شارك المقال
  • تم النسخ

الذكرى المئوية لانتصارات أنوال، الحلقة (10)مقاومة للعدوان وللتخلف، ومواقف

عرفنا فيما سبق أن الخطابي قام بتشخيص أسباب تخلف المغرب، وشيخوخته المعرقلة لانبعاثه ونهوضه، وأنه حاول إعداد خطط أو مشروع مجتمع من أجل ذلك، لأن الرجل لم يقاوم كمحارب فقط، بل كان صاحب أمل في تجاوز المغاربة لمخلفات إنسان ما بعد الموحدين.  

       الأمر الذي جعل المقاومة الريفية للاستعمار في نظر الملاحظين والمهتمين تتميز بصورة مخالفة لتلك الصورة النمطية المختزلة “في المواجهات العسكرية العنيفة… ضد محاولات الغزو الأجنبية” (بتعبير عبد الرحمان الزكريتي، ثقافة المقاومة بالريف، ص 16). فمقاومة الريفيين، إذن، لم تكن مجرد مقاومة للاستعمار فحسب، بل هي مقاومة لعوامل التدهور والتخلف والجمود، أو الدفع من الخلف.  

      وقيم الملك محمد الخامس مقاومة أهل الريف للعدوان والغزو الأجنبي، وأشاد بها في خطاب له بالحسيمة في شتنبر 1957، حيث أشاد ببطولاتهم، منذ العهود الأولى للدولة العلوية، ابتداء من آل أعراص، وآل الريفي الحمّامي التمسماني، وبخاصة القائد أحمد بن علي الريفي (تـ1743)[1] إلى الشريف أمزيان وعبد الكريم الخطابي وغيرهم من أبطال الريف. لكن ما أثار انتباهنا ونحن نستعرض مواقف محمدا الخامس من المقاومة المسلحة، أنه حين قابل الجنرال دوغول في باريس سنة 1945، بصفته رئيس حكومة فرنسا بعد الانتصار على النازية، لم يطلب منه رفع النفي عن محمد بن عبد الكريم، المنفي في جزيرة لارينيون منذ 1926، كما طالبه بإعادة كل من علال الفاسي وابن الحسن الوزاني المنفيين إلى بلهما المغرب، فكان له ما طلب.(الحسن الثاني، ذاكرة ملك، ص 2). ولا ندري إن كان عدم طلب محمد الخامس إطلاق سراح الخطابي من منفاه علاقة بما ذهب إليه، لاحقا، الملك الحسن الثاني في كتابه “التحدي”؛ حيث ذكر فيه أن ما حدث في الريف لم يكن أكثر من مظاهر الكراهية للأجانب، وأن الحرب التي دارت هناك لم تكن تدار لا من قبل المغاربة، ولا من قبل الإسبان، أو الفرنسيين؟ (ص 19 و 20).  

  ومهما يكن من أمر، فإن المغاربة اليوم يخلدون رموز وطنهم، بعد مرور عقود ودهور على تحمّلهم مسؤوليتهم الوطنية، ويحيون دعائم ذاكرتهم المشتركة، ويعتزون بوطنيتهم التي ضحوا من أجلها وبهويتهم الثقافية؛ ويعتبرون أن إحياء ذكريات المقاومة ورموزها هو استحضار للقيم الوطنية الرائعة، وترسيخ لثقافة الإقدام على حماية حرية الوطن وتجديد مسيرته بين الأمم الحية. ونعتقد بأن محمدا بن عبد الكريم الخطابي كان من بين رواد تجديد هذه المسيرة بواسطة مشروع مجتمع، الذي عرضنا بعض عناصره في الحلقة السابقة. ورأينا كيف بدأ في تطبيقه على الأرض، بقصد إخراج المغرب من وهدته التاريخية، وأن أهمية ذلك المشروع في ذاكرتنا الجماعية تكمن في الاعتزاز بقدرة المغاربة على التجديد والتحديث الذاتي؛ الذي برزت بعض مقوماته مواجهة الاستعمار الإسباني، ما بين 1909 إلى 1926، وفي تحديث البنيات الاجتماعية لكي تتجاوب مع طموحات المغاربة إلى التقدم والازدهار. وكانت انتصارات أنوال، واخواتها في الشاون وبني زروال، وفي كل الجبهات، إكليل فخر يطوّق أعناق الأحرار في المغرب، وكانت التحديثات نبراسا للشعوب المُستعمَرة لاستعادة وعيها بقدراتها الذاتية، وبجدارتها في صناعة تاريخها.  

القاسم المشترك لنخب سياسية من المقاومة  

بالنظر إلى تجربة الخطابي العملية على الأرض، وإلى تركته المتمثلة في مشروعه المجتمعي، نتساءل عن مواقف النخب المغربية التي ظهرت عقب توقف المقاومة المسلحة. ونخص بالذكر النخب السياسية المغربية في المنطقة السلطانية أو (المغرب الفرنسي وفقا لتسمية الاحتلال الفرنسي) والمنطقة الخليفية (أو المغرب الإسباني وفقا لتسمية الاحتلال كذلك)؟ 

 تفيد المعطيات المستقاة من أدبيات جماعات العمل الوطني، التي بدأت في الظهور منذ 1934 بالمنطقة السلطانية بأسماء مختلفة، منها كتلة العمل الوطني. وظهور “حزب الإصلاح الوطني” بالمنطقة الخليفية في أواخر سنة 1936، نفيد، أن القاسم المشترك بين كل جماعات العمل الوطني السياسي، فيما يخص تركة الخطابي هو عدم اهتمام أيّ منهم بتلك التركة؛ بدليل أن أي واحد منهم لم يتخذها سندا أو مرجعا لعمله السياسي، ولو على سبيل الاستئناس، بل أن تلك الجماعات لم تكلف نفسها، حتى بالسؤال على الرجل في منفاه الطويل بجزيرة لارينيون، للاطمئنان عليه وعلى وضع أسرته ومرافقيه، وكان الأليق بهم، بوصفهم “مناضلين” من أجل القضية الوطنية، إبداء التعاطف الوطني معه؛ لكنهم لم يفعلوا، كأن الرجل مذنب يستأهل النسيان أكثر من النفي؟؟  

    وحين انتشرت معلومات في الصحافة، عقب وصول الجبهة الشعبية إلى الحكم بفرنسا سنة 1936، تفيد أن الخطابي راسل الحكومة الفرنسية الجديدة مذكرا إياها بوعد الدولة الفرنسية بإعادته إلى بلده، بعد فترة قصيرة من الإبعاد. عير أن الحكومات السابقة لم تفِ بوعدها؛ وكذلك فعلت حكومة الجبهة الشعبية اليسارية. الأمر الذي أكد للخطابي صدق عبارته الشهيرة “الاستعمار ملة واحدة”. إلا أن الغرابة الكبرتمثلت في أن جماعات العمل الوطني هي كذلك لم تهتم برسالة الخطابي، بل أن الزعيم عبد الخالق الطريس، زعيم حرب الإصلاح الوطني في تطوان، ذهب إلى أبعد، حين شكك وأنكر وجود رسالة من الخطابي إلى الحكومة الفرنسية أصلا. وكان تعليله الإنكاري يقوم على أن الرجل يعيش هناك في بحبوحة من العيش، لـ”أن (حسبه) الحكومة الفرنسية خصصت له قصرا من أفخم القصور، وقررت له ماهية شهرية من ميزانية الدولة المغربية.” (محمد عزوز حكيم، أب الحركة الوطنية في الشمال… ج 4، ص 223). وكأن الوطنية وسعادة الحياة لا تعني شيئا أكثر من القصر والمال!!! علما، أن المغرب لم يخصص معاشا للخطابي إلا سنة 1961، حين زار محمد الخامس محمد بن عبد الكريم في منفاه بالقاهرة. غير أن الحسن الثاني سحبه منه المعاش في أواخر 1962.     

      وحسب علمنا، وعلم المغاربة الأحرار، فإن لا أحد من قيادات العمل الوطني السياسي، أو أحزاب الحركات الوطنية السياسية، لم يقم بزيارة الرجل في منفاه بجزيرة لارينيون، على مدى 21 سنة من المنفى هناك. عكس زعماء وشخصيات إسلامية من الهند وباكستان وأندونيسيا ومن والبلاد العربية. ونعلم أن شخصيات هندية وباكستانية وقفوا إلى جانبه في منفاه؛ فكانوا له عونا وسندا في تدبير معاشه، وفقا لشهادة أبنائه عبد الكريم وعبد المنعم وعائشة. أما المغاربة فلم يتصلوا به إلا سنة 1947، عقب قبول المملكة المصرية لجوءه إليها، أثناء نقله عبر البحر من منفى لارينيون إلى منفاه الجديد المقرر في فرنسا.

*مفكر ودبلوماسي سابق

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي