Share
  • Link copied

الذكرى المئوية لانتصارات أنوال (الحلقة 13) الخطابي بين إهمال المغرب واهتمام المشرق

ذكر عبد الله العروي، في مداخلته بندوة باريس التي أشرنا إليها فيما سبق، إلى دهشة الزعيم علال الفاسي في القاهرة، أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، حين لاحظ أن جميع القادة الوطنيين، القادمين من الشرق الأوسط، السوريين والعراقيين على وجه الخصوص، كانوا يعترفون علنا بما يدينون به ثقافيا وسياسيا لعبد الكريم.  

وهنا يجب التذكير بأن اللجنة الدولية التي كانت تقود المطالبة بتحرير الخطابي ومن معه من منفاه في لارينيون، رأسها المفكر السوري محب الدين الخطيب (تـ 1969)، دون أن يكون أي مغربي في صفوفها. ومن المعلوم أنه في مرحلة لجوء الخطابي إلى مصر زاره عدد لا يحصى من الشخصيات الإسلامية والعربية، بل الإفريقية والأسيوية، وكتبوا انطباعاتهم عما شعروا به بعد لقائهم بالرجل. ولعل ما دونه الكاتب السوري المعروف قدري قلعجي، (تـ 1985) مؤلف كتاب “الثورة العربية الكبرى” وكتاب “ثمانية من أبطال العرب”، قد يقربنا من مضمون انطباعات كثير من زواره، عندما كتب، عقب التقائه به، قائلا: “إني لقيت رجلا كأحد صحابة الرسول تَقِيا ووَرَعا وأخلاقا”. (ثمانية من أبطال العرب، ص 195.) وعلى عكس صورة الخطابي في المشرق سجل العروي أن ما كنا نلحظه في المغرب هو: “أن الزعيم الريفي لم يكن يثير الاهتمام في المغرب”.  

“فزاعة” جمهورية الريف       

ويختبئ عدد من المنتمين أو المنخرطين في الأحزاب السياسية، حتى الآن، بما فيها ما يحمل اسم “أحزاب الحركة الوطنية”، أن الخطأ الكبير القاتل لمحمد بنعبد الكريم أنه أعلن جمهورية الريف، وهو يحارب إسبانيا. والبعض يطلق عليها صفة “الجمهورية الريفية”. وعلى الرغم من الفرق الشاسع بين صفة “جمهورية الريف”، وبين صفة “الجمهورية الريفية”، فإن هؤلاء لم يقولوا للمغاربة وللعالم ما هي الصفة التي كان يجب على الخطابي أن يحارب بها الغزاة؟ هل كان يجب أن يحارب باسم سلطان المغرب؛ وهو خاضع للاحتلال بتوقيع ما سُمي “معاهدة الحماية”؟ وهل كان على الخطابي أن يحارب باسم السلطان على الرغم منه. ومعروف من أن السلطان كان يطلق الصفات البذيئة على الرجل وعلى المقاومين؟ وهل كان على الخطابي أن يحارب بوصفه شيخ قبيلة، لكي يؤكد النمط الذي كانت تُروّج له البروباغاندا الاستعمارية، وزعمها بأن الاستعمار هيأ “تحضير” الشعوب البدائية والفوضوية؟ أم أن عبد الكريم يستحق كل اللوم لأنه لم يَنظَم إلى المجنسين والمحميين، وأنه بشّر بقرب زوال الليل الاستعماري عن الشعوب؟  

   أسئلة كثيرة لن تبقى بلا أجوبة. لكن التاريخ يشاء أن يحدث لفرنسا، بعد 14 سنة فقط، أي في عام 1940، أمر يكاد يكون مماثلا لما حدث للمغرب، حين أعلن شارل دوغول، المقاوم الوطني الفرنسي والهارب إلى بريطانيا من أجل تحرير وطنه، حين أعلن من هناك أنه “فرنسا الحرة”. وقاد المقاومة ضد الاستعمار الألماني، الذي تعترف به حكومة فرنسا الرسمية في مدينة فيشي الفرنسية، برئاسة الجنرال بيتان، الشهير بدوره في تحرير فرنسا في الحرب العالمية الأولى.  

    ولم يقم الفرنسيون الوطنيون بنقد دوغول، أو اعتبار ما قام به عملا ضد الدولة الفرنسية الرسمية، بل أن أحزاب الحركات الوطنيات المغربية حسبوا عمل دوغول عملا بطوليا، ليس فيه أي تهور كـ”التهور” الذي الصقوه بالخطابي حين راح قبله يقود تحرير وطنه!!!  

        مما لا شك فيه أن جمهورية الريف كانت ضرورة سياسية للتفاوض مع الأعداء؛ لأن أي حرب لا بد أن تنتهي بانتصار أحد الطرفين، أو بالتفاوض بينهما. ولهذا يجب أن تكون هنالك هيئة مرجعية للتفاوض؛ وإلا ستكون حرب قبَلية، أو هي تعبير عن مزاج شخص معين، كما كان يدعي الاستعمار وأعوانه. 

 ويظهر من هذا التحليل أنه لم يكن بمقدور السلطان، الواقع تحت شروط عقد الاحتلال، (عقد الحماية)، أن يفاوض المحتلين، بل كان عليه أن يساند المعمرين بالرغم منه. (راجع الفصل الثالث من كتابي، عبد الكريم الخطابي التاريخ المحاصر). 

      غير أن أصحاب المصالح الشخصية، الذين تعودوا الأكل الدسم على جميع الموائد، لم يروا لديهم مانعا، وإلى الآن، أن يمزجوا على موائدهم وفي صحونهم بين لحم الظان والخنزير، ولا يخجلون أن يختبؤوا وراء اتهام الخطابي بالخروج على السلطان، يوم أعلن كيانا سياسيا مستقلا عن إحراج السلطان؛ ولم تكن لديهم الشجاعة ليقولوا لنا بأن فرنسا كانت هي الدولة الحاكمة، وأن المغرب كان قد أمسى مجرد “إيالة” تابعة لها، كما جاء في خطاب السلطان مولاي يوسف في باريس بتاريخ 14 يوليوز 1926. 

      وعندما تُعرض على الوطنيين السياسيين رسائل الخطابي إلى السلطان مولاي يوسف، ولو بواسطة ليوطي الحاكم الفعلي للمغرب آنذاك، التي يؤكد فيها اعتبار الريف جزءا من المغرب، ويؤكد فيها ولاءه للسلطان؛ (عبد الكريم الخطابي التاريخ المحاصر، ص 163)، فإن المنبطحين للاستعمار وورثة ريع السلطة عن فرنسا، يتشبثون بأحكامهم الجاهزة وبأهدافهم في محاربة الوطنية التحريرية.  

       ويبقى موقف الزعيم علال الفاسي في كتابه” الحركات الاستقلالية في المغرب العربي”، موقفا مختلفا عن مواقف أغلب جماعات الوطنية السياسية “الدستورية”. إذ فضل أن يلخص موقفه في قبول عبد الكريم الخطابي لجمهورية الريف بأن الرجل فضل أن يتخذ على ذمته كل نتائج عمله، دون أي إحراج للسلطان. ويظهر أن موقف عبد الله العروي من قضية جمهورية الريف يبدو قريبا من موقف علال الفاسي، بل متوافقا مع تبريره لإعلان جمهورية الريف. ويستند في موقفه على الاعتقاد بوجود مزيج دقيق بين كلمة “جمهورية” بمفهومها الإداري الحديث، وبين المفهوم التقليدي الشائع الذي تحمله الإمارة عند المسلمين. كما نجد كثيرا من التقاطع بين العروي وتأويل عبد الرحمان اليوسفي، في مداخلته بندوة باريس سنة 1973، الذي اعتبر جمهورية الريف بمثابة “جمهورية فدرالية لقبائل الريف”، وأن ما كان يميزها عن مضمون الاتحاد الفدرالي المعروف للقبائل، هو مؤسساتها المنتخبة ديمقراطيا، والمستقلة عن بعضها البعض. 

       ولخص العروي العلاقة بين الخطابي وجماعات العمل السياسي أو الحركات الوطنيات، أن المجموعة، التي خلَفت الحركة الوطنية التحريرية، أغفلت تركة التجربة الريفية، ما بين 1926 و1947، بحيث لم يظهر في أدبياتها أي تعامل في أدوات نضالها، أو استئناس في اختيار منهجياتها لتحقيق شعار الاستقلال، أو خطط ذاتية لبناء الدولة الوطنية. ومعلوم أن الحركات الوطنيات السياسية المغاربية، وليس المغربية فحسب، لم تهتم بالخطابي إلا بعد لجوئه إلى مصرفي مايو 1947، من أجل استغلال سمعته في العالم ضد الاستعمار وليس بمنهجه. وفقا لما ذكره الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة في الندوة الباريسية نفسها.  

وتستمر الفزاعة في عهد الدولة الوطنية، ويتم الإبقاء على الخطابي منفيا، حيا وميتا إلى الآن (2021) خارج تراب الوطن، رغم الوعود التي قدمتها هيئة الإنصاف والمصالحة. والغريب أنه لم يتم الاكتفاء بالانتقام من صانع انتصارات أنوال وأخواتها، الذي قرر طرد قائد الاحتلال وصاحب اللطيف الفاسي المارشال ليوطي من المغرب بعد معركة البيبان في 1925 فحسب، بل سلطوا التهميش والحرمان شبه الكلي على المنطقة التي تكونت منها حكومة الريف المنتخبة، ونشأت فيها بوادر الحداثة السياسية. والسؤال الذي يطرحه الكثير من المغاربة: هل كانت فرنسا بريئة من ممارسات مغرب ما بعد الاستقلال بشأن الخطابي بخاصة، وبشأن الريف والشمال بعامة؟ وما هو حكم التاريخ على إبقاء المغرب المستقل على أحد رموزه الكبار منفيا في حياته ومماته؟ وهل يكفي أن تردد الأجيال مع الشاعر عبد اللطيف بن يحيى: 

“دُفنتَ بعيدا عن وطنك 

بعيدا عن أحبائك 

لأن ذئاب الوطن.. يا أبتاه 

تخشى من رفاتك 

تخشى أن يصير قبرك دوحة 

نستظل تحتها 

تخشى أن يصير لوحة 

نعلقها فوق جدران المدينة 

لأنها تقول لهم ما ليس يعجبهم”؟  

أو لأنك يا أب المقومة التحريرية  

كنت تفعل في السياسة ما يغضبهم. 

Share
  • Link copied
المقال التالي