شارك المقال
  • تم النسخ

الذكرى المئوية لانتصارات أنوال (الحلقة 8): واقع المغرب والأمل في تدارك العطب

 يدرك المغاربة أن واقع بلدهم لم يكن فيه ما يطمئن على استعادة عافيته، فوضعه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي كان في أحلك ظروفه، خاصة بعد هروب نخبه الاجتماعية والاقتصادية والتجارية إلى الجنسيات والحمايات الأجنبية، واستفحال ديونه الأوروبية، الفرنسية بخاصة، وسياسة تجفيف منابعه المالية من طرف الدائنين. بالإضافة إلى الاتفاقيات المهينة للدولة المغربية خلال ستة عقود من الزمن بطرقة مكثفة. كان أولها اتفاقية طنجة 1844 وكان آخرها، وليس أخيرها، معاهدة الجزيرة الخضراء سنة 1906. الأمر الذي دفع السلطان عبد الحفيظ بالحتمية إلى توقيع معاهدة تسليم المغرب لفرنسا، الموصوفة بـ”عقد الحماية”، في 30 مارس 1912. 

والحال هذه، كان محمد بن عبد الكريم يحاول زرع بعض التفاؤل والأمل في النفوس، من خلال كتاباته في جريدة تِلِغراما الريف المليلية، لأن المغرب لم يكن يسمح بعد بصدور الصحافة. وكانت تلك الكتابات تتمحور، في غالبها، على إظهار ما أسداه المسلمون من معارف عقلية وعلوم نافعة لإسبانيا، وما حققوه لها من حضور علمي وتقدم حضاري سابق عن أوروبا زمن الأندلس. وفي المقابل، كان يدعو المغاربة إلى أنه في مقدورهم اليوم تجديد تفكيرهم بمساعدة إسبانيا العالمة؛ اسبانيا التي لم تكن لديها عقدة من كتابة لغتها القشتالية (الإسبانية الحالية) بالحرف العربي الذي كان سائدا في إسبانيا، قبل أن تكتبها بالحرف المشتق من اللاتينية. (حسين بوزينب، المورسكيون وقصبة الرباط، ص12). ولذلك كان شعاره الذي طالما ردده في كتاباته: “”أيها المسلمون، أصلحوا أنفسكم، حدّثوا بلدكم على النمط الأوروبي”.  ولم يكن له أي شرط بشأن حصول التعاون بين المغاربة والإسبان إلاّ أن يجري التعاون بين شعبين سيّديْن حرّيْن. وللتذكير فإن مطلب التعاون الحر بين شعبين متكافئين بقي ملازما للخطابي طوال حياته.  

ومن جانب آخر لم يكن محمد بن عبد الكريم من الذين يحمّلون مسؤولية الضعف الذي اعترى وضعنا للاستعمار وحده؛ فقد نُسب إليه قوله: “إن الاستعمار ليس سببا في ضعفنا وإنما هو نتيجة له”. ونعتقد بأن المفكر مالك بن نبي يكون قد اشترك معه في إدراك ضعفنا الذي ترجمه في كتابه “شروط النهضة”، الصادر سنة 1947. في مقولته الشهيرة “قابلية الاستعمار” (Colonisabilité)، أي لو لم تكن لدينا القابلية لما استُعمِرنا.  

 دعا محمد بن عبد الكريم أجيال المغرب الى تجاوز أوضاعها المحنطة في الانحطاط، التي نجم عنها تسليم المغرب لدولتين، وتسليم طنجة لإدارة دولية؛ ورأى أن هذا التجاوز لن يتم إلاّ بالتخلص من ثقافة التقاعس، والتواكل، والسلبية، والاستسلام لمعتقدات القضاء والقدر المخالفة لحقيقة الدين الإسلامي، وتشجيع الناس وتحفيزهم على الاستفادة من تقدّم العقل الإسباني في المجالات العلمية والاقتصادية؛ والدعوة إلى مسايرة تطورات الزمن المعاصر. 

التغيير يبدا بالصحافة والتعليم 

كان محمد بن عبد الكريم الخطابي يرى أن البداية تنطلق من محاربة سلوكيات الوعي الشقي التي كانت منشرة بين مختلف مكونات قادة الرأي العام المغربي حينذاك، والوعي الشقي يعني في منطقه أن تدعو إلى التطور وتضاد عمليا كل تطوير وتغيير في العمق. أما الوسائل المقترحة كبداية للمساعدة على استعادة الوعي بالواقع المغربي المتخلف عن الزمن الفاعل من أجل تجاوزه كأفراد وجماعات اجتماعية، ينطلق من تغيير حقيقي في العقليات البالية، وأهم الوسائل التي اقترحها الرجل في هذا الشأن: نشر المطبوعات والصحافة والتعليم. هذا ما لمسناه أثناء نبشنا في بقايا المشروع المجتمعي، الذي كان محمد بن عبد الكريم ورفاقه قد أعدوه لإخراج المغرب من وهدته التاريخية، حتى يستطيع أن يلج عصر التجديد. 

نعلم أن الصحافة كانت بمثابة النقطة المضيئة، خلال القرن التاسع عشر، فيما أُطلق عليه عصر “النهضة” في الأقطار الناطقة بالعربية؛ لأن الصحافة مثلت الأداة المثلى لاطلاع المواطنين على ما مجريات الأمور في وطنهم، وعلى متابعة تطورات العالم ومتغيراته، من أجل التفاعل أو اتخاذ المواقف الضرورية لمواجهة الأحداث والأخطار كذلك، وإعداد رأي عام يناهض الاستسلام والقبول بحياة المهانة والمذلة. وكان الخطابي يدرك أن رسالة الصحافة اليومية لا يُستغنى عنها في توعية المجتمع وتأطيره وتنبيه الحاكمين.  

