شارك المقال
  • تم النسخ

الذكرى المئوية لانتصارات أنوال(15): ما حقيقة المجتمعات التي لا تحترم أفكار أبنائها؟

  • لماذا وافقت الأحزاب الوطنية على الاستقلال الناقص؟ من المعروف أن محمد بن عبد الكريم كان له موقف مخالف لنتائج محادثات أيكس ليبان بفرنسا سنة 1955، التي نجم عنها استقلال المغرب المبتور من أطرافه في الشمال كما في الجنوب، (الجيوب والجزر في الشمال والصحراء في الجنوب)، الذي نص عليه إعلان الاستقلال في 2 مارس 1956. عارض الخطابي تلك المحادثات، التي نجمت عنها وحدة منقوصة للتراب الوطني، أو استقلال غير الكامل للمغرب.  

         نعرف أن معارضة الخطابي للاستقلال غير الكامل كان سببا كافيا لقيام حزب الاستقلال، بزعامة علال الفاسي ومن معه، بقمع المتعاطفين مع رؤية الخطابي، وخطفهم وتصفيتهم جسديا. هناك عدة شهادات مكتوبة، منها شهادة التجكاني عن معتقل دار بريشة بتطوان، الذي خرج منه حيا. وصدرت شهادة أخرى، قبل سنوات قليلة من الآن، في كتاب حمل عنوان غريب “الهيئة الريفية”، الذي اعتمد فيه أصحابه على محاضر الاستنطاق المنزوعة من المختطَفين، أو كتبت بأسمائهم بعد اغتيالهم.  

          أما الأمور التي أشيعت على الخطابي يومها لتشويه صورته لدى المغاربة وتفويت الاستقلال الناقص من أجزائه، فركزت على أن: 

      محمد بن عبد الكريم كان يتآمر على الملك من أجل إعلان الجمهورية، 
    لماذا وافقت الأحزاب الوطنية على الاستقلال الناقص؟   محمد بن عبد الكريم كان ضد الوحدة الترابية للمغرب! روّجوا لهذا في الوقت الذي قبلت فيه الأحزاب السياسية باستقلال المغرب دون صحرائه في الجنوب، ودون طرح الجيوب المحتلة في الشمال. ومعروف أن الصحراء كانت تابعة للمغرب الخليفي، أي لخليفة السلطان في تطوان، واعتبروا أن نداء الرجل من القاهرة سنة 1957 الذي أعلن فيه “أن المغرب لا يستطيع أن يعيش بدون صحرائه” مجرّد مناورة من شيخ خرف. 

        أشيع بقوة يومها بأن الخطابي محمد رجل قد هرم ووصل أرذل العمر؛ ومن ثمة لا يمكن أن يُعتدّ بما يصرح به، ولذا وجب التنكيل بالذين يستمعون إليه … إلخ. 
    لماذا وافقت الأحزاب الوطنية على الاستقلال الناقص؟     ولتبرير الأحزاب السياسية لتقاعسهم على تحرير الوطن، كانوا يروجون بقوة، بين أنصارهم، وفي المهرجانات الحزبية، بأن الرجل فاقد للحكمة السياسية الضرورية لمسايرة سياسة المملكة الجديدة.  

         والمغاربة يدركون اليوم كم كانت رؤية الخطابي صائبة، ومنهجيته الوطنية صادقة وناجعة؛ لأن المغرب، من البلدان القلائل جدا، التي لا تزال أطراف منه في الشمال مستعمرة مثل مدينتي سبتة ومليلة والجزر المحاذية للبر المغربي على طول الشاطئ المتوسطي. كما أن المغاربة لا يزالون يدفعون ضريبة عدم تحرير صحرائهم في الجنوب يوم إعلان الاستقلال. وكان قادة جيش التحرير المغربي متعطشين لتحرير الصحراء، لكنهم لم يريدوا مخالفة تعليمات فوقية. ( انظر مثلا الغالي العراقي، ذاكرة نضال وجهاد، ص 178 و ص 235).  

      ما حقيقة إنكار مرجعية السابقين في قومهم؟  

      والواقع، أن الموقف السلبي لجماعات العمل السياسي الوطني من تجربة الخطابي، ورأيهم في إنكار أهمية التجربة الوطنية التحريرية للخطابي ورفاقه في مقاومة الغزاة؛ قد تنطبق عليهم المقولة البليغة “لا أحقية للعاملين السابقين في قومهم ولا كرامة”، وأنهم يفضلون العمل بالمثل القائل: “الله ينصر من أصبح ولو كان من أكلة الخنازير”، وأن غايتهم تكمن في ملء بطونهم، وأنهم لا حرج لديهم في تسليم مصير أوطانهم لغيرهم. 

    وفي هذا السياق أكد المؤرخ عبد الله العروي في كتابه “مجمل تاريخ المغرب” أنه حين طرح على زعماء الحركة الوطنية سؤالا يخص الصورة التي احتفظوا بها عن عبد الكريم الخطابي؟ فإن عناصر أجوبتهم المشتركة لم تكن تحمل تحليلا سياسيا، أو أي إشارة إلى مكانته كسند مرجعي لوطنيتهم السياسية، بل كانت تتمحور على أنه: بطل أسطوري نجح في التغلب على الجيش الإسباني بوسائل بسيطة. وهذا معناه أن الجانب العسكري، الأسطوري والعاطفي، هو ما كان يسيطر على آرائهم. (العروي، مجمل تاريخ المغرب، ص 109). 

     لكن، والحمد لله، ثم حمدا لأهل العقل السليم والفضيلة الأخلاقية، أن أحقية العاملين كان لها صداها عند عقلاء البشر وحكماء الشعوب في العالم، عكستها مواقفهم المعلنة في أصقاع الدنيا؛ حيث وثقتها كتاباتهم، وصحافتهم الحرة، ونوه وأشاد بها المتحررون من النزوعات الاستعمارية. ونشير هنا، بصفة خاصة، إلى بعض الصحافة الأوروبية والأمريكية، وإلى بعض الصحافة في البلاد الإسلامية والعربية، التي أجمعت على أن أهم دوافع الخطابي لمقاومة الغزو الأجنبي هي روح الكبرياء الوطني، الذي كان يحتدم في صدره وفي صدور رفاقه. 

     وعلى الرغم من تساؤلات العروي وانتقاداته الصريحة أو المبطنة لجماعات العمل الوطني فيما يخص الصورة التي رسموها لحركة الخطابي التحريرية والتحديثية، وعلى الرغم من تمنياته على المغاربة السياسيين تصحيح أخطائهم من أجل إعادة بناء المغرب المهدوم، فإن البعض وجه نقدا إلى آرائه. فالكاتبة زكية داود انتقدت الصورة التي رسمها العروي للمقاومة التي قادها عبد الكريم الخطابي، ورأت أنها أقرب ما تكون متطابقة مع صورة المدرسة الفرنسية الرسمية؛ حين ذكرت أن العروي رأى في الخطابي مجرد متزعم من متزعمي ثورات الفلاحيين، فهو لم ير في حركته التحريرية إلاّ شكلا “من أشكال الثورة البدائية التي لم يربطها بالمقاومات السياسية المقبلة في المدن” حسب تعبيرها. (زكية داود، عبد الكريم ملحمة الذهب والدم، ص 333). وتسجل عليه الكاتبة عبارة “الثورة” بدل المقاومة، وعبارة “البدائية” بدل العصرية أو الوطنية. ثم أنه لم يُحمّل نخب المدن مسؤولية تخلفهم عن عدم التفاعل مع حركة المقاومة التي قادها الخطابي.  

    ومن بين ما نبهت إليه زكية داود في كتابها “عبد الكريم ملحمة الذهب والدم” أن الخطابي، زيادة على كونه قائدا لحركة تحريرية من الاستعمار مثيرا للإعجاب، سعى إلى

1 – التجديد السياسي، بتجاوز أنظمة وأساليب حكم مستمدة من قرون الانحطاط، إلى نظام سياسي يستمد عناصر قوته ونجاعته من التفاعل مع التطورات المستجدة في العالم،    

2 – التجديد الثقافي القائم على الاجتهاد والتحديث، والتجاوب مع تبدل الأحوال كمنهجية تاريخية ضرورية، عوضا عن ثقافة الروابط الجماعية التقليدية التي تجاوزها الزمن الحديث، وتطوُّر المجتمعات الإنسانية المعاصرة؛ كالروابط القبلية، والروابط الجماعية التي يرسمها شيوخ طرق صوفية شعبوية، والخضوع غير الإرادي لتقاليد اجتماعية بالية،  

3 – نشر الشعور بالانتماء إلى الأمة، وبأحقية الولاء للوطن دون غيره. والدعوة إلى التمرد على التقوقع في أزمنة ثقافية لا تساير التقدم والتطور. وكان الطريق إلى ذلك، حسب الكاتبة زكية داود، يستلزم وجود اقتناع عملي بأفكار التجديد والاجتهاد والتحديث، تماهيا مع الخطابي، الذي وصفته بأنه “كان حداثيا أكثر مما ينبغي”، قبل أن تسجل أنه، ربما، كان هذا ما قصده بقوله لجريدة المنار القاهرية سنة 1926 عقب نهاية المقاومة: “لقد جئت قبل الأوان”. 

   وترى الكاتبة أن من جملة ما يُستخلص من تصريحات الخطابي، أن هزيمته لم تكن أمام جيوش الغزاة الاستعماريين بقدر ما كانت أمام ركود وجمود الروابط الجماعية للمغاربة، وعجزهم على تجاوز سلطة شيوخ الزوايا والطرق الصوفية الشعبوية، أو الإخوانية، المسيطرة على معتقدات أغلب المغاربة، مستغلة الشعار الصوفي، القائل: “من لا شيخ له فالشيطان شيخه”. الأمر الذي جعل العلاقة بين التابع والمتبوع، او بين المريد وشيخه، كعلاقة “الميت بغاسله”. وقد استفادت الدوائر المخزنية، وفقهاؤها من تلك العلاقة، لكي تجعل المغرب يتخلف عن التاريخ المتميز بالزمن الحركي.  

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي