذه النبذة التاريخية عن المسار الديمقراطي في أوروبا تعطينا صورة واضحة عن تنمية الشعور الديمقراطي في ضمير الشعب. فمشكلة الديمقراطية في العالم العربي هي مشكلة الإنسان قبل أن تكون مشكلة سياسية. وإذا لم يكن الإنسان محصنا ضد الإستبداد والفساد فلن تتحقق الديمقراطية وتبقى مؤسسات الدولة معرضة للمستبدين يعبثون بها ويعيثون فيها فسادا ولا أحد يوقفهم عند حدهم!
فحل الديمقراطية في العالم العربي مرتبط بتغييرنظرة الإنسان إلى الوجود، أي مرتبط بكرامة الإنسان وحريته. ولن نجد في الثقافة العربية الإسلامية نصا يقر بكرامة الإنسان أفضل من هذا النص القرآني: “ولقد كرمنا بني آدم” الذي يدل على تكريم الإنسان في أعظم صوره، أكثر من الحقوق والضمانات، هو الشرط الأساسي للتعبير في نفس الفرد طبقا للشعور الديمقراطي سواء بالنسبة للأنا أم بالنسبة للآخرين. ولكأن النص بهذا التكريم جاء ليقر دستورا ديمقراطيا يعلو على كل النماذج الديمقراطية الأخرى.
والعبرة ليست في المفردات ولكن في معناها، المعنى الذي يعبر عن شعور الإنسان نحو نفسه ونحو الآخرين. والإنسان الذي تشربت روحه شعور تكريم الله له فلا بد من أن يشعر بوزن هذا التكريم في تقديره لنفسه وتقديره للآخرين لأن النزعات السلبية المنافية للشعور الديمقراطي تبددت في نفسه. وهذا الإنسان لا يسمح لأحد أن يكون وصيا على عقله وكما لا يسمح لنفسه أن يكون وصيا على أحد. “تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين”. هذا النص يكمل عمل نص التكريم، يشير إلى الحاجزين اللذين وضعا في طريق الإنسان المسلم، عن اليمين والشمال، كي لا يقع في مطبة العبودية أو مطبة الإستعباد.
خلاصة القول إن الإنسان العربي المسلم محفوظ من القوى السلبية المنافية للشعور الديمقراطي بفضل ما وضع الله فيه من تكريم وتشريف ومعالم ترشد حياته وتحفظه من آفة العبودية والإستعباد، وتمنحه العزة الموهوبة ولا تعرضه للكبرياء لأن العزة التي ينشدها لا علاقة لها بالدنيوي والمادي وإنما هي عزة سمو الأخلاق.
وهذا الإنسان حينما يتولى مسؤولية يؤديها بأمانة وصدق وتفان، يضع مصلحة الشعب فوق مصلحته، لا يعرف شيئا يسمى محسوبية والتلاعب بمصير المواطنين ذلك أن كل الدوافع السلبية التي من شأنها أن تدفعه إلى مثل هذه المطبات بطريقة أو بأخرى، يتغلب عليها بالشعور الإيجابي الذي وضعت في نفسه بذوره بصفته مسلم.
وعليه فإن فكرة الديمقراطية عندما تتمكن من نفس الإنسان تغير نظرته إلى العمل وإدارة الشأن السياسي وتصير عنده قناعة أنها وجدت لتضمن التعددية في المجتمع وضد الوصاية الأخلاقية والإحتكار للحقيقة لأن الحقيقة نسبية لا يملكها أحد إلا خالق الكون!
الديمقراطية مشروع تربوي ثقافي يؤسس لمناخ يسمح للمجتمع بالتعبير والرأي.. والرأي الآخر. فهذه القيم عندما تصير سلوكا لدى الإنسان، ساعتها نقول: إن الديمقراطية صارت أسلوبا للتداول على السلطة سلميا ولا أحد يسمح له ضميره بالتطاول على مكتسبات الشعب ومؤسسات الدولة كما حصل في مصر وتونس!
بدأنا هذا المقال بعبارة الحفناوي التونسي الذي كان له أمل في الشباب التونسي لتحقيق ما لم يستطيع جيله تحقيقه وأما كاتب هذا المقال فله حلم تحقيق التغيير الديمقراطي في العالم العربي الإسلامي إذا سعينا جاهدين لفهم أولا قوانين التغييرالديمقراطي ثم إحداثه في نفس الإنسان وعقله.
المراجع:
كتاب تأملات: إصدار ندوة مالك بن نبي، محاضرة الديمقراطية في الإسلام، ألقيت بنادي الطلبة المغاربة سنة 1960، من منشورات دار الفكر.
كتاب الٌقرآن:
سورة الإسراء (آية 70)
سورة القصص (آية 83)
*كاتب مغربي مقيم في هولندا
تعليقات الزوار ( 0 )