ويشهد تاريخ الصحافة في منطقة المغرب الكبير بأن المغرب الأقصى تأخر كثيرا عن إصدار الصحافة مقارنة مع جيرانه في الشرق. وبسبب ذلك كان هناك بون شاسع بين المغاربة والتونسيين والجزائريين في انتشار الأفكار الجديدة المسايرة لعصرهم. وقد نشرت جريدة “الحاضرة” التونسية، بتاريخ 19 يناير 1897، وصفا لعاصمة المغرب يومذاك، مدينة فاس بأنها “مدينة مغلقة أبوابها نحو التمدن… فلا مطمح حينئذ في تخريج أناس من هناك من ذوي مدارك واسعة”. ومن المعلوم أن الصحافة انطلقت في تونس سنة 1860 بإصدار جريدة “الرائد التونسي” التي لا تزال حية إلى اليوم بصفتها الآن “الجريدة الرسمية” للدولة التونسية.   

عرف الجزائريون، من جانبهم، الصحافة مع البدايات الأولى لاحتلال الجيش الفرنسي لعاصمتهم الجزائر في 1830. وشهد ثلثا القرن التاسع عشر نشاطا إعلاميا قويا للإدارة الاستعمارية ومستوطنيها. إذ بلغ إصدار زهاء 150 جريدة وصحيفة ومجلة باللغتين العربية والفرنسية. لكن الجزائريين لم يسمح لهم بتأسيس صحافة مستقلة عن الإدارة الفرنسية إلا في سنة 1882؛ حين أصدروا جريدة “المنتخب”، قبل أن تتلوها جرائد وصحف كثيرة، التي تولّت مهمة توعية السكان الجزائريين بحقوقهم، وتقديم سبل الدفاع عنها. 

  أما المغرب الأقصى فقد عرف الصحافة الفرنسية، بخاصة، منذ العقد الأول من القرن العشرين. لكن تجب الإشارة إلى أن أول جريدة أجنبية صدرت بمدينة طنجة، هي جريدة ” المغرب” سنة 1889، التي أصدرتها جريدة “تايمز أوف موروكو” الإنجليزية. في طنجة. ولم يسمح للمغاربة أن يصدروا جريدة مغربية – مغربية إلا سنة 1932 تحت عنوان “مجلة المغرب”، بعد أن خفت المقاومة المسلحة، عقب نفي محمد بن عبد الكريم إلى جزيرة لارينيون. ورغم ذلك لم يسمح لها بالصدور في المغرب وإنما في باريس. وفي سنة 1933 صدرت في فاس أول جريدة مغربية ناطقة باللغة الفرنسية تحت عنوان “Action du peuple“. 

أما التعليم، فقد أشرنا أعلاه إلى أن ابن عبد الكريم الخطابي بمجرد استقراره في مدينة مليلة توجه إلى ممارسة التعليم العصري المزدوج اللغة والثقافة، وأشرف في السنة الأولى من وصوله على تدشين مدرسة عربية – إسبانية موجهة لاستقبال أبناء المسلمين. وقد أفادت تلك التجربة الخطابي في إدراكه لأهمية التعليم الحديث في إحداث التحولات الاجتماعية الإيجابية.  

ونعتقد بأن موضوع التعليم كان موضوعا مركزيا في اهتمامات الخطابي وفي مقدمة خططه للتجديد والتحديث، وهو في أتون حرب التحرير أصر على تأسيس مدارس ومعاهد في بعض مناطق الكفاح، على عكس ما أشاعه عليه زعماء الحركة الوطنية السياسية من أنه لم يبن مدرسة واحدة. تناول مشروع الكتاب، الخاص ببرنامج التعليم عند الخطابي، نماذج من المدارس التي أسسها محمد بن عبد الكريم. (انظر الطيبي والإدريسي، التربية والتعليم في برنامج محمد بن عبد الكريم الخطابي، من ص 142 إلى ص 150).  

ونكتفي مؤقتا بتلخيص فلسفته التعليمية في النشيد المدرسي، الذي كان يبتدئ به التلاميذ يومهم الدراسي، ويرسم لهم في الوقت نفسه الهدف من العملية التعليمية. ومن بين ما كان ينشده التلاميذ كل صباح: 

هــيا بنا أهـل الـوطن       نحيي الفرائـض والسنن 

فالسعد في هذا الزمن       بالاجتهـــــــاد مع المنن 

هــيا بـنا نبــدأ الـعمل       فالوطن ضاع من الكسل 

والـعلم ضاع فـليـــتنا       متنــا فقد ذاعت الـــــفتن 

 فيارب، يانعم اللطيف       أعد يقظة الشرع الشريف 

 ومن أقواله التي كان يدلي بها في مختلف المناسبات: “إننا نحن المغاربة لا نستطيع أن نفعل مثلما فعلت الشعوب المتقدمة؛ طالما لم نشيد مدارس وطنية يتخرج منها الشباب الذي سيسير بنا إلى مدارج التقدم والمجد والكرامة”. 

*مفكر ودبلوماسي سابق

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي